آخر أيام القراصنة

آخر أيام القراصنة

راية سوداء, مرسوم عليها جمجمة وعظمتان متقاطعتان, سفينة تتقافز فوق الموج, أشرعتها صغيرة, لذلك تدفعها الرياح بسرعة أكبر, وفوق ظهرها أناس يصيحون في غضب, واحد منهم أعور ويضع على عينه عصابة سوداء, وثان يتقافز فوق ساق خشبية, وثالث مقطوع اليد ويضع بدلا منها خطافا من المعدن, مسلحون بالسيوف والخناجر والمسدسات, يقتربون من سفينتنا بسرعة, يقفزون فوقها مثل الحيوانات الجائعة, لا يتركون لنا فرصة للهرب, يقتلون كل من يقاومهم, ويأسرون الضعفاء ليبيعوهم عبيدا فيما بعد, ولا يبحثون إلا عن شيء واحد, الذهب والمزيد من الذهب, هؤلاء هم القراصنة, لعنة البحار المفتوحة, والعدو القاتل لكل السفن التجارية المسالمة, لقد تحوّلت البحار والمحيطات بسببهم إلى مناطق للرعب, فهم يختبئون في الجزر الصغيرة النائية ثم يظهرون فجأة, لا أحد يغرف من أين جاءوا ولا متى سيهاجمون?

جزيرة الكنز

هذه هي ذكرياتي عنهم, وهي التي جعلتني أكتب أشهر رواية كتبت عن القراصنة بعنوان (جزيرة الكنز), ولكن... لقد نسيت أن أقدم لكم نفسي, اسمي روبرت لويس ستيفنسن, كاتب إنجليزي, عشت قريبا من الفترة التي كان فيها هؤلاء القراصنة يتسيّدون فيها البحار, وشاهدت بعضا منهم وهم يتشاجرون في الحانات, والبعض الآخر وقد ألقي القبض عليه, لذلك خطرت لي فكرة الرواية التي يرويها فتى صغير في السن, لقد التحق هذا الفتى رغما عنه للعمل على ظهر واحدة من سفن القراصنة وكان يحمل معه خريطة لكنز مخفي في جزيرة نائية, وبسببها خاض العديد من المغامرات حتى يظفر بهذا الكنز قبل أن يستولي عليه القراصنة, وقد حققت هذه الرواية نجاحا كبيرا وأحبها القرّاء من كل الأعمار وقدمتها السينما في أكثر من فيلم ومسلسل.

ولكن دعوني أولا أقول لكم شيئا عن تاريخ هؤلاء القراصنة, وكيف ظهروا في البحار?

أقدم أنواع اللصوص

إنهم لصوص من نوع مختلف, بحارة مهارون, شجعان, ولكنهم اختاروا أن يكونوا خارجين على القانون, ربما بدافع الانتقام, أو ربما لأنهم لم يجدوا مكانا مناسبا فوق اليابسة, وربما لأن البعض منهم كان طمّاعاً أكثر مما ينبغي, ولكنهم في النهاية تحوّلوا إلى مصدر رعب لكل سفن العالم.

في الألف الثالثة قبل الميلاد كان المصريون القدماء يعانون هم أيضا من قراصنة البحار, فالإغريق أو اليونانيون القدماء, بسفنهم الصغيرة والخفيفة كانوا يمارسون التجارة والسرقة في الوقت نفسه, وقد اضطرت الإمبراطورية الرومانية في أوج قوتها إلى أن تخصص حملة مهمتها الوحيدة هي البحث عن هؤلاء القراصنة, ومن الشمال جاء أشهرهم من شعوب الفايكنج الذين لم يكونوا يهاجمون السفن فقط, ولكنهم كانوا يهاجمون الشواطئ والمدن أيضا.

العرب أيضا عرفوا سفن القراصنة, فعندما طردوا من الأندلس وأخذت منهم ديارهم وأراضيهم, ركبوا السفن وقرروا الانتقام من الإسبان الذين طردوهم, وفي بداية القرن السادس عشر جاء أشهر هؤلاء القراصنة ذوي اللحية الحمراء, هل تعرفون من هما? كانا أخوين اسمهما الأخوة (باربروس) لم يكونا عربيين, ولكنهما جاءا من اليونان واعتنقا الإسلام, أحدهما كان بساق واحدة والأخرى خشبية, تماما كما وصفتهما في روايتي, وقد عملا معا لصالح الباب العالي في تركيا, وقاما بالاستيلاء على إحدى السفن التي تخص بابا روما وغنما منها غنائم ذهبية ثمينة, ولكن دخولهما في الإسلام لم يمنعهما من مهاجمة مدينة الجزائر والاستيلاء عليها, لقد كانا قراصنة قبل كل شيء.

