(فرويد وغير الأوربيين) إدوارد سعيد عرض: فخري صالح

(فرويد وغير الأوربيين)

بالرغم من رحيله منذ ما يزيد على العام, فإن الناقد والمفكر والمنظر الأدبي الفلسطيني إدوارد سعيد (1935-2003), لايزال يفاجئ قراءه والمهتمين بعمله, بمقالات وأبحاث وكتب جديدة تظهر بعد وفاته في كبريات المجلات والصحف ودور النشر الأمريكية والبريطانية.

يقدم إدوارد سعيد في كل عمل جديد يظهر له أفكارًا جديدة تجعلنا نعيد النظر في ميراثه النقدي والفكري, وكذلك في مسيرته الشخصية, وقدرته على مواصلة مشروعه النقدي والثقافي, وتعميق هذا المشروع. كما يبدو عمل إدوارد سعيد مثالاً ملهما في سياق الحديث عن مفهوم المثقف ووظائفه في المجتمع, إذ استطاع منذ أن أصدر كتابه الذائع الصيت (الاستشراق) عام 1978 أن يلفت النظر إلى حقيقة أن المثقف, ولو كان منفيًا بعيدًا عن تربته الوطنية غريبا في المجتمع الذي أصبح يحمل جنسيته, يستطيع أن يعلن احتجاجه ونقده لثقافة ذلك المجتمع. وهكذا كان كتاب (الاستشراق) بداية تاريخ فكري لإعادة النظر في المفاهيم الغربية للشرق والعالم الثالث, وتدشينا لطريقة في التفكير, في تفكك وعي الغرب وتصوّراته حول نفسه وحول الآخر. ويمكن عد كتابي (تغطية الإسلام) و(الثقافة والإمبريالية), إضافة إلى عدد كبير من المقالات والدراسات والكتب التي شارك فيها أو كتب مقدماتها, مواصلة للانشغالات لتي بدأها في (الاستشراق) موسعا دائرة البحث لتشمل العالم الثالث على الصعيد الجغرافي ونظرة مواطن العالم الثالث لنفسه ورد فعله على نظرة الغربي له على صعيد بؤرة البحث والدراسة.

تمثل مسيرة إدوارد سعيد الشخصية, كفلسطيني مهاجر إلى الولايات المتحدة في أوائل الخمسينيات, والتي رواها لقرائه في سيرته الذاتية (خارج المكان), الخلفية التي تقوم عليها كتاباته عن مفهوم المثقف, وحواراته حول هذا المفهوم وطبيعة المشاركة السياسية والاجتماعية للمثقف. وفي هذا السياق يمكن أن نحدد موضع كتابه الصغير الحجم (96صفحة), الصادر عن دار نشر فيرسو البريطانية, عن (فرويد وغير الأوربيين), الذي يعيد فيه النظر إلى علاقة عالم النفس اليهودي سيجموند فرويد بمفهوم الآخر وصلته بديانته اليهودية ووقوعه, بصورة أو بأخرى. أسير المركزية الغربية التي دفعته للنظر إلى اليهود بوصفهم جزءا من سياق الحضارة الغربية المتفوقة (!), وفصلهم عن خلفيتهم الحضارية المشرقية. ويفسر سعيد رغبة فرويد بجعل الديانة اليهودية جزءًا من نسيج ثقافة الغرب انطلاقًا من الواقع السياسي, والثقافي الذي عاش فيه فرويد سنواته الأخيرة في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي, وبزوغ العداء لليهود في ألمانيا والنمسا, وحالة الرعب التي تلبسته من التعامل مع التحليل النفسي بوصفه علمًا يهوديًا مبنيًا على الوساوس والهواجس العصابية الخاصة بعدم ثبات الهوية.

