البتراء مدينة الأحجار الوردية

البتراء مدينة الأحجار الوردية

البوابة الرئيسية لمدينة البتراء
ومازال عليها آثار الأنباط القدامى

بين الصخور وخلف الشقوق عالم اسطوري قديم, ساحر بتاريخه, فريد بعبقه وأصالته.

يتردد بينها صدى صليل السيوف, صيحات المقاتلين, أصوات تدخل رأسك لتعود إلى عام 268 ميلادي, لتسمع صوت الملكة(زانوبيا) التي تحدت الروم وقاومتهم وحاربت من أجل (البتراء).

أجيال عظيمة جلست على هذه الصخور, وسارت على هذه الرمال, أجيال تعاقبت, نحتت, عاشت, ناضلت من أجل هذه البقعة التي اختفت عن الأنظار سنوات طويلة ثم عادت لتحيا من جديد عام 1812 عند اكتشافها لأول مرة. عادت لتحكي لنا عن ماض مجيد, وتاريخ عريق. تلك هي (البتراء)

في البداية أريد ان اعرفكم بنفسي, اسمي عامر, وأنا من الأردن, من بلدة يطلقون عليها مدينة الحجر, هل عرفتموها? أجل, إنها البتراء, وهي مبنية من الأحجار التي يغلب عليها اللون الأحمر, وهو اللون الذي اختاره أهل المدينة, ولذلك أطلق عليها الزوار اسم المدينة الوردية الحمراء.

ولا أخفي عليكم أنه يأتي إلينا الكثير من الزوار كل عام, وهم يقضون الساعات الطويلة فوق الطرق الصحراوية حتى يتأملوا تلك البيوت والقصور والكنائس المنحوتة في الصخر, وهي ليست بيوتاً جامدة ولكنها تحكي تاريخاً طويلاً حافلاً بالأحداث, ففي إحدى مراحل التاريخ كانت هذه البلدة التي تبدو مهجورة الآن واحدة من أهم العواصم التي يمتد نفوذها من حدود مصر حتى بلاد الرومان, بل إنها البلد الوحيد الذي وقف في وجه روما وتحداها أيام كانت الإمبراطورية الرومانية تسيطر على معظم العالم, إنهم (الأنباط) أجدادي من العرب القدماء الذين أقاموا حضارتهم في هذا المكان.

اكتشاف البتراء

دعونا نتوقف قليلاً أمام هذا المعبد البيزنطي القديم, إنه كما ترون يا أصدقاء محفور وسط شق من صخور هذا الجبل, ويعود عمره إلى أكثر من 1800 عام, ومع ذلك فقد قاوم الزلازل التي دمرت الكثير من معالم البتراء وقاوم عواصف الرمال التي دفنت العديد من بيوتها, وقد وقف أول رحالة أوربي وصل إلى هذا المكان مذهولاً من روعة البناء, كان ذلك في عام 1812 عندما جاء الرحالة السويسري جوهان بورخارت إلى هذه المنطقة ووقف أمام مدخل المدينة واكتشف أن أطلال بترا التي اختفت من الخرائط منذ القرن السابع الميلادي مازالت موجودة.

لم تكن مدينتي بلدة معزولة وسط الصحراء, فهي تقع على ذلك الممر الجبلي الذي يفصل الصحراء العربية جنوباً وسوريا وفلسطين ومصر شمالاً وغرباً, وبذلك فقد كانت طريقاً مهماً لكل القوافل التي تعبر هذه المنطقة, أي أن كل القوافل القادمة من الصحراء وتود الوصول إلى البحر المتوسط عليها أن تعبر من هذه المنطقة, وأجدادي من الأنباط هم قبائل عربية هاجرت من جزيرة العرب وأقاموا في هذا المكان وبنوا معابدهم وبيوتهم فوق المنحدرات الجبلية والوديان وشقوق الجبال, وفي زمن ازدهار البتراء كان يعيش فيها حوالي 30 ألف نسمة.