لصوص بأمر الملكة

القراصنة لم يكونوا يعملون وحدهم في أغالب الأحيان, ولكن كانت هناك دول كثيرة تساعدهم في الخفاء ماداموا يعملون لصالحها ولا يهاجمون سفنها, أشهر هذه الدول هي بريطانيا التي كانت في ذلك الوقت من القرن السادس عشر تدّعي أنها أكثر دولة تعاني من القراصنة وخاصة الذين يقبلون عليها من بحر المانش, لقد كانت إليزابيث ملكة إنجلترا في حروب دائمة مع إسبانيا, وكانت حانقة لأن إسبانيا سبقتها إلى اكتشاف أمريكا بحوالي ستين عاما, بل وأخذت من هذا العالم الجديد كميات كبيرة من الذهب, كان الإسبان مولعين بالذهب لدرجة أنهم صنعوا منه سنابك ذهبية لخيولهم, وتعاونت الملكة مع أشهر قرصان يجوب البحار في ذلك الحين هو فرانسيس دريك, الذي كان إنجليزي الأصل, وقد أعطته ألف ريال ذهبي ومدته في السر بحوالي خمس من السفن المسلحة بالمدافع وجعلته يبحر إلى شواطئ العالم الجديد حتى يصيد السفن الإسبانية.

وهكذا بدأ ذلك القرصان الذي أصبح فيما بعد أشهر قرصان في التاريخ في السطو على كل ما هو إسباني, رحل إلى شاطئ بنما ونهب قافلة من البغال كانت تحمل ذهبا, وكانت هذه هي البداية, واصل مهاجمة كل السفن, وأغار على كل المدن التي يشك أن فيها إسبانا يجمعون الذهب, وأخذ العديد من الأسرى, وقام بأشهر مغامراته حين استجمعت كل السفن الإسبانية قوتها وقررت محاصرته والقبض عليه في عرض البحر, ولكنه أسرع بعبور مضيق ماجلان إلى الجانب الآخر من العالم, وعبر مياه المحيط الهادي وطاف الكرة الأرضية كلها قبل أن يعود إلى إنجلترا من خلف ظهر الإسبان.

وقد استقبلته إنجلترا استقبال الأبطال, ومنحته الملكة رتبة (سير) وعيّنته أميرالا في البحرية, وخاض مع الأسطول البريطاني معركة (قادش) التي تم فيها تدمير الأسطول الإسباني (الأرمادا) وأصبحت إنجلترا منذ ذلك الحين هي سيدة البحار.

وهكذا تحوّل القرصان إلى بطل قومي.

نهاية القراصنة

كان للقراصنة جزر خاصة يختبئون فيها ويقومون بتقسيم الغنائم والمشاجرة في حاناتها, وكانت جزيرة تورتوجا في المحيط الأطلنطي هي أشهر هذه الجزر, ولم تكن أي سفينة تجرؤ على الاقتراب منها, بل إن واحدا من هؤلاء القراصنة هو هنري مرجان وهو من أصل إسباني استطاع أن يكوّن ثروة طائلة من السطو على السفن والمدن, ومن الغريب أن هذا القرصان الشهير قد أخذ الجزء الأكبر من الغنائم التي ظفر بها واستقر في جزيرة جامايكا وأصبح حاكما لها, وتحوّل به الأمر إلى أن يصبح واحدا من أكبر الذين يحاربون القرصنة ويسعون للقضاء عليها.

ومع بداية القرن الثامن عشر كان التجار, والدول التي طالما ساعدت القراصنة قد ضاقت ذرعا بهم. وأخذوا يبحثون عن وسيلة للتخلص منهم, لذلك فقد تكوّنت من إنجلترا وفرنسا وأمريكا فرق خاصة لمطاردة هؤلاء القراصنة والقبض عليهم وأخذهم إلى الشاطئ لمحاكمتهم, كما أن القراصنة السابقين الذين جمعوا ثروات طائلة واستقروا في جزر الأنتيل وعملوا في التجارة تحوّلوا إلى أن يصبحوا أكبر المعادين لوجود القراصنة, وبالتدريج أخذت الموانئ المفتوحة تغلق نفسها أمام سفنهم وتطوّرت مدفعية الشواطئ بحيث أصبحت قادرة على إصابة أي سفينة تحاول الاقتراب من الشاطئ.

ولعل خير مثال على نهاية القراصنة هو ما حدث للكابتن (كيد), لقد خرج هذا البحار من نيويورك في عام 1695 على ظهر سفينة لمطاردة القراصنة, وإذا به يتحول ليكون واحدا منهم, وقتل القائد الذي كان معه وأخذ يسطو على السفن الإنجليزية التي يقابلها في البحر الأحمر. وعندما أحس أنه قد أصبح ثريا حاول العودة إلى نيويورك ليعيش عيشة الأبرياء ولكن تم القبض عليه وتسليمه إلى إنجلترا التي حاكمته عن كل جرائمه بالإعدام شنقا ونفذ الحكم وظل جسده المدهون بالقار معلقا أياما طويلة فوق رصيف الميناء ليكون عبرة لكل القراصنة.

لقد انتهى زمن القراصنة, وأصبحت البحار أكثر أماناً الآن, وقامت كل دولة بحراسة شواطئها ولكن من يعرف, ربما يمكن أن يظهر في البحار البعيدة قرصان ما!

 


 

محمد سيف

 




القراصنة بعد أن استولوا على إحدى السفن, إنهم يهددون قائدها بالسيف ويأخذون بحارتها أسرى.





اكتشافات في إحدى سفن القراصنة الغارقة, المدافع الغارقة, وغرفة البارود.





أحد الأسلحة التي كان يستخدمها القراصنة, وبجانبه بعض الطلقات التي كان يتم حشوه بها.