المحاضرة المطاردة

ما يثير الاهتمام في كتاب إدوارد سعيد عن فرويد أنه كان في الأصل محاضرة طلبت منه جمعية فرويد في فيينا إلقاءها عام 2001 ثم تراجعت الجمعية عن طلبها عندما تعرضت للضغط من قبل الجماعات اليهودية - الصهيونية في النمسا, فألغت المحاضرة ليقوم متحف فرويد في لندن بدعوة سعيد لإلقائها. وقد قدم إدوارد سعيد في المحاضرة, وقدم للكتاب كذلك البروفيسور كريستوفر بولاص الذي ألقى بعض الضوء على تجربة المنفى في حياة إدوارد سعيد ورحيله القسري في صباه عن مسقط رأسه القدس, وقراءة سعيد لكتاب فرويد (تأويل الأحلام) في كتابه (بدايات) الذي أصدره عام 1975, أي قبل ما يزيد على ربع قرن من عودته ثانية للبحث في ميراث فرويد حول صورة الآخر, واليهودي بصورة خاصة, في المجتمعات الأوربية.

أما الروائية والناقدة والمحللة النفسية البريطانية جاكلين روز, التي علقت على المحاضرة, فتحلل مقاربة إدوارد سعيد لنظرة فرويد لهويته الشخصية وعلاقتها بالهويات الأخرى, مركزة على محاولة سعيد تقديم قراءة مختلفة لفرويد تركز على اضطراب علاقة عالم النفس النمساوي بهويته. وترى روز أن إدوارد سعيد يفتح من خلال تلك القراءة البارعة والشجاعة, أفقا جديدا لمفهوم الهوية في العالم المعاصر, قد يقود إلى تخليص البشر من صراعاتهم الطاحنة على الهوية والأرض.

تقوم أطروحة سعيد حول فرويد ونظرته لغير الأوربيين على أن عالم النفس النمساوي كان يقيس معرفته بالثقافات غير الأوربية, خصوصا ما يتعلق بالفرضيات الإنسانية والعلمية, على تعليمه المستند إلى التراث اليهودي - المسيحي, ويشدد سعيد على أن هذا الانتماء الوسواسي المزعج إلى ثقافة محددة بعينها يضفي على عمل فرويد العلمي والثقافي طابعا غربيا بالأساس, وهو الأمر الذي يتناقض مع تأكيده في كتابه الشهير (موسى والتوحيد) على مصرية موسى الذي اختاره اليهود ليكون نبيهم في رحلة التيه. وعلى الرغم من اطلاع فرويد - غير العميق ربما - على الثقافات العربية والصينية والهندية والبدائية غير الغربية (من خلال كتاب جيمس فريزر (الغصن الذهبي) على الأغلب فيما يتعلق بالثقافات البدائية), فقد ظل مسحورا بقصص اليونان وروما وإسرائيل القديمة.

ما يستغربه سعيد هو أن فرويد, رغم إعلانه أن موسى وهانيبال كانا ساميين, يدرج هذين (البطلين بنظره) في بوتقة أوربا الثقافية بوصفهما غريبين سابقين. ومن هنا فإنه في (موسى والتوحيد) يتعامل مع موسى بوصفه داخليا وخارجيا في الآن نفسه. إنه, انطلاقا من نظرة فرويد الثقافية المطبوعة بالمركزية الأوربية, يعيد إدخاله في نسيج الثقافة الغربية اليهودية - المسيحية ذات الجذور الإغريقية - الرومانية. ويرى سعيد أن استقصاءات فرويد - بخصوص موسى والديانة اليهودية - ذات طبيعة قسرية ملحاحة تنطلق من إحساسه بضرورة إدراج اليهود في نسيج مجتماعاتهم الغربية في ضوء صعود الفكر الفاشي في ثلاثينيات القرن الماضي وتزايد كراهية اليهود في محيط عيش فرويد في ذلك الزمان. ويفسر سعيد تردد فرويد وتناقضاته بخصوص إنشاء دولة يهودية في فلسطين, وعداءه للصهيونية في فترة من فترات حياته, على هذه الخلفية, إنه جزء من نسيج الثقافة الأوربية يصعب فصله عنها. وحسب سعيد, فإن فكرة وجود ثقافات أخرى غير أوربية لم تكن يوما محرّكا لكتاباته.

