الخيط الذهبي

الخيط الذهبي

قصة شعبية فرنسية

(بيتر) صبي ذكي إلا أنه كان ضيق الصدر ودائم الشرود والتأمل في المستقبل سألته المعلمة مرة عما يفكر به فأجابها قائلا:

(إنني أفكر بما سأكون في المستقبل).

فردت عليه المعلمة مؤنبة إياه: (تريث قليلا يا بيتر لديك الكثير من الوقت لتكبر. كن صبوراً فليس كل الكبار سعداء).

لكن بيتركان قليل الصبر ولم يستطع الاستمتاع بالزمن الذي كان يعيشه بل كان يتوق دوماً لما هو آت. ففي فصل الشتاء كان يتمنى أن يبدأ فصل الصيف وفي فصل الصيف كان يتوق للتزلج على الجليد وخلال ساعات الدراسة كان يتوق للعودة إلى البيت.

وفي أواخر أيام العطلة الأسبوعية كان يبكي ويتمنى أن تبدأ العطلة الصيفية. أما الشيء الوحيد الذي كان يسعد به فهو السير عبر الغابة والجلوس تحت ظل أوراق أشجارها الكثيفة والتأمل في المستقبل. وفي أحد الأيام وبينماكان بيتر جالسا تحت ظل الشجرة يقاوم النعاس إذ به يسمع صوتا يهتف به قائلا: (يا بيتر.. يا بيتر).

نظر بيتر نحو مصدر الصوت ليجد عجوزاً تحمل كرة فضية يتدلى منها خيط ذهبي. وقالت العجوز وهي تمسك بالكرة الفضية:

(انظر يا بيتر إلى هذ الـكرة الفضــية ما أجملهـا إنها هديتي لك يا صغيري).

تأمل (بيتر) الكرة الفضية ولمس بفضول الخيط الذهبي المتدلي من وسطها وصاح قائلا: (ما هذا?).

فأجابته العجوز: (إنه خيط الحياة إن تركته على حاله فحياتك ستمضي كالمعتاد أما إذا كنت تريدها أن تمضي بشـــكل أسرع فما عليك إلا أن تشد الخيـط فتمــضي الساعات كالدقائق. لكنني أحذرك يا صغيري بأنه لا يمكنك أن تعيد الخيط إلى ما كان عليه بعد أن تشده لأنه سوف يختفي مباشرة. كما عليك ألا تخبر أحداً عن سر هذه الكرة الفضية والا ستنتهي حياتك في الحال).

أمسك بيتر بالكرة الفضية بسعادة وأخذ يقلبها بهدوء. كانت كرة خفيفة الوزن صلبة تشع بوميض خاطف تحت أشعة الشمس.

شكر بيتر العجوز ثم وضع الكرة الفضية في جيبه وهرول نحو البيت.

في اليوم التالي بينما كان بيتر يجلس في الصف شارد الذهن كعادته تداعبه أحلام المستقبل إذ بالمعلمة تؤنبه لعدم مشاركته في الدرس.

تضايق بيتر كثيرا فأدخل يده في جيبه وتحسس الكرة الفضية ثم فكر مليا: (ماذا لو حاولت شد الخيط الذهبي بقدر قليل جدا فينتهي بذلك اليوم الدراسي وأعود إلى البيت). راقت لبيتر الفكرة كثيرا فشد الخيط بحذر ثم فجأة سمع المعلمة تودع التلاميذ وتطلب منهم التهيؤ للاصطفاف بشكل نظامي استعدادا للعودة إلى البيت.

طار بيتر فرحا وأخذ يفكر بالحياة السهلة التي سيعيشها منذ الآن والمشاكل التي سيتجاوزها بمجرد جذب الخيط الذهبي. ومنذ ذلك الوقت بدأ بيتر بجذب الخيط الذهبي قليلا كلما واجهته مشكلة في الصف.

