فراسة العرب

فراسة العرب

في ظهيرة يوم حار, اقتحم مجلس القاضي أعرابيّ, وهو يصرخ:

- بعيري... سرقوا بعيري... أيها القاضي...

تأمل القاضي الأعرابي الغاضب... كان هذا يلهث, وهو يحاول, دون جدوى, مسح العرق عن شفتيه وأنفه وعينيه, بطرف كوفيّته وهو يردد:

- بعيري... سرقـوا بعيري... وعليه حمل عسل.

شغل الأعرابي بعطسة قوية فاجأته, فاغتنم القاضي الفرصة, وقال:

- إهدأ, يا رجل, وارتح, في غد ننظر في قضيتك.

صاح الأعرابي: لا... لا, يا سيّدي.

سأل القاضي: ألا تنتظر حتى نحضر المتهمين?!

قال الأعرابي: المتهمون في الخارج ينتظرون الإذن بالدخول.

سأل القاضي: من أحضرهم?!

قال الأعرابي: أتوا من تلقاء أنفسهم.

فكّر القاضي لحظات, ثم قال للحاجب: أدخل الرجال المنتظرين في الخارج.

دخل رجال أربعة. حيّوا, ووقفوا في زاوية غير بعيدة عن القاضي.

تأملهم هذا وفكّر:

- (يبدون من علية القوم, يتصرّفون بأدب... أتوا إلى مجلس القاضي من تلقاء أنفسهم.. .هل يسرق هؤلاء بعيرا)?!

ثم خاطب الأعرابي: ما دليلك, يا أخ العرب, على أن هؤلاء سرقوا بعيرك?

فصرخ الأعرابي: دليلي واضح... شرد بعيري... لحقت به... اختفى في ديار هؤلاء الرجال... ولما التقيت بهم, وسألتهم عنه, وصفوه لي وصفا دقيقا, ثم أنكروا رؤيتهم له.

سأل القاضي الرجال: هل ما قاله هذا الأعرابي صحيح?

ابتسم الرجال, وتبادلوا النظرات.

فصرخ الأعرابي: لا تصدّقهم, يا سيدي, مهما قالوا... قالوا لي:

- بعيرك أعور بالعين اليسرى, يعرج... ذنبه مبتور, يحمل عسلا, وهو كما وصفوه تماما, ثم أنكروا رؤيتهم له, بعيري يحمل عسلا, ياسيدي, هو كل ما أملك...

عاد القاضي يسأل الرجال: هل ما قاله هذا الرجل صحيح?

قال كبير الرجال: صحيح.

فقال القاضي بسرعة: كيف تصفون البعير وصفا دقيقا ولا تقرون برؤيته?!

فقال الرجل الأول: لاحظت أن البعير لم يرع من العشب سوى القائم على يمين الطريق, فعرفت أنه لا يرى بعينه اليسرى.

وقال الرجل الثاني: ولاحظت أن آثار إحدى قوائمه أكثر عمقا, فعرفت أنه كان يشد عليها أكثر فتغوص في الرمال...

وقال الرجل الثالث: ولاحظت أنه عندما برك ترك خطا قصيرا مستقيما, فعرفت أن ذنبه مقطوع.

وقال الرجل الرابع: أما أنا فلاحظت أن صفّا من النحل يمتد طوال الطريق, فعرفت أن البعير يحمل عسلا, وتقطر من الحمل قطرات يتجمّع عليها النحل...

نظر القاضي إلى الرجال بإعجاب, وقال: فراسة تكافأون عليها وتُحمدون.

فصرخ الأعرابي: وأنا ما شأني بفراستكم?! أريد بعيري وحمل العسل...

فخاطب القاضي الرجال: وما دمتم تملكون هذه الفراسة فلِم لم تساعدوا الرجل في العثور على بعيره?

فقال كبير الرجال: لم يترك لنا فرصة.

فقال القاضي: وإن أعطيناكم هذه الفرصة?

فقال الرجل الرابع, وهو يضحك: نقول للأعرابي: اتبع خط صف النحل تجد بعيرك في نهايته...

قفز الأعرابي, وعانق الرجل, وهو يقول: ليتك قلت هذا الكلام من الأول...!

ثم قفز إلى الخارج, وراح يعدو صوب البادية...

 

 


 

عبدالمجيد زراقط