دخان يهدد أطفالنا عبدالحميد غزى بن حسن

دخان يهدد أطفالنا

منذ انطلاق أذان الفجر وحتى أذان المغرب تسود أجسام الصائمين وبيوت الصائمين حال من النظافة والتنظيف العضويين والبيئيين - إضافة للبعد الروحي الجليل - فلا دخان سجائر ولا أثقال طعام. لكن هذين الأثرين الرائعين ما إن يبدأ الإفطار حتى يوشكا على التلاشي, بل التعويض بأثر رجعي, فيفرط المدخنون في تدخينهم, وينهم الآكلون في التهام أضعاف أضعاف ما تعوّدوا عليه من كميات معقولة, ناهيك من المبالغة في تنويع أصناف الطعام, وإن هذا - بلاشك - إهدار للبعد الروحي الذي تراكم طوال نهار الصوم, ولعل من رحمات هذا الشهر الكريم أن بيوتنا التي تغيب عنها سحابات دخان المدخنين, تجعلنا نكتشف أمرًا خطيرًا يمكن أن يصيب أولادنا, وهو آفة التدخين التي تتربص بهم, وبنا.

يقول تقرير منظمة الصحة العالمية الصادر عن المجلس التنفيذي للمنظمة في يناير عام 1986م:

(...ولا يؤدي استخدام التبغ إلى الإضرار بالمتعاطي فحسب, ولكن المدخن يلوث البيئة ويصيب غير المدخنين الموجودين معه - التدخين السلبي أو اللاإرادي - بالأضرار الصحية البالغة...).

إن الأطفال الموجودين في بيئة مليئة بدخان التبغ, يعانون - قطعًا - أمراضًا مختلفة متكررة, وخاصة أمراض الجهاز التنفسي العلوي والسفلي, كذلك تصاب الأجنّة في بطون الأمهات حتى لو لم تكن الأم تدخن إذا كان الأب يدخن بشراهة في المنزل.

وورد في تقرير صادر عن الكلية الملكية للأطباء بالمملكة المتحدة عن آثار التدخين على الأطفال والأجنّة:

- حدوث الإجهاض وزيادته زيادة كبيرة, وازدياد وفيات الأجنة.

- حدوث الأملاص, أي ولادة الأجنة الميتة قبل موعدها.

- وفاة الأطفال في الشهر الأول بعد ولادتهم.

- يمتد تأثير تدخين الأم أو الأب أثناء حمل زوجته إلى الطفل, ويستمر التأثير إلى سن العاشرة, مما يؤدي إلى نقص نموّه الجسمي والعقلي, بالمقارنة مع الأطفال المولودين لأمهات وآباء لا يدخنون.

- زيادة كبيرة في العيوب الخلقية (إعاقات) في النمو الجسمي والعقلي والنفسي. وأظهرت الدراسات أن الأطفال المولودين لأمهات كنّ يدخنّ أثناء الحمل يقل وزنهم بمعدل 200غ عن أطفال الأمهات غير المدخنات, كما يؤدي تدخين الأم إلى زيادة خطر الإجهاض التلقائي وموت الطفل حديث الولادة, بالمقارنة مع أطفال الأمهات غير المدخنات.

آباء وأصدقاء وبيئة

وتظهر النتائج في الولايات المتحدة الأمريكية أن معظم الأطفال يبدأون تجربة التدخين في مرحلة المدرسة المتوسطة, وهذا يقودنا إلى معرفة عدد الوفيات بسبب التدخين بين الأولاد في سن 15 ممن يدخنون السجائر بانتظام في الولايات المتحدة سيبلغ ثلاثة أضعاف مجموع الذين يموتون بسبب جرائم القتل والانتحار وإساءة استخدام العقاقير وتعاطي المخدرات وحوادث السير والإيدز مجتمعة (حسب تقرير منظمة اليونيسيف لعام 1996).

وإن الأسباب التي تحفز على الاستمرار في التدخين تختلف عن الأسباب التي تدفع إلى البدء به. وبالرغم من أن بعض الأطفال يحاولون في السيجارة الأولى - البدء في التدخين - إلا أن أغلبية المدخنين يبدأون في فترة المراهقة, والأغلب يجربون في عمر 10-14 سنة, والذين يتحولون من مدخن عرضي إلى منتظم (يومي) يزداد لديهم احتمال الاستمرار في فترة ما بعد البلوغ, أما الذين يبدأون في عمر 18-21 فهم قلة, ومع ذلك يتبين في بعض البلدان مثل الصين ان الانتشار منخفض أثناء المراهقة, ويزداد في المرحلة الباكرة من سن ما بعد البلوغ.