وفي إحدى الليالي وبينما كان متمددا على سريره يتأمل الكرة الفضية قرر أن يجذب الخيط الذهبي بقوة أكثر كي يتخلص من المدرسة بشكل نهائي وليبدأ حياته المهنية فجذبها بشدة واستغرق بالنوم.

في الصباح استيقظ بيتر ليجد نفسه وقد أصبح نجارا ماهرا يعمل في ورشة للنجارة بالمدينة. أحب بيتر عمله كثيرا وكانت رائحة الأخشاب المعبقة برائحة الغابة تنعش قلبه لكنه كلما شارف مصروفه الأسبوعي على الانتهاء سارع بجذب الخيط الذهبي كي تمتلئ جيوبه بالنقود ثانية.

توالت الأيام بسرعة تمت خلالها خطبة بيتر على ابنة عمه وحدد يوم الزفاف لكن لسوء حظه تسلم رسالة رسمية تطلب منه الالتحاق بشعبة التجنيد فورا. أصيب بيتر بالإحباط لكن ابنة عمه شجعته وأمدته بالأمل قائلة: (هيا ستمضي الأيام سريعا وستكون فرصة لنا للتحضير لحياتنا الجديدة).

راقت لبيتر حياة الجندية واستمتع بواجباتها وبصحبة الشباب فيها فأحجم عن جذب الخيط الذهبي.

لكن ما إن مضى بعض الوقت حتى ساءت حالته وبدأ الملل يتسرب إلى حياته فأخذ يجذب الخيط الذهبي بين الفينة والأخرى حتى مضت فترة الجندية كالحلم.

تم زواج بيتر على ابنة عمه وسط فرحة وبهجة الأهل لكن بيتر أصيب بالذعر حينما أدرك لأول مرة كم شاخت والدته فشعر بالذنب لجذبه الخيط الذهبي أخيرا وعاهد نفسه ألا يجذب الخيط الذهبي إلا عند الضرورة القصوي لاسيما أن الجميع كانوا يرددون على مسامعه أن هذا العمر هو أجمل أيام حياته.

مرت الأيام وأصبح بيتر والدا لطفلة جميلة ملأت عليه حياته وكيانه لكنه كلما اشتد بها المرض جذب الخيط الذهبي بلطف كي يجد طفلته وقد عادت إليها الابتسامة من جديد.

ومع الزمن ساءت الحالة الاقتصادية في فرنسا وقامت الحكومة بإنهاك الشعب بالضرائب ولم يستطع بيتر إمساك لجام لسانه فانطلق ينتقد سياسة الحكومة على الملأ. وما إن مر بعض الوقت حتى وجد بيتر نفسه في ظلمات السجن فضاقت عليه الدنيا بهمومها وأحزانها واشتد به الشوق لأهله وأولاده فنسي العهد الذي كان قطعه على نفسه وأخرج الكرة الفضية وشد الخيط الذهبي.

وفي لحظة انطوى عهد الظلم والاستبداد وبدأ عهد جديد تسوده الديمقراطية وحرية التعبير لكنه أضحى رجلا في منتصف العمر وكانت أمه قد فارقت الحياة.

وفي يوم من الأيام نظر بيتر إلى الكرة الفضية فوجد لدهشته الخيط الذهبي قد تحول لونه إلى فضي. ووقف أمام المرآة فرأى رجلا يميل إلى الشيخوخة تملأ وجهه التجاعيد ويكسو رأسه الشيب فشعر بفداحة خطئه وقرر أن يتعامل مع الكرة الفضية بحذر أكثر.

ومع مرور الزمن ضاق البيت الصغير بعائلته الكبيرة لكنه لم يستطع الانتقال إلى بيت أكبر لعدم توافر المال لديه. وفي ليلة من الليالي وبينما كان جالسا على حافة السرير يفكر بهمومه وأحزانه راودته فكرة جذب الخيط السحري فقال في نفسه: (كم ستكون الحياة سهلة لوكبر أولادي بسرعة ومضى كل منهم في حال سبيله) ثم من دون تفكير أخرج الكرة الفضية من جيبه وجذب الخيط الفضي بقوة.

