تصوير: فهد الكوح

أنا صديقكم عبد الله ولد سيدي أحمد من نواكشوط عاصمة موريتانيا, إنني أشعر بالسعادة عندما تعرفونني على بلادكم من خلال ما تكتبونه.

وفي هذه المرة سوف أعرفكم على أسلوب التعليم في بلادي التي تقع بجوار المغرب على شاطئ المحيط الأطلسي. إنه أسلوب المحظرة.

إن الدراسة في بلادنا نوعان, نظامية على الطريقة الحديثة, حيث يتابع الطالب تعليمه المدرسي ويلتزم بمنهاج المدرسة مثل بقية العالم, والنوع الآخر هو أسلوب المحاظر وأنا طالب في إحدى المحاظر في نواكشوط.

أعلم أن معظمكم يا أصدقائي لم يسمع بهذه الكلمة, فالمحظرة مؤسسة تعليمية عرفت في موريتانيا في عصر المرابطين أي في القرن الخامس الهجري, وقد جاء اسمها من الحظيرة التي يجلس بها شيخ المحظرة وحوله التلاميذ وهو أسلوب يشبه الكتاتيب التي كانت تنتشر في الدول العربية الأخرى أو في جامع الأزهر حيث يجلس الطلاب في حلقة حول أساتذتهم يتلقون منهم العلوم ويصغون إلى محاضراتهم, وقال بعضهم إن اسم المحظرة جاء من (الحظر) لأن شيخها وطلابها لا يقتربون من المحرمات أو الشبهات.

منذ أكثر من عشرين عاما, كانت المحاظر هي الأسلوب الوحيد في التدريس وقد تخرج والدي منها وهو يتميز بثقافته العميقة وكثيراً ما حدثني عن الدراسة في المحاظر مبينا لي أن التعليم فيها لا يقتصر على سن محددة, فهناك محاظر للأطفال تبدأ بتعليمهم تهجية الحروف وكتابتها ثم تعلمهم القرآن وتستمر بالتدرج معهم حتى سن البلوغ فيبدأ الأطفال بتعلم الفقه وأصول الطهارة والصلاة وتأدية الفرائض الإسلامية, بعد ذلك يبدأ الطالب مرحلة الاختصاص فيدرس كتب الفقه المالكي وهو المذهب السائد في بلادنا ويقرأ (رسالة أبي زيد القيرواني) وهي أول كتاب في الفقه المالكي ويتوجه إلى دراسة النحو فيحفظ ألفية ابن مالك وكتاب (عبيد ربه) ويصل إلى المحظرة الجامعة ليعود ويبحث في الفقه الإسلامي ولكن بعمق فيدرس القرآن وعلومه والفقه وأصوله واللغة العربية بفروعها حتى يتعلم النحو والصرف والعروض وهي من فروع دراسة اللغة العربية, وإذا أجاد هذه الدراسات يجلس للتدريس أو للقضاء, وفي كلتا الحالتين يحظى بالتقدير والإعجاب.

ولا يشترط في المحظرة أن يكون لها بنيان خاص فربما كانت في أكواخ أو بيوت شعر أو في ظلال الخيام وفي الواحات, وحدثني والدي عن طلاب كانوا يتعلمون في محاظر متنقلة يلتزمون بها فيرتحلون على ظهور الإبل مع بعضهم, ويدرس في المحظرة شيخ جليل يعمل لوجه الله ومن أجل العلم فقط لا يبتغي جزاء ولا شكوراً وهو يتنقل من محظرة إلى أخرى.

مزايا المحظرة

وبالرغم من وجود المدارس بمراحلها والجامعة في نواكشوط فإن المحاظر لا تزال تنتشر وانتشارها الأكبر في المقاطعات الداخلية كشنقيط وأطار ووادان وتيشيت.

وعندما أردت أن أكتب إلى مجلتنا (العربي الصغير) هذه المادة زرت إدارة المحاظر والتعليم الأصلي التابعة لكتابة الدولة لمحو الأمية والتعليم الأصلي فأخبرني الشيخ سيدي عبد الله ولد الشيخ أن المحاظر على امتداد ترابنا الوطني يبلغ عددها أكثر من (1524) محظرة يدرس فيها (72800) طالب وهي في ازدياد مطرد وبعضها وبالأخص المحاظر العليا محاظر جامعية تدرس القرآن والنحو واللغة وبعضها محاظر متخصصة تدرس القرآن وعلومه فقط.

طلاب المحظرة

ويمتاز طالب المحظرة بالمواظبة على الدراسة وحفظ النصوص بعد حفظ القرآن غيباً, ويشجعنا أهلنا على الحفظ بالمثل الدارج (الطالب الذي لا يحفظ النص يتطمس) ويتطمس يعني يبحث عن شيء يتلمسه دون أن يعرف أو يرى ذلك الشيء.

كما أن طالب المحظرة وبحفظه للقرآن يصير قادراً على النقاش والفتوى وإثبات الحجة القاطعة بالنص غير القابل للجدل, وفي المحاظر نكتب على ألواح خشبية كل ما نتلقاه من علوم وكل ما نريد حفظه وبعد حفظه نمحوه لنكتب معلومات أخرى.. وهكذا.

وقد بدأت الحكومة تهتم في الآونة الأخيرة بخريجي المحاظر فأنشأت معهداً فنياً يتعلم هؤلاء الخريجون في ورشاته الحرف والمهن مثل الكهرباء, السباكة, الخدمات الفندقية, البناء, الحدادة وإصلاح السيارات. وهذا المعهد يضع بين يدي الشبان حرفاً تدر عليهم الأموال, وبالنسبة إلى خريجات المحاظر فإن المعهد يعلمهن على الكمبيوتر واستخداماته.

كانت المحظرة سابقاً تتشكل من سعي الطلاب أنفسهم ليتلقوا العلوم على يد شيخ اشتهر بإجادة علم من العلوم, فيلتفون حوله ويتعلمون على يديه ويتنقلون إلى مكان إقامته أحياناً.

ويحكى أن الشيخ المتمكن كان يرحل قديماً بأربعمائة طالب, وقد كانت سمعة علماء شنقيط ولا تزال تبعث في النفس الطمأنينة إلى أنك لا تناقش مثقفاً عادياً وإنما عالماً متمكناً. وشنقيط هو الاسم القديم لموريتانيا بأكملها, أما اليوم فهو اسم لإحدى مقاطعاتها.

ولطـــلاب المحاظــر وللمحاظر دورٌ في مقاومة الاستعمار الفرنسي, فقد وقفـت ا كالشوكــة في حلوقهم وحافظت على اللغة العربية أمام موجة الثقافة الفرنسية ومحاولة الفرنسة التي اجتاحت البلاد زمن الاحتلال.