بيتنا الأرض


بيتنا الأرض

محطة أرصاد القواقع

(محمود أرصاد) كان زميلا لنا في المدرسة, ولقبه لم يكن أبدا (أرصاد), ولكننا أطلقنا عليه ذلك لأنه كان يجيد التنبؤ بحالة الجو, أفضل حتى مما يذاع في الراديو أو التلفزيون من نشرات جوية. ففي بعض الأيام كنا نذهب إلى المدرسة بملابس ثقيلة لأن مذيع النشرة الجوية حذرنا من برودة متوقعة في الجو, بينما محمود يأتي بملابس خفيفة تناسب الجو الدافئ. نضحك منه لأن الجو يكون غائما وينذر بالمطر, لكن لا تمر ساعة حتى تشرق الشمس ويصير الجو صحوا ودافئا, فنحتار ماذا نفعل بملابسنا الثقيلة. وفي أيام أخرى يحدث العكس, نأتي بملابس خفيفة متوقعين الطقس الدافئ تبعا لما نصحنا به مذيع النشرة الجوية بالأمس, لكن الجو يغيم, وتختفي الشمس وراء السحب ونرتعش من البرد في ملابسنا الخفيفة, بينما محمود ينعم بالدفء داخل ملابسه الثقيلة.

حيرنا محمود بدقة توقعاته لحالة الطقس, ولم نكن نعرف السر الذي يختبئ وراء تنبؤاته, لكن الفرصة جاءتنا لمعرفة السر عندما ذهبنا إلى محمود في بيته لنحتفل بعيد ميلاده. استقبلنا بترحاب وفرح, وبعد أن أطفأنا معه الشموع وغنينا له (سنة حلوة يامحمود), دعانا لنأكل (التورتة) وأخذ يفرجنا على الأشياء التي يفخر بامتلاكها. ومن هذه الأشياء أدهشنا صندوق زجاجي صغير مفروش بأوراق الخضرة وعلى الأوراق رأينا بضع قواقع, أشار إليها محمود وقال: (هذه هي محطة أرصادي الجوية وهي تخبرني بأن الطقس سيكون في الغد لطيفا). كيف? كيف يامحمود? أخذنا نلح عليه أن يشرح لنا كيف يتنبأ بحالة الجو من هذا الصندوق الزجاجي وقواقعه المنتشرة على الخضرة. وبعد إلحاح متكرر منا جميعا, قال محمود: (هذه القواقع تسمى (قواقع الحديقة) وهي منتشرة في كل مكان تكون به نباتات, وتسكنها كائنات رخوية ذات جسم طري ضعيف هي الحلزونات. القوقعة هي بيت الحلزون الذي يبنيه بإفراز مادة كلسية حول نفسه, غرفة وراء غرفة, وكل غرفة أكبر من سابقتها بما يتناسب مع نمو الحلزون. وبعد وقت كاف يصير الحلزون في قمة نضجه ويكف عن النمو. لكنه مهما كبر يظل رخوا وعرضة للخطر من أعدائه الذين يمكن أن يلتهموه بسهولة, ومنهم الطيور والفئران والثعابين والضفادع والقطط والكلاب. لهذا يظل الحلزون داخل قوقعته معظم الوقت, ولا يخرج حتى يتأكد من خلو المكان حوله من الأعداء. كما أنه لا يخرج عندما يكون الجو شديد البرد أو شديد الحر, وهو يطل من فوهة القوقع بملمسين دقيقين يحمل على قمتيهما عينيه الدقيقتين اللتين يستطلع بهما المكان. وله ملمسان آخران أقصر يحس بهما ويتشمم. ولأنه بطيء الحركة فهو يستشعر الطقس لفترة طويلة قادمة, تصل إلى بضع ساعات, لهذا يعرف هواة تربيتها حالة الجو المتوقعة من بقاء أو ابتعاد الحلزون عن قوقعته).

سكت محمود عن الحديث ونحن مندهشون, وسأله أحدنا عن حالة الجو غدا, فأجابنا: (معتدل, لا برد, ولا حر). ولما ألححنا عليه أن يخبرنا كيف استنتج هذا? طلب منا أن نميل على صندوقه الزجاجي الصغير وندقق النظر في الحلزونات المطلة من فتحات القواقع: رأيناها تخرج قليلا قليلا بنصف أجسامها, ورأينا لوامسها مثل هوائيات دقيقة تحمل في أطرافها العيون الدقيقة المدورة, وكانت هذه العيون تدور وتلعب في حذر!

 


 

محمد المخزنجي