غيمة خضراء


غيمة خضراء

رسوم: روني سعيد

ذات صباحٍ خريفيّ, كانَ الفلاحُ يحرثُ حقلَه.

التُّرابُ طوعُ يمينه وسكَّةُ المحراثِ تنسابُ بيُسر.

لكنَّ الفلاَّحَ كان حزينًا..

وعندما أطلَّتِ الشمس من وراء التِّلال, عاتبتها نظراتُ الفلاّحِ طويلاً, وبقيت يدُه القويّةُ تسوقُ المحراث العتيق, وتشقُّ التّراب النّاشف أثلامًا, وكأنّها تفتته.

تأمَّل الفلاَّح الأثلام, فبدت وكأنها أفواه تصرخ, وخُيِّل إليه أنَّه سمع صوتًا يطلع من باطن الأرض:

- مطر, مطر... بدأتُ أتلقّى البذار, يا مطر...

رفع الفلاّحُ رأسه, جابت عيناه السّماء الزّرقاء, وتاهت بعيدًا, ثمّ توقّفت نظرته عند البحر البعيد, وتنهّد:

- نحتاج ماءك يا كثير الخير... أرضنا تناديك...

عادت عينا الفلاّحِ تذرعان السّماء الخالية من أيّ غيمة. وتعلّقت نظراته بالشمس الوهاجة, لكنّها سرعان ما ارتدَّت مبهورة, فرفع الفلاّحُ كفَّه يتّقي الوهج, وتمتم:

- ما أقواكِ أشعّةً!

ماءً تحملين,

نريد أن نراكِ..

اعتدلتِ الشمسُ وسط القبّة الزّرقاء, وأرسلت إلى البحر البعيد أشعتها الحمراء.

لم يرَ الفلاّحُ بخار ماءٍ يصعد من البحر, وينتشر فوق, في مكانٍ ما من السّماء, وينتظر قدوم الرّيح الباردة...

ظلّ الفلاّح يردّد: ماءً تحملين, نريد أن نراكِ..

وبقيت الشّمسُ ترسلُ أشعّتها, واستمرَّت الأشعةُ الحمراءُ تغتسل بالماء طويلاً.

بذر الفلاّحُ الحبوب, وعاد إلى البيت. ومنذ ذلك اليوم تعلّقت نظراته بالسّماء, يدعو الله, ويراقب تراكم الغيوم.

مرّت أيامٌ طوال...

ثم نبتت في السّماء غيماتٌ رماديّة. وسرعان ما كبرت, وغدت غيمات سوداء رماديّة.

جابتِ الغيومُ السّماء, وكأنّها خرفانٌ وعجول تجوبُ التّلال والجبال والسيول... ثم بدت تلك الغيوم في أشكال وأشكال.

فرك الفلاّح كفّيه, وابتسم.

عَرُضت بسمتُه, وغرقت نظراته في قلب السّواد المتراكم.

كان ابنه الصّغيرُ يذاكر درسًا مهمّا في الجغرافيا عنوانه: (سقوط المطر). أطبق الصغير الكتاب, وقال:

- غريب!

سأل الأبُ, وهو ينظر إلى البعيد: ما الغريب, يا بنيّ?

أجاب الابن:

- غريبٌ أمرك, يا أبي.. تنظر إلى السَّواد يُغطّي وجه الشمس, وتبتسم!

فقال الأب: أفرح للخير القادم.

وأكمل الابن: وغريبٌ أمر هذه الشّمس. كانت, أمس, شقراء حلوة أرسلت أشعّتها إلى البحر.. بخَّرت مياهه, ثم غدا البخار غيومًا, وها هي الغيوم تحجبها وتخفيها.. عجيبٌ أمرُ هذه الشّمس تصنع ما يصبغُ وجهها بالسّواد, تصنع ما يخفيها!

هبّت ريح باردة. حمى كلٌّ من الفلاّح وابنه أذنيه بكفّيه.. ومض برق, قصف رعد, وتعالى صوت...

سمع الفلاّح وابنه ذاك الصّوت واضحًا:

- تحجبُ الغيوم وجهي.. صحيح هذا. ولكنَّها غيوم خضراء ترسلُ لكم الغيث, تشبع أفواه الأثلام, وتروي عطش الأرض, فتنشر الخضرة في كلّ أرض ويعمّ الخير.

سأل الصغير: ومتى تعودين?

وجاء الصوت قويًا:... وعندما تشرقُ الخضرة أطلُّ من جديدٍ وضّاءة حلوة...

التفت الأبُ إلى ابنه. كان الصبيّ لايزال يفكّر, وقال:

- إنّني فرحٌ بالغيوم الخضراء, يا بني... الشمس فرحةٌ بها أيضًا, الأرض والأشجار والنهر والعصافير... كل ما في العالم يفرح بعطاء الله.

هزّ الصبيُّ رأسه, واقترب يصغي, فأكمل الأب:

- خلق الله الكائنات, وجعل لكلٍّ منها دورًا يؤدّيه وفق نظامٍ دقيق... أداء الدَّور كما يجب طاعةٌ لله, يا بنيّ.

انفرجت شفتا الصغير عن ابتسامةٍ مشرقة, وقال:

- الآن فهمت... فهمت لماذا يعطي البحر ماءه وتضحّي الشَّمس بنورها وجمالها.

ضحك بهدوء, وقفز يعانق والده, ويقول:

- وعرفت لماذا تحرث أنت الأرض, ولماذا أدرسُ أنا...

شدَّ الأبُ ابنه إلى صدره, وتمتم: يسعدني فهمك.

عاد الصغيرُ إلى كتابه, فتحه, وقال:

- درسنا صعبٌ اليوم.

فقال الأب, وهو ينظرُ إلى البعيد:

- صعوبةُ الدَّرس غيمةٌ خضراء سرعان ما تثمر, يا بنيّ.

 


 

عبد المجيد زراقط