في حلبة المصارعة: الجولة الأخيرة لمصارع الثيران

في حلبة المصارعة: الجولة الأخيرة لمصارع الثيران

أجل يا أصدقائي الصغار, هذه هي جولتي الأخيرة, رغم كل صرخات الجماهير التي تحيط بي, والزهور التي يلقيها الجميع علي, وتلك الثياب البراقة التي أرتديها, ثياب الشهرة والمجد, رغم كل ذلك لن انزل إلى حلبة مصارعة الثيران مرة أخرى.

لم أعرفكم بعد بنفسي, اسمي كما ترون في الإعلان المنشور بجانب هذه الكلمات (خوليو اباريكيو) واحد من اشهر مصارعي الثيران الذين عرفتهم إسبانيا, اوالميتادور كما يطلقون علينا في اللغة الاسبانية, وكما تعرفون فنحن الاسبان نعشق الرياضة بجنون, وأشهر هذه الرياضات هي كرة القدم التي نتشارك مع بقية العالم في حبها, وعندنا واحد من امهر الفرق هو (ريال مدريد), ولكن مصارعة الثيران هي الرياضة الأخرى التي لا يشاركنا فيها احد إلا جيراننا في البرتغال وجنوب فرنسا, البعض ينتقدنا لهذا الأمر قائلا إن هذه المصارعة ليست رياضة على الاطلاق, بل إنها عملية تعذيب وقتل وحشية للثور المسكين الذي لا يفهم شيئا مما يدور حوله, ولكننا مهووسون بها ونرى انها رياضة الفن والجمال, أو على الاقل هذا ما كنت اعتقده ,فمنذ أن كنت صغيرا في السن وأنا اشعر بأنني قد خلقت كي أكون مصارعا, ولأن ابي يمتلك مزرعة لتربية الثيران التي تعد لهذا الغرض, فقد كنت دائما اهبط إلى الثيران الصغيرة التي لم تكتمل قرونها بعد حتى اصارعها.

تجهيز الثور

وثيران المصارعة ليست عادية,ولكنها قوية, نقية السلالة, جاءت من افريقيا واستقرت في بلادنا منذ مئات السنين, لا يختلط دمها بالثيران العادية التي تعد للذبح, جسدها كله مليء بالعضلات, ولا يوجد فيها إلا اقل درجة ممكنة من الدهون, وقرونها طويلة ومدببة ولامعة, وكل مزرعة تضع علامة مميزة على الثيران التي تربيها, وهي تحاول المحافظة على الغرائز البرية لهذه الثيران حتى تجعلها هائجة دوما, لا تحاول أن تجعلها أليفة, وهي تبعدها عن رؤية الناس من حولها, ولا يتم التدريب على المصارعة مع الثيران إلا بعد منتصف الليل تحت ضوء القمر, ويسمح فقط للمصارعين بالاقتراب منها,بينما يمنع حضور المشجعين, ويصبح الثور جاهزا للمصارعة عندما يكون عمره ست سنوات ويتعدى وزنه 400 كيلــوجرام.

في القرن الثالث عشر كان يحكم اسبانيا ملك حكيم هو الفونسو الثاني, وكان النبلاء من اتباعه يمارسون رياضة مصارعة الثيران من على ظهور جيادهم وهم يمسكون بالعصي, وعندما وجدوا ان هذه الثيران هائجة وخطرة بدأوا يصارعونها بواسطة الرماح, وبالتدريج خرجت هذه الرياضة من بين نبلاء القصر إلى عامة الشعب, ومع القرن التاسع عشر اصبحت كل مدينة بل واحيانا كل قرية تحتوي على حلبة لممارسة (الكوريدا) وهي التسمية الاسبانية للمصارعة, وتحولت إلى احتفال يحضره الجميع, واصبحت المصارعة تدور والمصارع أو الميتادور واقفا على قدميه, دون جواد, في مواجهة الثور الهائج تماما, وهنا تكمن براعته في الاقتراب من الثور إلى اقصى حد دون ان يصاب بقرنيه الحادين, والمصارع الذي ينجح في ذلك يصبح نجما كبيرا مثل نجوم السينما والغناء وكرة القدم.

إعداد المصارع

من أجل ذلك أحببت أن أكون مصارعا,أحببت أن أرتدي (حلة الضوء) التي يرتديها المصارعون ويسمونها كذلك لأنها مشغولة بخيوط الفضة والذهب,وأن اقف في وسط الحلبة أمام الجميع وهم يصيحون (اوولا) بعد كل حركة شجاعة أقوم بها, لقد تمرنت طويلا, وحافظت على وزني ورشاقتي, وتعلمت الوثب الطويل, والإفلات ببراعة من أمام قرني الثور,واهم شيْ تعلمته هو كيف اعرف الطريقة التي يفكر بها الثور واتوقع الحركة التي سيقوم بها.

