في وداع العالم الكبير د. عبدالله الطيب

في وداع العالم الكبير د. عبدالله الطيب

لا يسع السامع لحديث الراحل الكبير البروفيسور عبدالله الطيب, إلا الإنصات, إنصاتا ينسج من الشكل مضمونًا, ويتلبس مضمونه شكله. يحمل ملامح أهل السودان الشقيق بطيبة السكينة التي ما تلبث بواسع علمه, أن تصوغ لك من الفكر المعمّق بالتأصيل, استطرادًا محببا من سعة الأفق, وتعدد المعارف.

عرفته منذ أكثر من عقدين. شاءت الصدفة أن أستمع إليه لأول مرة متحدثا بالإنجليزية في جامعة كيمبردج البريطانية. دهشت لهذا التمكن اللغوي, مقرونة بثقة دعت الحضور لصمت التوقير, ورغبة الاستزادة من العلم والفهم.

وحينما التقيته زادت دهشتي, ورسخ إعجابي بشخصيته, وغزارة علمه, فهو كما نعلم عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ عام 1961, وأول رئيس لمجمع اللغة العربية بالخرطوم, ورئيس جامعة الخرطوم لسنوات عدة إلى جانب كثافة مؤلفاته.

توثقت الصلة بالدكتور الطيب وزوجته الفنانة غرازيلدا, ووجدتها فرصة لا تعوّض أن يتعرف عليه جمهور (دار الآثار الإسلامية) للاستفادة من علمه وفضله. ونظمنا له عددًا من المحاضرات في مواسم ثقافية عدة.

وبقدر ما أعطى الراحل الكريم من ثمرات وإنجازات علمية, بقدر ما تميز بالتواضع الجم, يقول في مقدمة سفره العظيم (المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها) والذي أنتجه في مطلع شبابه:

(وقلبي مفعم بالرجاء أن ينتفع القارئ من هذا الجزء الذي أتقدم به ويستمتع. ولا أدّعي أنني قد جئت فيه بجديد مبتكر, فالقارئ - أصلحه الله - يعلم أن زهيرا كان صادقًا حين قال:

ما أرانا نقول إلا معادا أو معارا من قولنا مكرورا


من هذا كان لـ (دار الآثار الإسلامية/وزارة الإعلام الكويتية) شرف إصدار الطبعة الثالثة من هذا الجهد الأكاديمي والأدبي المشهود. أصدرنا الأجزاء الثلاثة الأولى عام 1989 أي قبل العدوان على الكويت بعام. وأصدرنا الجزء الرابع (بقسميه) عام 1996.

ولا ننسى ما كان يحمله د.الطيب في قلبه الكبير من ودّ وحبّ وتقدير للكويت وأهلها وعلمائها. وما تقدمه لساحة الثقافة من إنجازات مشهودة. كان يسعدنا دائما باستجاباته المرحبة بدعوات الكويت و(الدار). وقدر لمحاضرته التي قدمها عام 1999 أن تكون وداعا للكويت وأهلها.

وكم أشعر بالأسى والأسف لافتقادنا د.الطيب بيننا لكي يطالع ويستقبل أحاجيه السودانية التي أصدرناها أخيرًا بالإنجليزية تحت عنوان (قصص شعبية من شمال السودان) وكان قد دبجها بعربيته الجميلة بعنوان (أحاجي سودانية).

وتسترجع الذاكرة الزمن القريب عندما زرته وهو على فراش المرض في لندن.

وجدته قد ذهب في غيبوبة لم تذهب بوقار وجلال سمته. استقبلتني زوجته بأسارير مرحبة, واقتربت من أذنه تبلغه بحضوري, وطلبت منه أن يهمس بكفه علامة الإدراك.

وضعت كفي الحانية في كفه الواهنة, تلقى الرسالة في أناة, وانتظرنا الإجابة في قلق, أجاب بضغطة هينة, أسعدتني بقدر ما أدمعتني.

أدركت أنها اللحظة الفارقة بين الأولى والآخرة...إنها لحظة الفراق.

رحم العزيز الحكيم عالمنا الكبير, وجزاه الله عنا بقدر ما أعطى وأجزل, وعن أمته الإسلامية, والعربية, وبلده السودان - ولغته السمحة المعطاء خير الجزاء.

إنه نعم المولى, ونعم النصير.

 

الشيخة حصة صباح السالم الصباح