وعن حدثية أن يصبح الفرد مدخنًا, فهي حدثية معقدة, ومرتبطة بشكل جوهري بالتحفيزات الاجتماعية والفردية, وتشمل هذه الحدثية أربع مراحل لكي يصبح الفرد مدخنًا) وهي:

- الوعي - البدء.

-التجريب - التعود.

- الاعتياد - الاستمرار.

- الإدمان.

وتتأثر هذه المراحل بالعوامل الاجتماعية الثقافية والبيئية والمرضية والشخصية, وهذا التأثير ديناميكي, ويمكن أن يتبدّل على مدار الزمن, وبالنسبة لبعضهم فإن الفرص أو السن أو المنزلة سوف تؤثر على عملية البدء والاستمرار بالتدخين.

وعلينا أن ندرك خصائص الطفل المدخن حسب ما أكّدته التقارير الصادرة عن منظمة الصحة العالمية, وهي:

- يكون آباؤهم من المدخنين.

- يكونون من الأطفال الأقل تفوّقًا ونجاحًا في المدرسة.

- يكون لهم أصدقاء يدخنون.

- يستخدم بعض الأطفال التدخين كرمز للاستقلالية والتمرّد.

ولعل ثمة أسباب وراء هذه الظاهرة, من غياب القدوة في البيت, والوفرة المادية وأنهم يعيشون في مجتمع استهلاكي, وإلى التفكك الأسري, والضياع وشعورهم بالرجولة وإثبات الذات. وقد حين أكّدت الدراسة المنشورة في مجلة عربية أن سبب لجوء الطلاب إلى التدخين, أنهم يرزحون في مشكلات عائلية أو مشاكل نفسية أو اضطرابات عاطفية, وما لجوؤهم للتدخين إلا من أجل الخلاص من واقعهم المرير.

ويمكننا القول إن تجربة أول سيجارة هي أخطر ما في قضية التدخين عند الأطفال, وغالبًا ما تأتي هذه التجربة من رفاق المدرسة, وخاصة من الصديق المفضل للطفل, وعادة يحظى التلميذ الذي يقبل أول سيجارة بتقبل أكثر من رفاقه المدخنين الذين يصفونه عادة بأنه رجل وأنه ناضج ومغامر, لاسيما أن التدخين يرتبط بالطبقة الاجتماعية للطفل, علمًا أن نسبة المدخنين لدى الأطفال الذين حرموا من التعليم ويعملون مع والديهم المدخنين تبلغ نسبة عالية, في حين تقل عند الأطفال ذوي التحصيل الدراسي المتقدم - المتفوقين - وكذلك عند الأطفال الذين يمارسون الألعاب الرياضية المختلفة.

ويؤكد الملف المعد من قبل برنامج مكافحة التدخين بإحدى وزارات الصحة, أن الدراسات في الولايات المتحدة, أظهرت أن الناشئة لديهم احتمال أن يبدأوا بالتدخين أكبر بخمس مرات إن عاشوا في منزل أحد الأبوين أو كليهما أو قريب أكبر سنًا يدخن, وذلك بالمقارنة مع الناشئة في منازل لا يدخن فيها أحد (2.3% مقابل 4.1%).

وفي (نيوزيلندا) تكون النسبة المئوية للأطفال الذين حاولوا التدخين, والذين أحد أبويهم يدخن, أكبر في عمر 9 سنوات, وتناقصت بشكل متدرّج, عندما أصبحوا أكبر سنًا, إن أولئك الذين لم يدخنوا في عمر 15 عامًا من المحتمل كثيرًا أن يكون أبواهم غير مدخنين.

إغراءات وتوابع

في (كندا) و(المملكة المتحدة), أظهرت الدراسات أن الأطفال الذين يدخن أحد أبويهم, فإن احتمال أن يصبحوا مدخنين, هو أكبر مرتين مقارنة بالأطفال الذين لا يدخن أحد أبويهم . وفي (النرويج) فإن 62.5% من التلاميذ في عمر 15عامًا يدخنون يوميًا, حيث يسمح آباؤهم بذلك مقابل 16.7% للذين لا يسمح آباؤهم بذلك, علمًا أن سلطة الأبوين في النهي عن التدخين تلعب دورًا مهمًا في منع البدء بالتدخين في سن مبكرة.

