كتابة النقد السينمائي تيموثي كوريجان ترجمة: جمال عبدالناصر / عرض: حسن خضر

كتابة النقد السينمائي

لقد أصبحت الكتابة السينمائية بأنواعها المختلفة ضرورة ملحّة بالنسبة لدارسي السينما, فضلاً عن أهميتها للمشاهد غير المتخصص الذي يسعى دائمًا إلى توطيد علاقته بالفيلم كإحدى أهم وسائل الفنون التعبيرية الحديثة.

خلال العقدين الماضيين صدرت دراسات نقدية عدة متخصصة تولي اهتمامًا ملحوظًا بفن السينما ودارسيه في جميع أنحاء العالم, وبصفة خاصة في أمريكا وأوربا. وضعت جل هذه الدراسات نصب عينيها الارتقاء بعملية التذوق السينمائي لدى الدارسين والطلاب والأكاديميات ونقّاد السينما, بهدف تعميق الحسّ والفكر السينمائي لدى هؤلاء. ومن هذه الدراسات ذلك الكتاب المهم (مدخل إلى النقد السينمائي) الذي أصدره كل من (تيم باي ووتر) و(توماس سوبتشال) عام 1989, استعرضا فيه أبرز الاتجاهات النقدية بدءًا من النقد الانطباعي, مرورًا بالنقد التحليلي المنظّر لأجناس الأفلام وتصنيفها, انتهاء بالنقد الأكاديمي المتخصص.

وفي عام 1999 أكّدت مجددّا (إيلين بيشوب) في كتابها (الفيلم والكتابة النقدية في برامج التعبير اللغوي المعاصرة), أهمية (سبر أغوار السينما, ذلك الفن الأثير الذي توغل في كيان المجتمع في عصر التشابك الحضاري الإعلامي), بهدف تثقيف دارسي السينما فيما يختص بأصولها وسماتها والحركات التجديدية والتجريبية فيها.

وقد كان من الطبيعي أن يتزامن الاهتمام أخيرًا بالفيلم السينمائي ودارسيه, مع المكانة التي احتلتها السينما في قلوب البشر ووجدان الشعوب, خاصة أن الفيلم السينمائي يعد واحدًا من أهم وأضخم السبل الإعلامية تأثيرًا, بما لا يمكن معه تجاهل هذا الفن بحال من الأحوال, لاسيما في عصر المرئيات والمعلوماتية هذا. إنه المعنى نفسه الذي أكّد عليه كل من (جون هل) و(باميلا تشرش جيبسون) في كتابهما الرائد, الصادر قبل عامين (دليل أكسفورد للدراسات السينمائية).

ما يهدف إليه الكتاب

وفي كتابه هذا (كتابة النقد السينمائي) يضع (تيموثي كوريجان) بين أيدي طلاّب أقسام الدراسات السينمائية منهجًا مبسطًا يمكن الاتكاء عليه عند التعامل النقدي مع الأفلام, من خلال كتابة المقالات والدراسات جيدة الصنع, عالية التركيز. ويستهل كوريجان كتابه بطرح أسئلة مهمة عدة تتعلق بمدى فهم الفيلم تمامًا, وتدوين الملاحظات الدقيقة التي تحقق لصاحبها الخصوصية في رؤيته للفيلم, ثم أهمية النظر إجرائيًا في المقال بدءًا من فقرته الافتتاحية, التي يجب أن تهيئ القارئ لاستقبال الوارد بعدها. ثم ضرورة انتقال الفقرات بسلاسة من نقطة إلى أخرى داخل الفكرة الكلية للمقال, وأهمية التحوّل الصائب من الجمل إلى الفقرات ومراعاة الكاتب للقدرة التعبيرية لكل جملة على توصيل ما يريده من معنى وأفكار, في دقة ويُسر, وتدعيم آرائه بإشارات, أو أمثلة, أو غيرها من سبل الإيضاح.

أبعاد ثلاثة

وبهذا المعنى السابق, يمكن اعتبار هذا الكتاب النوعي مدخلاً إرشاديًا مهمًا إلى إطار نظري مبسّط, يستهدف بالأساس طلاب فن السينما, ودليلاً موجزًا لكتّاب النقد السينمائي, يمكنهم الاعتماد عليه عند الشروع في قراءة وفهم وتحليل الأفلام, أو عند التعامل معها نقديًا. ويحدد كوريجان هدف كتابه في أبعاد ثلاثة, أولها: توفير الوقت لمعلّم السينما الذي يبسّط مظاهر التعقيد في ذلك الفن وفي صناعة السينما, وهي صعبة بالنسبة لكتابة الطلاب عنها.