في الصباح التالي استيقظ (بيتر) ليجد نفسه رجلاً مسناً كثير الشكوى وزوجه طريحة الفراش. أثقل مرض زوجه والفقر كاهل (بيتر), فلجأ كثيراً لجذب الخيط السحري لحل مشاكله. وكلما تخطى مشكلة ظهرت في الأفق مشكلة أكبر هكذا حتى أمسى الخيط الفضي رمادي اللون.

وفي أحد الأيام الصيفية بينما كان بيتر يسير في الغابة يفكر بما انتهى إليه الحال إذ به يسمع صوتا مألوفا يناديه: (بيتر..بيتر). ولدهشته رأى العجوز صاحبة الكرة الفضية التي كان قد قابلها منذ سنين خلت.

هتفت العجوز وهي تبتسم: (أرجو أن تكون قد عشت حياة سعيدة).

فأجابها بيتر: (لست متأكدا من ذلك.. فهديتك كانت رائعة لاسيما أنني لم أعان الظلم والحرمان ولم أجبر على الانتظار لأي شيء في حياتي قط لكن حياتي مضت بسرعة ولم أشعر بحلوها ومرها. أما الآن فأنا لا أجرؤ على جذب الخيط ثانية لأنه سينهي حياتي).

ثم هز رأسه بحزن واستطرد قائلا: (لا لا أظن بأن هديتك قد جلبت لي السعادة).

فصاحت العجوز بغضب: (يا لك من إنسان جحود! كيف كنت تأمل أن تسير الأمور إذن?).

فأجابها بيتر: (لعل حياتي كانت ستكون أفضل لو كان بوسعي جذب الخيط الذهبي وإعادته إلى ما كان عليه بالوقت نفسه وبهذا أستطيع معايشة الأحداث التي مرت دون أن أشعر بها).

ضحكت العجوز طويلا ثم قالت: (أنا آسفة لكنك لا تستطيع أن تعيش حياتك مرتين لكن بوسعي أن أحقق لك أمنية أخيرة).

فسألها بيتر متلهفا: ما هي?

فأجابته العجوز: (يمكنك أن تطلب ما تشاء)!

فكر بيتر طويلا ثم قال: (أريد أن أعيش حياتي مرة ثانية وأعود تلميذا صغيرا في المدرسة دون كرتك الفضية. أريد أن أعيش حياتي بحلوها ومرها.. لا أريدها أن تمضي بسرعة كالحلم).

فأجابته العجوز وهي تمد يدها نحوه قائلة: (كما تشاء رد علي كرتي الفضية).

أعاد بيتر الكرة الفضية للعجوز ثم جلس تحت ظل الشجرة وأغمض عينيه واستسلم للنوم.

عندما استيقظ بيتر وجد نفسه في سريره وأمه أمامه تصرخ به قائلة: (هيا استيقظ با بيتر والا ستتأخر عن المدرسة!).

فتح بيتر عينيه ونظر حوله بدهشة ثم قال: (لقد رأيت كابوساً مرعباً يا أمي! لقد حلمت بأنني كنت عجوزاً مسكيناً مدقعاً لا أملك حتى الذكريات!).

فضحكت أمه وهزت رأسها قائلة: (هذا لن يحدث أبدا فالفقراء والأغنياء على السواء يملكون الذكريات. والآن هيا أسرع وارتد ثيابك فصديقك (بوب) ينتظرك في الخارج).

شقّ بيتر طريقه مع صديقه بوب نحو المدرسة والسعادة والفرح يملآن قلبه ولأول مرة شعر بقيمة الوقت وببهجة اللحظة التي يعيشها وبطعم الحياة.

 


 

منى العمادي