أغلى من الذهب

تسألونني كيف كانوا يأكلون ويشربون في هذا المكان الصخري, إنه بالفعل سؤال مهم ولكن دعوني أصحبكم أولاً إلى القنوات التي كانت تتجمع فيها مياه الشرب.

لقد دُمرت هذه القنوات المصنوعة من الصخر وامتلأت بالرمال, ولكنها كانت في الزمن الماضي جزءاً من شبكة ممتدة من القنوات والسدود المقامة في أعلى الجبال, فالماء هنا كان ولا يزال ثميناً كالذهب, لذلك أقام أجدادي الأنباط تلك السدود حتى تجمع ماء المطر الثمين الذي يهبط غالباً في فصل الربيع لتحمي المدينة من هبوط أي سيول يمكن أن تسقط عليها, ومن هذه السدود ينساب الماء إلى عشرات من القنوات المتداخلة التي تهبط من الجبل لتصل إلى كل جزء من المدينة, نظام معقد بعض الشيء ولكن أجدادنا العرب الذين عرفوا قيمة الماء برعوا فيه, ومازال هذا النظام موجوداً في أفلاج عمّان وفي مدرجات اليمن ووسط القبائل الموجودة في صحراء الجزائر.

هل تريدون أن تعرفوا تاريخ البتراء, سوف أدع أشهر شخصية في تاريخها تحدثكم عنها, هل تذكرون المسرحية الغنائية التي ألفها الأخوان الرحباني وقامت المطربة الشهيرة فيروز بالتمثيل والغناء فيها وكانت بعنوان (ملكة بترا), لقد دارت المسرحية حول واحدة من أشهر الملكات التي عرفها التاريخ العربي, وهي ليست العمل الفني الوحيد فهناك العديد من الروايات والدراسات والمسلسلات التلفزيونية التي دارت كلها حول هذه الملكة وشجاعتها وحكمتها, لقد كان الرومان يطلقون عليها اسم (زنوبيا), أما كتب التراث العربي فتسميها (الزباء) والاسمان قريبان من بعضهما كما ترون, ولكن لماذا أطيل عليكم في الكلام فلندع الملكة تتحدث عن نفسها.

الملكة تتحدث

(اسمي زنوبيا, أحييكم يا أصدقائي الصغار عبر كل هذه الأزمان في أحد الأيام كنت بنتاً صغيرة أحلم بالسعادة وبالحرية لبلدي وقومي, كنا بلدة صغيرة في شمال الصحراء, وكان الرومان يفرضون سيطرتهم على مدينتي وعلى أماكن كثيرة في العالم, ولم يكن أمامي إلا أن أحلم بمكان حر لا يسيطرون عليه, عندما كبرت تزوجت من ملك البتراء وكان يدعى (أذينة), وكان ملكاً شجاعاً, وكان مثلي يحلم بالحرية ويكره الرومان, لذلك حاربهم طويلاً, طوال حياتي معه وأنا أراه يحاربهم, ينتصر حيناً وينهزم أحياناً ولكنه لا يستسلم, ولكن الرومان تمكنوا منه أخيراً وقتلوه, ووجدت نفسي وحيدة, وكان ابني (وهب اللات) مازال صغيراً لا يصلح للحكم وارتقاء العرش, لذلك أصبحت أنا الملكة وكان عليّ أن أثأر لزوجي وأن أظفر بالحرية لشعبي, كان ذلك في عام 268 ميلادي, ولأن عدد سكان مدينتي كان صغيراً لا يمكن مقارنته بقوة الإمبراطورية الرومانية الممتدة الأرجاء فقد أنشأت جيشاً وفتحته أمام كل الذين يحلمون بالخلاص من سيطرة هذه الإمبراطورية حتى يلتحقوا به, وهكذا جاء إلى مدينتي الكثير من العرب والفرس واليونان, تجمعوا جميعاً لصنع جيش قوي استطاع أن يقاوم روما على مدى أربعة عشر عاماً كاملة.