أما الهدف الثاني, فهو التقليل من قلق الطلاب المتعلق بالكتابة عن الفيلم السينمائي, بتوضيح النقاط التي يعتقد أساتذتهم أنهم قد استوعبوها. ويهدف الكتاب أخيرًا إلى ملء الفراغ بين دلائل الكتابة النقدية وكتب الدراسات السينمائية.

وفي (المدخل إلى كتابة النقد السينمائي) يؤكد كوريجان على أن الأفلام جزء من حياتنا الثقافية, كما أن نجوم السينما صاروا أبطالاً أسطوريين ورجال سياسة. فنحن نتفاعل مع الأفلام بشكل شخصي أو عام, دون الشعور بحاجة ملحّة إلى الكتابة عنها, ربما نتحدث عن بعض الشخصيات بعد مشاهدة فيلم في قاعة السينما, أو في البيت, أو عن موسيقى الفيلم والمشاهد التي أعجبتنا, أو لم تعجبنا فيه, ولكنه (من النادر أن نقدم رؤيتنا تلك في صورة تحليل مطوّل عن تفاعل الموسيقى والديكور مثلاً). إن القدرة على الاستجابة ببعض من الوعي النقدي تضيف إلى جماليات التجربة الفنية, وهو ما ينطبق بشكل كبير على استمتاعنا بالأفلام الذي نحصله بطرائق مختلفة وكثيرة, وفي رأي كوريجان أنه إذا كانت المشاهدة سبيلاً للمتعة (فإن الكتابة النقدية سبيل آخر أكثر إثارة).

الجمهور والنقد السينمائي

يتناول كوريجان علاقة الجمهور بأغراض النقد السينمائي, الذي يجب أن يحقق فهمًا أفضل لتجاوبنا مع الأفلام, وإقناع الآخرين بما نحب ولا نحب فيها, فضلاً عن أهمية أن تقدم المقالة النقدية شيئًا يسيرًا عن الفيلم, أو المخرج, أو حتى عن مجموعة الأفلام التي تتناولها, والتي قد لا يعرف القرّاء شيئًا عنها من قبل. وبالرغم من تسليم كوريجان بأن هذه الأغراض السابقة, وغيرها, تتراوح في الأهمية اعتمادًا على جمهور المتلقين, فإن ما يكتبه الناقد أو المحلل السينمائي, لابد أن يتأثر بفكرته هو عن المتلقي, عمّا يعرفه أو يريد معرفته. فعند مناقشة فيلم أمريكي مع قارئ غير أمريكي, فإن طريقة طرح الرؤية الخاصة بالفيلم سوف تتأثر - على سبيل المثال - بما يُعتقد أن ذلك الشخص يعرفه أو يريد معرفته عن الثقافة الأمريكية. وعن الفيلم نفسه, كذلك عند مناقشة فيلم مع قارئ لم يشاهده, فإن وصف الناقد للفيلم سوف يتحدد بناء على مدى اقتناع هذا القارئ بضرورة مشاهدة الفيلم أو عدم مشاهدته. ويضرب كوريجان أمثلة عدة تشير إلى, أهمية كتابة النقد السينمائي, وتؤكدها.

فروق موضوعية

يفرق كوريجان بصورة موضوعية بين (العرض النقدي) ذلك النوع من التحليل السينمائي الذي أصبح شائعاً ومألوفًا في الصحف الفنية, و(المقال النظري) الذي يتناول العلاقة بين الفيلم وواقع حياة الناس سياسيًا وأيديولوجيًا, أو يتناول أوجه الشبه والاختلاف مثلاً بين قصة الفيلم والقصة الأدبية التي أُخذ عنها. ومثل هذا النوع النقدي الأخير (يفترض كاتبُه مسبقًا أن القارئ ذو دراية كافية عن أفلام بعينها, عن تاريخها, وعمّا كُتِب عنها).

