قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

سر العظام الخضراء

فجأة, فقد الصغير (رجب) توازنه وسقط فوق الأرض.

وانتقل الشعور بالجزع وسط شلة الأصدقاء الذين كانوا يلعبون (الحجلة) وهم يرون صديقهم يسقط أرضا, ويتألم.

كانوا قد توقعوا أن الذي سوف يسقط هو (زاهر) لكثرة حركته, ولاندفاعه القوي وسط زملائه الذين يتقافزون لأعلى, لكنه اصطدم بزميله (رجب) وبكل قوة, أسقطه فوق الأرض, وهو يصرخ.

ووسط الدهشة وصرخات الألم, وقف الكثيرون عاجزين عن فعل أي شيء, وبكل ثقة, تقدم الصبي (خلف) وانحتى فجأة على زميله وسأله: في أي مكان تتألم...?

أشار إلى رسغه, وهو يقول: أحس بأنه انخلع مني.

وبكل ثبات, أمسك (خلف) رسغ زميله, واكتشف أن هناك شيئا غير طبيعي وسرعان ما جذبه بقوة جعلت صرخة (رجب) تنطلق بقوة, قبل أن يحس بارتياح عظيم ويغلبه النوم.

أثار هذا الحادث الكثير من الإعجاب في مدينة (الزهراء) الأندلسية, التي تقع على مقربة من مدينة (قرطبة), فسرعان ما ردد الناس حكاية (خلف) الذي تمكن من علاج صديقه (رجب) في الوقت المناسب, وخفف عنه كسراً في عظام الرسغ الأيمن.

وجاء طبيب قرية الزهراء وتساءل:

- كيف فعلت ذلك يا بني?

وردد الصبي (خلف بن عباس الزهراوي):

- شجعني الألم الذي على وجه صديقي أن أكون جريئا, وأن أتصرف...

ابتسم الطبيب, وقال:

- لو صرت طبيباً يوماً, أيها الصغير, فستكون ناجحا... وذلك لما تملكه من جرأة, وعدم خوف.

حدث ذلك في عام 947 ميلادي, أي والصغير (خلف) لم يتجاوز الحادية عشرة بعد, وصار اسم (خلف) يتردد على ألسنة الناس في (الزهراء) ثم ذاع في مدينة (قرطبة) التي انتقل إليها ليستكمل دراسته العلمية.

واستطاع في سنوات قليلة أن يستوعب علوم الطب, والفلسفة, والطبيعة, وذاعت شهرته بين الناس, لمهارته في معالجة الجروح المستعصية, ولعمل الكثير من العمليات الجراحية, حيث كان يشعر المرضى بأقل قدر من الألم.

كما نجح في استخدام أدوات طبية مستحدثة, ساعدته في إنجاح عملياته على أحسن ما يكون وسمع به (عبدالرحمن الثالث) حاكم الأندلس في تلك الآونة, فأرسل يستدعيه, وقال له:

- من اليوم... أنت الطبيب الخاص بي.

واندهش الوالي المسلم, حين سمع (الزهراوي) يقول:

- سيدي الوالي... أنت هنا رجل واحد... لكن في المدينة يحتاجني مئات المرضى.

رد الوالي قائلا:

- في هذا القصر الواسع, يمكنك أن تجد الوقت للبحث, والتأليف...

وقبل أن ينتهي اللقاء, قال (عبدالرحمن الثالث):

- وإذا أردت معالجة أبناء الشعب, فلا تتأخر عنهم.

وأقام الطبيب (الزهراوي) في القصر, وجاءت أسرته الصغيرة للإقامة هناك ورزقه الله بابنه الأول (القاســم) ولقب بـ (ابو القاسم)...وبدأ يعكف على دراسة علم الجراحة.

واكتشف شيئا مهما في علم الجراحة, نقله إلى تلاميذه, ودونه في كتابه قائلا:

- لا يمكن أن نؤلف كتابا في الجراحة, دون أن نمارسها.

ووضع الزهراوي خلاصة تجربته في كتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف) خاصة حين قام باستخراج حصاة ضخمة من مثانة أحد المرضى, فقد تمكن من استخدام المشرط بعد تطهيره في فتح مكان, توجد الحصاة وراءه, وتمكن من إخراجها, ثم قام بتطهير مكانها, وخياطة الجرح.

وكتب أهم وصية للجراحين الذين جاءوا بعده:

- إذا استخدمت المشرط, فكن حادا, وركز في مكان العملية.

وفي أحد فصول الكتاب, تحدث الزهراوي عن أنواع كسور العظام, وأساليب علاج كل كسر.

وذكر أن كسور العظام لدى الصغار تختلف عن مثيلتها عند الكبار, وقال: عظام الأطفال أشبه بفروع الأشجار الخضراء.. تنثني, لكنها لا تنكسر, لذا فإنها تحتاج لمعاملة خاصة.

وكان قد استمد هذه المعلومة العلمية المهمة, من صباه, حين تمكن من علاج صديقه رجب والذي لم ينسه أبدا... رغم أن الأيام باعدت بينهما.

وجاءت أهمية الكتاب في الرسوم التوضيحية التي قام برسمها الزهراوي بنفسه فكانت بالغة الوضوح, وتقلل من استخدامه للوصف.

وصار الكتاب مرجعاً مهماً في الأندلس, وانتشر في قارة أوربا في القرن الحادي عشر الميلادي, وظل مرجعا طوال أربعة قرون بلغات عديدة في الجامعات الأوربية.

وبعد وفاة الزهراوي عام 1013 ميلادي, بسنوات طويلة, اكتشف الباحثون أن هناك فصولا من الكتاب لم تنشر, تم العثور عليها وأضيفت إليه.

منها جزء خاص حول (العقاقير), نشر عام 1471 ميلادي, وجزء خاص (بطب الأسنان وخلعها) عام 1546, وأجزاء أخرى كثيرة.

ويعتقد الباحثون اليوم أن كل كنوز (الزهراوي) في علم الطب والجراحة, لم تكتشف بعد, وأن الكثير منها قد تاه... لكن..

من يعلم, فقد يتم العثور عليه يوما.

 


 

محمود قاسم