لم أبدأ نجما بطبيعة الحال, ولكني تدرجت في الحلبة من حامل للأسهم, إلى مساعد للمصارع الرئيسي, ثم أصبحت مصارعا أي (توريرو), يحق لي أن اقف وحدي في مواجهة الثور بينما يختبئ بقية المساعدين في جنبات الحلقة ليتدخلوا لإنقاذي إذا كان هناك خطر.

سأحكي لكم وقائع اليوم الأخير والجولة الأخيرة, وسوف تعرفون منها كيف تتم عملية المصارعة, وتعرفون أيضا لماذا قررت التوقف.

النظرة الاخيرة

تبدأ المصارعة عندما يجلس الرئيس والمساعدون في صدر الحلبة , وهم دائما من خبراء اللعبة او من المصارعين السابقين, يعطي إشارة البدء ليدخل موكب المصارعين, في المقدمة يكون هناك فارس على جواده يمسك رمحا, ثم خلفه يقف بقية الميتادور, المصارع الأصغر في المنتصف, والمصارع الرئيسي على اليسار, ثم بقية المساعدين, نتقدم جميعا ونحيي الرئيس ثم نحيي الجمهور, ثم ينسحب الفارس على جواده, وتأتي لحظة دخول الثور.

في هذا اليوم كان الثور اسود اللون, كأنه قطعة من الليل, هائجا, سريع الحركة. ما إن دخل من باب الحلبة وسمع صياح الجماهير حتى هاج أكثر, شاهد المساعدين وهم يلوحون له بالملفحة القرمزية فهجم عليهم فأسرعوا جميعا بالاختباء خلف الحواجز الخشبية فأخذ ينطحها دون جدوى, وحانت لحظتي للخروج, اقتربت منه في حذر وفي خطوات منسقة على عزف الموسيقى, وضعت الملفحة القرمزية أمام جسدي فهجم علي, ولكني أبعدتها في اللحظة الاخيرة, وجعلت الثور يمرق من تحتها دون أن أتحرك من مكاني, سمعت الجماهير وهي تصيح(أوولا) فأدركت أنني حصلت على إعجابهم, دام الامر بضع جولات وأنا أزداد اقترابا من الثور, ثم حانت لحظة حملة السهام, خرج المساعدون من خلف الحواجز وكل واحد منهم يحمل سهمين, من المفروض ان يرشق كل واحد منها في ظهر الثور, إنها عملية خطرة وتحتاج إلى المهارة, فالمصارع يقف أمام الثور , ويقفز عاليا في الفضاء ويرشق السهام في ظهر الثور, ستة سهام كاملة تم رشقها في جسد الثور فزاد هياجه وهجم على المساعدين واصبح من الصعب السيطرة عليه, كان الدم يسيل منه ولكنه ظل يقاومنا جميعا.

حانت لحظتي مرة أخرى, دخلت على الثور الهائج وأخذت أحركه بواسطة الملفحة, أحركه في وسط الحلبة كما اريد, حتى رفع الرئيس المنديل الابيض إلى أعلى, وهي علامةعلى أن الوقت قد حان لقتل الثور, تناولت السيف ووقفت متحفزا, كان يجب ان ادخل السيف بين قرنيه, خلف الرأس حتى ينفذ مباشرة إلى قلبه, هذه هي أخطر لحظة في المصارعة, لأن من الممكن أن يبادر هو ويهجم علي بقرنيه, ولكني كنت أسرع منه بادخال السيف في جسده حتى مقبضه, وصاح الجمهور في هياج, ورغم ذلك ظل الثور واقفا, الدم ينزف من جسده وهو صامد, حاول ان يهجم علي فتدخل المساعدان لانقاذي, بدأ يهجم محتارا في كل الاتجاهات, رغم طعنة السيف والسهام المعلقة في جسده كان صامدا, يقاومنا جميعا, وبدأ الجمهور يصفر غير راض عما نفعله.

ثم توقف الثور, نظر إلينا مدهوشا وأدار ظهره لنا, لم يعد يهجم او يستجيب لأي تحرش منا, بدا كانه يبحث عن باب الحلقة ليعود لمزرعته أو الحقل الذي كان يرعى فيه, سرنا خلفه ونحن مدهوشين, توقف ثم استدار نحوي, نظر إلي بعينين واسعتين مليئتين بالحزن, ربما كان يسألني , لماذا فعلت بي ذلك, لماذا غرست سيفك في جسدي, لماذا تتحرشون بي جميعا, لماذا كل هذا الصراخ والصياح, ثم فجأة سقط على الأرض, لم يعد يستطيع الحركة أو المقاومة أكثر من ذلك.

هلل الجميع من أجل ضربتي الموفقة , وأخذ الرئيس يلوح لي بالمنديل الأبيض, وألقت الفتيات علي الزهور, ولكنني كنت حزينا, لم أستطع أن أنسى بسالة هذا الثور, ولا تلك النظرة الحزينة التي رمقني بها, من أجل هذا قررت الاعتزال, وهذه هي الجولة الاخيرة.

 


 

محمد المنسي قنديل