وكما أظهر برنامج مكافحة التدخين في إيطاليا, فإن التلاميذ الذين يكون أفضل أصدقائهم مدخنين, احتمال أن يصبحوا مدخنين أكبر بكثير بالمقارنة مع التلاميذ الذين أفضل أصدقائهم لا يدخنون (أجريت الدراسة على 562 تلميذًا) كما في الجدول المنشور هنا:

المستجيب أفضل الأصدقاء

مدخن غير مدخن

ذكور مدخن 61.1% 38.2%

غير مدخن 36.6% 63.3%

إناث مدخن 79.7% 20.3%

غير مدخن 27.8% 72.2%

إن التأثيرات الإجتماعية للتدخين على الأطفال تشمل: حدوث اضطرابات في سلوك الأطفال, حيث تؤدي إلى الميل للسلوك الإجرامي والتمرّد, وإلى مقاومة الامتثال للمعايير الاجتماعية السائدة والنظم المدرسية, حيث لوحظ أن المدخنين يكثر طردهم من الصفوف المدرسية, ناهيك عن الميل للانفعال والاندفاع وعدم التركيز مع تدني دافع التحصيل المدرسي على الرغم من أنهم ليسوا أقل ذكاء من غير المدخنين, وكذلك إلى انخفاض مستوى التوافق الاجتماعي والعاطفي مما يجعل الطفل يغيب عن المدرسة, ويلجأ إلى الهروب منها, إضافة إلى تكوّن اتجاهات إيجابية نحو تعاطي المخدرات, وبالتالي يؤثر التدخين في سلوك المدخن, حيث يتأثر بسلوك الأصدقاء.

ومن اللافت للانتباه, أن الأطفال المقيمين في الغرفة نفسها التي يدخن فيها الأب والأم, يصابون بالتهابات - الطرق التنفسية - الأذن الوسطى, والسعال المزمن, واضطرابات نمو الرئتين والقصبات (حتى 7 سنوات), وكذلك فرط الحساسية عند مرضى الربو, ولاسيما التهاب العيون والأنف والحلق, وموت الرضيع بشكل مفاجئ وحدوث سرطانات في مرحلة الطفولة, وارتفاع ضغط الدم خلال السنة الأولى من العمر.

وإضافة لما سبق, يصاب الأطفال بتشنج الحنجرة عند الرُّضّع والأطفال أثناء التخدير العام, وتدني التحصيل الدراسي حتى عمر 16 عامًا على الأقل, وكذلك تدني وظائف الرئة من مائة إلى مائة ألف!

إن غاز الرادون يوجد داخل هواء الغرفة والبيوت, ويعود إلى أن التهوية داخل البيوت تكون أقل منها في الخارج, ولاسيما إن غاز الرادون ينفذ من المصادر الطبيعية المكوّنة للبيت (كمواد البناء وغاز المطبخ الطبيعي...), وكما تنشأ من غاز الرادون بعد تحلله نويات مشعة, ويكمن الخطر في أن الوليدات الصلبة والمطلقة لأشعة ألفا تنتنشر في هواء الغرفة, فإذا أشعلت سيجارة في داخل البيت مع تهوية سيئة, أدى ذلك إلى تركيز كبير في ذرات الغبار والهباب في مكان تواجد المدخن, مما يسبب التصاق المشتقات الإشعاعية الصلبة للغاز على الدخان (الغبار) المتولد من السجائر, وتبقى عالقة في هواء الغرفة, وأثبت أن إشعال (5) سجائر في هواء الغرفة يزيد في عدد جسيمات الهباب في هواء الغرفة من 100 جسيم/سم3 إلى 100000 جسيم...واستنشاق الهواء الحامل لجسيمات الدخان المركزة والتي تحمل المشتقات من غاز الرادون يزيد من تركيز الإشعاع الذي سيبقى مع بقاء جسيمات الدخان المستنشقة في مجرى الجهاز التنفسي. وبالتالي, فإن الخطر الناتج عن إطلاق أشعة ألفا - نتيجة تحلل النويات - حيث تعطي كل طاقة أشعة إلى أقرب خلية إليها, فإما أن تميتها أو تتلف وتشوّه بعض مكوناتها, وتكون هذه بداية لخلية مريضة, وبانقسامها تتكون خلايا جديدة مريضة, وهذه قد تكون بداية لنشوء الخلايا السرطانية في الرئة, والذي يظهر أثره جليًا بعد فترة تراوح بين (10و30) سنة من بداية الضرر الحاصل في الخلية الأولى, وثبت أن نسبة سرطان الرئة بين المدخنين عالية, إذ تشير الإحصاءات إلى أن عدد الوفيات نتيجة سرطان الرئة هو أكثر من ربع مليون شخص سنويًا في أمريكا, و(50) ألفا في بريطانيا, ونسبة مشتقات غاز الرادون من بين المسببات الرئيسية لزيادة سرطان الرئة بين العاملين في مناجم اليورانيوم.