يشير سعيد في كتابه إلى الأعمال السردية للروائي البولندي الأصل, الإنجليزي الجنسية جوزيف كونراد وكتابات الناقد الألماني إريك أورباخ وكتاب فرانز فانون (معذبو الأرض), وأعمال بيتهوفن التي أنتجها في السنوات السبع أو الثماني الأخيرة من حياته, ليقيم نوعًا مما يسمّيه القراءة الطباقية Contrapuntal Reading التي ابتدعها في كتابه (الثقافة والإمبريالية). وهو مسكون في هذه القراءة بإعادة تأويل فرويد واستعماله, في هذا السياق من التحليل المقارن, لخدمة أغراض معاصرة تتعلق بتفسير مفهوم الهوية وتلاقح الثقافات واندماجها وإعادة تشكيلها في ضوء التجارب الخاصة, والتوصل إلى مفهوم مركب هجين للهويات في زماننا المعاصر.

من هنا يضرب سعيد صفحا عن تناقضات فرويد في (موسى والتوحيد), وتردده حيال الديانة اليهودية هل هي أول ديانة توحيد حقيقية? أم أنها مسبوقة بديانة إخناتون? وكذلك إقراره بمصرية موسى. إن الناقد الفلسطيني الراحل يغض الطرف عن مركزية فرويد الأوربية الفاقعة, ليركز على مفهوم العالم النمساوي الهجين للهوية ورغبته في دمج اليهودية في سياق الثقافات الأوربية من خلال تشديده على كون اليهودية ديانة متوسطية, وأن أفكار موسى عن الإله الواحد مأخوذة كليا عن الفرعون المصري إخناتون الذي يقول فرويد إن التوحيد فكرة لم توجد قبله!

يأخذ سعيد هذا التفصيل في تأويل فرويد لأصل الديانة اليهودية لينظر إلى عناصر الهوية التاريخية, التي كانت على الدوام, وفي فكر إدوارد سعيد, ذات طبيعة هجينة مركبة, مشحونة بالتوتر, غير متأصلة, وقابلة لتبادل التأثيرات, وهو ما يتناقض مع التفكير المركزي الغربي الذي يدعو إلى هويات خالصة منفصلة تتبع مراتب عرقية تضع أوربا, والغرب عموما, في رأس هرم الأمم والثقافات. ومع أن سعيد يقر, في كتابه, بصدور فرويد, بصورة لاواعية ربما, عن المركزية الأوربية, فإنه يشدد بمكر بالغ, على تحليل فرويد لعلاقة موسى بالتوحيد ومصريته, بل وكونه (أجنبيا) عن اليهود اختاروه ليكون أباهم ونبيهم, واصطفاهم هو شعبا له.

فرويد والهوية اليهودية

من النقطة السابقة ينطلق إدوارد سعيد ليعيد صياغة نظرة فرويد للهوية, بالرغم من أنه يشير إلى أن معالجة فرويد للهوية اليهودية مشوبة بالكثير من الوهن والضعف في الصفحات الأخيرة من كتاب (موسى والتوحيد), عندما يقول إن اليهود ليسوا عرقا آسيويًا غريبا, بل إنهم يتشكلون في أكثريتهم من بقايا الشعوب المتوسطية. ومن ثم, فإن اليهود, في نظر فرويد ليسوا غرباء عن سياقهم الأوربي. ولنتذكر, حسب ما قاله سعيد, أن فرويد كثيرا ما أشار إلى نفسه بوصفه ألمانيًا لغة وثقافة, ويهوديًا فيما يتعلق بالديانة, دافعًا اليهود تحت العباءة الأوربية.