أما المقالة النقدية (التطبيقية), فهي شيء ما بين العرض النقدي والمقال النظري, حيث يفترض كاتبها أن مَن يتوجه إليه قد شاهد الفيلم, أو أنه ملمّ على الأقل بشيء عنه, حتى وإن لم يكن قد شغل تفكيره من قبل. والكاتب في هذا النوع التطبيقي معفى من إعادة ذكر قصة الفيلم بشكل - في رأي كوريجان - قد يبعث على الملل, بل يصبح الكاتب معنيًا أكثر هنا بكشف مناطق الإبداع والجمال, كأن يركز على مشهد ببداية الفيلم, أو زاوية كاميرا مسلّطة على شخصية بعينها, أو الديكور والملابس, أو الموسيقى التصويرية, وما إلى ذلك من جوانب فنية قد تفوت على المشاهد ملاحظتها أثناء مشاهدة الفيلم, أو لاحظها لكنه لم يكتشف أبعادها الفنية وعمقها قبيل قراءة المقال التطبيقي, الذي لابد أن يضيف بعدًا جماليًا جديدًا لعملية المشاهدة.

ويؤكد كوريجان على موقف مبدئي يتعلق بموضوعية التناول النقدي أيّا كان المنهج أو الأسلوب الذي يتبعه الكاتب, فلن يرضى القارئ بكتابة ناقد يوظف آراءه الشخصية أو الذاتية, ويحكّم هواه بغرض تجنّب أو إخفاء موقف نقدي محدد, ويقول كوريجان (علينا معشر النقاد أن نجعل من مشاعرنا الذاتية وتوقعاتنا وردود أفعالنا مجرد تمهيد لمقالة نقدية) إذن لابد للناقد من أن يفكر في كل هذه العوامل, ومن أين انطلقت في الأصل عند تناوله أحد الأفلام بالنقد.

عمّ نكتب?

ربّما تعد من أبرز الصعوبات تعترض كتابة النقد السينمائي بوجه عام, احتواء التجربة السينمائية المراد تناولها على أكثر من معنى أو مضمون مختلف, وهو ما قد يثير عددًا من التساؤلات لدى الناقد قبيل الشروع في كتابة مقالته, تساؤلات من نوع ما الذي يمكن الكتابة عنه? هل اختار - والوضع كذلك - الكتابة عن القصة, أو عن التمثيل, أو عن المونتاج? وهنا يؤكد كوريجان أنه يجب على الناقد أن يتفحص ويمحص جيدًا أبعاد تجربته الأولية ليحدد الخلفية الذهنية والإطار الذي سينطلق منه لكتابة تحليله. فإن تجربة المشاهدة تنطوي على كل شيء, بدءًا من ملاحظة المكان الذي نشاهد الفيلم فيه, وثمن التذكرة مرورًا بحجم الشاشة, انتهاء بإيقاع الفيلم والموسيقى المصاحبة لخلفية أحداثه, لأن السينما, كما يقول (كوكتو), (مصدر وحي ثري جدًا).

إن أول ملاحظة يوجهها كوريجان إلى ناقد السينما أو دارسها تتعلق (بالتركيز والاستغراق) التام أثناء مشاهدة العرض السينمائي, وهو الأمر الذي سوف يلقي بتساؤلات عدة على ذهن المحلل, أو الناقد, ومنها مثلاً: هل سيتناول الشخصيات? أو الحيل والمؤثرات? أو تأثير الفيلم على الجمهور? خاصة أن أي فيلم ينطوي على عناصر إبداعية كثيرة, وهو في الوقت نفسه صناعة تجارية تستجيب - بلاشك - للمتغيرات التكنولوجية, في تقنياتها الفنية, مثال لذلك فيلم (حرب النجوم) (1977) للمخرج (جورج لوكاس), الذي تعد تقنياته الفنية البارعة أهم ما فيه. إذن فتقنية الأفلام وإنتاجها وتوزيعها تعد عمليات تجارية واقتصادية يجب أخذها في الاعتبار عند تناول فيلم ما نقديًا, فهي أبعاد مهمة تلعب دورًا في توجيه تصوّرات الناقد, تلك التصوّرات التي لابد أن تختلف عند رؤيته فيلمًا مستقلاً قليل التكلفة عنها عند رؤيته لفيلم ملحمي تفوق كلفته عشرين مليون دولار, مثل (بوابة السماء) (1980) للمخرج (مايكل شيمنو).

