قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

ابن يونس

البحث عن الشمس والقمر

إنها تصعد كل يوم من المكان نفسه.. تملأ بنورها الأرض, والجبال وبعد ساعات تغوص في البحر.. وتختفي.

لكنها سرعان ما تعود للظهور في صباح اليوم التالي.

إنها تدور.. وتدور.

إنها الشمس.

هكذا أخذ الطفل الصغير (علي) يتابع صديقته الشمس كل يوم.. أحب أشعتها الحارقة صيفا, والدافئة شتاء, لا تتوقف عن الوفاء بعهدها في الظهور والاختفاء كل يوم.

وصارت الشمس حبيبته التي يراقبها.

ومن أجل الشمس كان يجلس عند أطراف المدينة, في الجبل, ينتظرها أن تعود, وفي أثناء انتظاره تعرف على صديق جديد جميل الشكل, إنه القمر.

وأطلق عليه زملاءه في الكتّاب اسم (صديق الشمس والقمر), وكانت هذه التسمية سببا حقيقيا لسعادته, وهو يردد:

- وهل هناك أجمل من أن تصير الشمس حبيبتك, والقمر صديقك?

حدث ذلك في النصف الأخير من القرن العاشر الميلادي, بالضبط في عام 951م, أي حين بلغ الصغير عبدالرحمن بن يونس العاشرة من العمر.

قال يوما لنفسه:

- ترى هل يلتقي الشمس والقمر يوما.. هل يصيرا صديقين?

لم تكن هناك إجابة محددة.

لكن الصغير لاحظ أن الشمس والقمر يتحركان بحساب دقيق في الأفق.. وأن كلا منهما لا يتخلف عن موعده في الظهور.

وراح يدرس هذا الحساب بدقة.. إنه علم الفلك.

وقد ساعده في ذلك إقامته في منطقة حلوان, عند أطراف القاهرة, حيث الجبال العالية التي يمكنه عندما يصعد إليها أن يرى القمر أكثر قربا.

وكبر الصغير ابن يونس,وكبرت معه رغبته في أن يتعرف أكثر على الشمس والقمر, وعرف أن الشمس حين تلتقي بالقمر يتولد الكسوف والخسوف.

الكسوف, يحدث حين يكون القمر بين الشمس والأرض, فتختفي الشمس كلية, أو أجزاء منها.

أما الخسوف, فحين تكون الأرض بين الشمس والقمر, فيختفي القمر تماما أو أجزاء منه عن الرؤية.

وكان علي بن يونس أول من رصد هاتين الظاهرتين من العلماء العرب في العام الميلادي 978.

وحين حدث كسوف الشمس في ذلك العام, كتب العالم الشاب مقالا طويلا أرسله إلى علماء الفلك في مصر, والوطن العربي.

واستدعاه الحاكم العزيز الفاطمي أبو الحاكم, وقال له:

- ما رأيك أن تكون مستشارا علميا لي.

وتفرغ الشاب للعلم. وراح يفكر في العديد من الاختراعات.

وبعد عدة سنوات, قام باختراع البندول, الذي يتحرك في اتجاهين مختلفين, أو عدة اتجاهات بانتظام شديد.

وكان البندول أساس ظهور اختراعات عديدة, أهمها الساعات الآلية.

هذا البندول الذي استفاد منه العالم الإيطالي (جاليليو) وهو يقيس قطر الأرض, ويثبت أن الأرض تدور حول الشمس.

ولم يكن للشاب أن يتوصل إلى هذا الاختراع لولا براعته في علوم الرياضيات خاصة حساب المثلثات, الذي يعتمد على علاقة الزوايا والأضلاع في المثلث, ومنه يمكن تحديد أبعاد الأشياء من حولنا.

وعندما جاءه الحاكم ليزوره ذات يوم, سأله:

- قل لي, يا علي.. يذاع أنك صاحب أكثر من اختراع, لك في كل فترة اختراع.

ردد (علي بن يونس):

- كله بفضل تشجيعك يا مولاي.. لقد أمددتني بكل ما أحتاج إليه من آلات وأدوات أستطيع بها مواصلة اختراعاتي.

وراح يشرح للحاكم آخر ما توصل إليه عن طريق براعته في حساب المثلثات بدا الحاكم مندهشا بشدة, فالعالم قد تمكن من تحديد قطر الأرض, التي لم يكن أحد يعرف آنذاك أنها كرة.

وفي تلك الأمسية, جلس الحاكم يستمع, وهو الذي اعتاد أن يأمر ويتكلم, واكتشف الثراء الذي يتسم به العالِم, وهو يعرض عليه آخر ما توصل إليه في عمليات الضرب والجمع, ردد الحاكم:

- هذه أشياء معقدة.. صعبة.

ضحك (علي) وهو يقول:

- الحساب يبسط الحياة, ولا يعقدها.

ردد الحاكم: أنت أعلم بشئون علمك الواسع.. استمر على بركة الله..

وقبل أن يغادر الحاكم المكان, رأى مجلدا ضخما فوق مائدة قريبة من الباب, سأل:

- لا تقل لي أنك مؤلف هذا الكتاب.

ردد (بن يونس) ضاحكا: أهديك هذا الكتاب يا مولاي.. إنه كتاب الرياضيات.

قال الحاكم:

- استمر في تأليفه.. فالعلم لا ينتهي.

ولم يكن الاثنان يعرفان أن العالم الفرنسي (كوسان) سيقوم بترجمة هذا الكتاب بعد سنوات قليلة من وفاة ابن يونس عام 1009 ميلادي, ليصبح مرجعا في علم الرياضيات لقرون عدة.

 


 

محمود قاسم