يعيد سعيد موضعة نظرة فرويد إلى الديانة اليهودية وأصل موسى في السياق الراهن, معلقا على نزعة معاداة السامية في أوربا, والتي ساعدت على نشوء دولة إسرائيل اليهودية في أرض غير أوربية, وعلى تقليص إسرائيل لعناصر هويتها لتصبح هوية نقية خالصة ذات أصل تاريخي لم يتم تلويثه على الإطلاق! ويرى سعيد أن هذه النظرة العرقية, التي منحت اليهود في فلسطين حقوقا حصرية في الهجرة وامتلاك الأرض, تعارض تماما تذكيرات فرويد بأن مؤسس الديانة اليهودية لم يكن يهوديا, وأن الدين اليهودي خرج من رحم العقيدة المصرية التوحيدية. إن التشريعات الإسرائيلية تشدد على إلغاء ظاهرة انفتاح الهوية اليهودية على جذورها غير اليهودية, وهو ما يخالف بوضوح نظرة فرويد وتحليلاته لطبيعة هذه الهوية.

إننا في كتاب إدوارد سعيد عن (فرويد وغير الأوربيين) بإزاء استثمار راهن, موجه للقارئ الغربي الذي تربطه جذور ثقافية مع اليهود وفرويد كذلك, لنظرة عالم النفس النمساوي لإلقاء ضوء كاشف على أشكال سحق الهوية التي تمارسها إسرائيل على الفلسطينيين, وعلى محاولات علم الآثار اليهودي إضفاء هوية يهودية خالصة على أرض فلسطين. ويشير سعيد إلى أن فكرة فرويد عن الهوية اليهودية, التي انفتحت في يوم من الأيام على الهويات الأخرى - بل إنها تشكلت منها كذلك - تصلح لمخاطبة هويات أخرى محاصرة أيضا (لا من خلال توزيع مهدئات مثل التسامح والتعاطف, بل بمقاربة تلك الهويات بوصفها جرحا دنيويا ملتهبا باعثا على الشلل وعدم الاستقرار). وهو يسأل في النهاية عن إمكان الاستفادة من مثل هذه النظرة لحل مشكلة اليهود والفلسطينيين الغارقين في الشك واللاحسم, استنادا إلى شعور فرويد غير النهائي المتشكك غير المحسوم بالهوية.

قبل الموت

أخيرًا فإن الشيء الملحوظ في كتاب إدوارد سعيد عن فرويد هو اهتمامه الجزئي غير التفصيلي بما يسميه (الأسلوب الأخير) للكتّاب والمفكرين والموسيقيين, وهو ما يعكس نوعا من التأمل الذاتي على حواف الموت بالنسبة لإدوارد سعيد الذي كان يرى الموت يزحف على جسده في السنوات الأخيرة.

ثمة إشارات متناثرة كثيرة في الكتاب إلى تردد فرويد, وتناقضاته وتكراراته الوسواسية, وعدم اهتمامه بحسم تحليله لقضية من القضايا, وانقطاعاته الأسلوبية, في كتاباته الأخيرة.

ويقارن سعيد كتابات فرويد الأخيرة بأعمال بيتهوفن الموسيقية الأخيرة التي كان فيها الموسيقي الألماني يؤلف أعمالاً (توقف شعر الرأس لصعوبتها).

لعل إدوارد, بإقحامه موضوع الأسلوب المتأخر للكتّاب والموسيقيين في تحليله لمفهوم الهوية لدى فرويد, كان يفكر بنفسه وبأسلوبه بدءا من (الثقافة والإمبريالية), بطابع المقالة في كتاباته المتأخرة, وخروجه عن سياق الموضوع في كثير من كتبه ومقالاته, ومن ضمنها كتابه (فرويد وغير الأوربيين), ليتأمل موضوعات وقضايا قريبة من موضوعه الرئيسي الذي يكتب عنه. لكن أهمية كتابه عن فرويد تتجلى في إقحامه عالم النفس النمساوي, الذي رحل عن عالمنا قبل نشوء دولة إسرائيل بتسع سنوات, في العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين, وهي علاقة مشحونة بالصراع لا على الأرض فقط, بل على الهوية أيضا التي يبحثها كتاب إدوارد سعيد عن فرويد وغير الأوربيين.

 

إدوارد سعيد