ومن هنا ندرك الضرر الحاصل نتيجة إشعال السيجارة في غرفة مليئة بالأطفال وأفراد الأسرة, حيث يستنشق الجالسون حول المدخن الغبار الناتج والحامل للإشعاع الطبيعي, وبذلك فإن جسيمات ألفا تطلق كامل أشعتها إلى جدار الجهاز التنفسي - النظيف لغير المدخن - فتصيب الخلايا مباشرة, بينما الجهاز التنفسي للمدخن مغطى بطبقة من القطران الأسود الذي يكون عازلاً لأشعة ألفا الملتصقة بطبقة القطران الخارجية, وقد لا تصل الأشعة المنطلقة من الهواء ذاته للخلايا مباشرة.

كيف نمنع أطفالنا من التدخين?!

ثمة اتجاهات ثلاثة - على حد قول شيفر وميلمان -, فالأول: يطلق عليه النموذج الوالدي والتربية المنزلية, وعلى الوالدين أن يمنعوا أولادهم من التدخين من خلال المناقشة الصريحة والواقعية من الوالدين مع أطفالهم, والعمل على متابعتهم والاهتمام بشئونهم, وبيان أن التدخين ليس له علاقة بالرجولة والجرأة والجاذبية الشخصية والجنسية للإنسان, والثاني: عبر البرامج التربوية المدرسية, ولاسيما بعد تطوير هذه البرامج من قبل المربي (إيفانز) عام 1976, حيث أوضح مدى العلاقة بين التدخين والزيادة المفاجئة في مستوى العناصر السامة في الجسم مثل النيكوتين وأول أكسيد الكربون, وكيفية التعامل مع الضغوط التي تشجع على التدخين, ولاسيما تلك التي تواجه الأطفال من قبل زملائهم ووسائل الإعلام.

أما إذا أصبح الطفل من المدخنين, فعلى الوالدين تطبيق أسلوب المواجهة, وذلك بوضع الطفل في صورة حقيقية عن أخطار التدخين وبيان فوائد انقطاعه, كالتخلص من البقع القبيحة التي تغطي أسنانه وأصابعه, ويمكن للوالدين مراجعة طبيب العائلة أو مدرب الرياضة. كما يمكن مساعدة الطفل على التوقف فيما إذا كان لديه رغبة, بتقديم نشرات وكتب وأفلام عن أضرار التدخين وكيفية الانقطاع عنه, وكذلك إقناعه بمراجعة العيادات الخاصة لوقف التدخين التي أثبتت نجاحها.

وفي حال عدم نفع هذه الحلول, علينا بتنفيذ الخطوات التي حددها المؤتمر الدولي للتدخين والصحة الذي عقد في (لندن) عام 1971م والتي تهدف إلى تجنب الآثار الضارة للتدخين:

- محاولة اختيار نوع من الدخان أو سجائر ذات قطران ونيكوتين قليل.

- عدم تدخين كل السيجارة, نظرًا لأن القطران والنيكوتين يتركز في الجزء الأخير من السيجارة.

- محاولة التقليل من عدد المرات التي تسحب فيها الدخان.

- تدخين عدد أقل من السجائر.

- محاولة التقليل من استنشاق الدخان, ومعرفة أن الدخان الذي يدخل الرئتين يؤدي إلى معظم الضرر بالصحة.

وبقي أن نقول إن أهم نقطة في ترك التدخين, هي التصميم والإرادة, ثم التوعية حول مضار التدخين في الإعلام والمدارس, وكل مكان يؤمّه الناس, وعلى الآباء مراقبة الأولاد وتوجيههم للابتعاد عن التدخين, وعن الأصدقاء المدخنين, والتزام المدرسين بعدم التدخين أمام الطلاب. وعلى الأهل مراقبة سلوكيات الطفل داخل وخارج المنزل, وتشجيعه على إقامة علاقات مع رفاق ذوي سلوكيات حسنة, وملء أوقات فراغ الطفل بالبرامج التربوية الهادفة, والعمل على استغلال طاقاته من خلال الرياضة والفنون الجميلة والأندية الثقافية, ناهيك من التربية الأسرية التي تقوم بتلبية احتياجات الطفل البيولوجية والاجتماعية والنفسية.

 

عبدالحميد غزى بن حسن