لم أحرر البتراء من سيطرة الرومان فقط, ولكني صنعت دولة حرة امتدت من تخوم البسفور في تركيا حتى ضفاف النيل في مصر, ولم تنسني الحرب المستمرة أمور البتراء الأخرى, فقد ساعدت على تطوير العلوم والثقافة والتجارة وأصبحت مدينتي هي جنة الصحراء يأتي إليها عشاق الحرية والعلماء والمفكرون, ولكن روما لم تسكت.

عندما تولى الإمبراطور الروماني (أورليان) العرش اعتبرني عدوة روما الأولى, ولم يكتف فقط بتكوين جيش ضخم ولكن تولى قيادته بنفسه, كان هذا الجيش اكثر من طاقتنا جميعاً, أرسلت الرسائل إلى (شابور) ملك الفرس ليتعاون معي ولكنه لم يرد عليّ, لم يكن هناك بد من أن أقف أنا وجيشي في مواجهة روما, وكان هذا اللقاء بالقرب من مدينة حمص عام 271ميلادي, ولكنا لم نستطع المقاومة, كانت الهزيمة مريرة ولكنها ليست نهائية, قررت أن أعود أنا وبقايا الجيش إلى البتراء للاحتماء خلف أسوارها والمقاومة, ولكن الرومان حاصرونا لمدة ثلاثة أشهر كاملة, وكان يمكن أن أقاوم مدة أطول ولكن التجار الذين خافوا على مصالحهم فتحوا الباب أمام جنود الرومان وأدخلوهم إلى المدينة, ولم يكن أمامي سوى الهرب بعيداً, ولكن اورليان ظل يتبعني حتى ألقي القبض عليّ وقادني مقيدة بسلاسل من ذهب إلى روما وظللت سجينة بها حتى موتي, لقد كانت نهاية تعيسة يا أصدقائي ولكني أيقظت حلم الحرية في صدر كل الشعوب, وبينت أنه حتى المدن الصغيرة تستطيع أن تقاوم الإمبراطوريات الضخمة, هذه هي حكايتي وحكاية البتراء).

آثار تخرج للنور

هل عرفتم تلك الحكاية الحزينة, أنا عامر صديقكم أعود إليكم, وأواصل معكم جولتي في البتراء, لقد خفتت الأضواء عنها بعد الهزيمة, وتحولت إلى مدينة منسية, يطمرها الرمل قليلاً قليلاً كل عام, والآن نحاول الكشف عنها من جديد, ومع كل ضربة معول نكتشف شيئاً جديداً, وهناك عشرات من رجال الآثار المنتشرين في مواقعها الآن, وفي العام الماضي فقط تم إزاحة 400 ألف متر مكعب من الرمال, وقد كشف هذا عن الأحجار التي كانت ترصف الطرق الرئيسية في المدينة وعن لوحات مصورة من الفسيفساء وعن محطة كانت جمال القوافل ترتاح فيها بعيداً عن عواصف الرمال. وقد أثبتت هذه الكشوف أن طريق الحرير الذي كان يمتد من الصين كان أيضاً يمر في طريقه إلى البتراء, وحتى وقت قريب كان العديد من الأهالي يعيشون داخل الكهوف الحجرية للمدينة, ولكن منظمة اليونسكو أعلنت في عام 1985 أن هذه المدينة هي أحد معالم الحضارة الإنسانية ويجب المحافظة عليها, وقد تفهم سكان بترا من البدو ذلك وابتعدوا بأغنامهم عن المدينة حتى يحافظوا على نظافتها, ولكنهم أخذوا يواصلون العمل داخل المدينة مع الباحثين عن الآثار والسياح الذين وصل عددهم إلى أكثر من 45 ألف سائح سنوياً, لقد صمدت البتراء أمام كل المحن والمصائب ومازالت تقاوم لتحكي لنا عن صفحة رائعة من تاريخنا العربي.

 


 

محمد سيف





البتراء.. مدينة الأحجار الوردية





لوحات الفسفيساء التي تم الكشف عنها





بعض قبائل البدو التي تعيش بالقرب من البتراء





منظر عام لمدينة الحجر التي نشأت وازدهرت وسط الصخور