إن الالتفات إلى العوامل التقنية والإنتاجية وعلاقتها بالربحية وحتمية اجتذاب نوعية من الأفلام لعدد كبير من الجمهور, وإن كانت تصلح موضوعًا مستقلاً لمقالة نقدية مستقلة, إلا أن وعي الناقد بهذه الأمور الاقتصادية والتجارية خلف صناعة الأفلام يجعله مستعدًا لاستجابة أكثر ذكاءً وتعقيدًا تجاه (الصور) المعروضة في تلك الأفلام, ولطرح عدد من التساؤلات النوعية التي يمكنها أن توجّه وتصقل القدرة على التحليل, فذلك ليس بمعزل إطلاقًا عن كتابة تحليل واع وذكي للقصص والشخصيات في غالبية الأفلام التي يفترض في الناقد الاستعداد لمشاهدتها باعتبارها أبنية تتبع أشكالاً وأساليب معينة, تنشأ من مؤثرات تاريخية كثيرة. ويكمن جوهر تحليل الأفلام أساسًا في معرفة كيف تكوّن الموضوع لعيني شيئًا محددًا عبر قوة الفن وتقنياته ومعطياته التجارية.

عند مشاهدة الأفلام يعد طرح الأسئلة بداية الحوار مع الفيلم المراد تحليله, وكلما شاهد الكاتب أو الناقد أفلامًا أكثر, أصبحت الأسئلة الصحيحة أكثر إلحاحًا على الذهن. وهنا يفترض كوريجان خطّين أساسيين قد يساعدان في استهلال الحوار الصامت مع أي فيلم أثناء مشاهدته, أولهما: ملاحظة أي عناصر الفيلم يثير الاهتمام أو القلق, ثانيهما: أي العناصر يكرر للتأكيد على نقطة ما, أو تصوّر محدد, وتعد الأسئلة التي لا يكفّ كوريجان عن طرحها والإجابة عنها على مدار صفحات الكتاب, أسئلة مهمة وموضوعية. فهو يضع نفسه منذ البداية موضع الدارس أو الناقد الذي يشاهد الفيلم, أو المعني بالكتابة عنه. وأسئلته هنا يعد طرحها مفتاحًا لتحليل جيد, وهي غاية في البساطة, مثل علاقة عنوان الفيلم بالقصة, ولماذا هذه البداية تحديدًا? متى صُنع الفيلم? لم ينته بهذه الصورة? وأسلوب استخدام الكاميرا, واللقطات, وأهم المشاهد, الديكورات...إلخ.

ولاشك في أن (تدوين الملاحظات) أثناء هذا الحوار الصامت مع الفيلم المراد تحليله انطلاقًا من هذه الأسئلة المطروحة وغيرها, يعد أمرا غاية في الأهمية للناقد, الذي يجب عليه أن يسجل ما يستجد أثناء المشاهدة. وتدوين الملاحظات يعتمد بالأساس على الأسئلة والحوارات التي تتولد داخل الناقد أثناء المشاهدة الأولى, أو حتى الثانية, شريطة أن ينصب جل هذه الملاحظات المدوّنة على ما يفترض الناقد بخبرته أنه أهم ثلاثة أو أربعة مشاهد أو لقطات أو تتابعات في الفيلم, وأن يكون ذلك مدونًا في صيغة واضحة ومباشرة دون إهمال الإطار العام للفيلم, كملاحظة زوايا الكاميرا, والإضاءة واستخدام العمق والسطح وأساليب المونتاج, وعلاقة كل هذا بالشخصيات والأشياء والأحداث.

مناهج كتابة النقد السينمائي

ويعرض كوريجان في كتابه هذا بالتحليل لستة مناهج في كتابة النقد السينمائي, ومنها المنهج الشكلي الذي يعنى بتحليل العناصر الشكلية في فيلم ما كالتكرار, أو التنويع على عنصري الضوء والظل داخل الكادر, وما إلى ذلك. فالشكلية اسم غالبًا ما يطلق على النقد السينمائي المهتم بقضايا البنية والأسلوب التي لا تمنع من تناول المواضيع الرئيسية في الفيلم إلى جانب ذلك, بيد أن تلك العناصر الشكلية, في هذا الإطار المنهجي, تكون بؤرة التركيز أثناء الكتابة النقدية. أما المنهج التاريخي, فهو يعد واحدا من أكثر المناهج استخداما في معالجة الأفلام, وبمقدوره أن يستكشف أبعاد العلاقات التاريخية بين الأفلام وطرائق استقبالها من حقبة إلى أخرى. ويصلح المنهج التاريخي مع كثير من الأفلام, وبخاصة أفلام الحرب, وأفلام الغرب الأمريكي.

 

تيموثي كوريجان