العالم يتقدم

العالم يتقدم

الضوء الحيوي... معجزة الأعماق

تعال معنا في رحلة إلى أعماق المحيط، إنها مغامرة مثيرة ليس لها مثيل، ولا تخش الكائنات البحرية المفترسة أو البرودة القارسة أو الضغط الهائل الذي تتعرض له تحت سطح الماء بمسافة كبيرة، إذ إنك ترتدي رداء الغوص المتطور المصنوع من المطاط السميك والمقوى بألياف الكربون، والمخصص لحمايتك من كل الأخطار، التي تواجهها في الأعماق. وسوف تفاجأ أثناء رحلتك الفريدة، بأن أجزاء من قاع المحيط تتميز بوجود سلاسل جبلية وهضاب وبراكين نشطة. كما ستلاحظ الحركة المستمرة للمياه، حيث تتعرض لظواهر المد والجزر والتيارات البحرية، التي أحد أسبابها دوران الكرة الأرضية. ووسط كل هذه التضاريس المدهشة، سترى عددًا هائلاً من الكائنات البحرية النباتية والحيوانية، بمختلف أشكالها وأحجامها، ولكن أغربها تلك التي يصدر عنها ضوء ينير الظلمة الدامسة لأعماق المحيط، يطلق عليه «الضوء الحيوي». فما المقصود بالضوء الحيوي؟ هو توليد وإطلاق الضوء من كائنات حية، بسبب حدوث تفاعل كيميائي تتحول خلاله الطاقة الكيميائية - الناتجة من التفاعل - إلى طاقة ضوئية. ويمكن أن يتم هذا التفاعل الكيميائي، خارج أو داخل الخلايا.

التفاعل الكيميائي... الضوئي

يتولد الضوء الحيوي من تفاعل كيميائي ضوئي بمساعدة «أََنزيم». والأنزيم مادة عضوية داخل الخلية الحية تتكون من بروتين، وهي تضبط التفاعلات الكيميائية في المادة الحية.

ويُطلق على هذا الأنزيم «أنزيم حفز الضياء»، وهو موجود داخل الكائن الحي، ويعمل على أكسدة (أي اتحاد المادة بالأكسجين) مادة مضيئة ذاتيًا، فيصدر الضوء الحيوي.

وهناك على الأقل، نوعان أساسيان من المواد الكيميائية في الكائن الحي المضيء، الأول الذي يطلق الضوء، يسمى «لوسيفرين»، والثاني الذي يحفز (أي ينشط) التفاعل، وهو «أنزيم حفز الضياء».

وتحمل أسماك عدة من أسماك الأعماق «مراكز إضاءة» على مواضع مختلفة من أجسامها، ومن أمثلتها «سمك المصباح الأمامي» الذي يحمل «مصباحًا» كبيرًا في وسط وجهه، وصفين من أضواء أصغر على طول جانبي جسمه الطويل، فتبدو السمكة وكأنها قطار مسافر في الليل!

الضوء.. البارد

إن الإلكترونات تثار بواسطة تفاعل كيميائي لا يولد أي حرارة، ولهذا فإن الضوء الحيوي يسمى أحيانا «الضوء البارد»! ويقدر العلماء أن نحو 09% من الكائنات التي تعيش في أعماق البحار والمحيطات، تصدر إضاءة حيوية بطريقة أو بأخرى. وينتمي أكثر الضوء الحيوي إلى الطيف الضوئي الأزرق والأخضر، وليس ذلك بغريب لأن أطوالهما الموجية أكثر قدرة على النفاذ في الماء، ولكن بعض الأسماك تطلق ضوءًا أحمر أو تحت الأحمر. أما الإضاءة الحيوية للكائنات البرية، فهي أقل انتشارًا، بيد أننا نرى فيها تنوعًا أكبر في الألوان. وأفضل مثالين شهيرين للإضاءة الحيوية «البرية»، هما «الحُباحِب» (حشرات لها أعضاء مضيئة) والديدان المتوهجة، وكذلك بعض الحشرات ويرقاتها وعدد من أنواع العناكب، حتى بعض الفطريات لوحظ أنها تمتلك القدرة على الإضاءة الحيوية الذاتية.

أسرار الضوء الحيوي

ربما نتساءل: لماذا تلجأ الكائنات إلى إصدار الضوء الحيوي؟ هناك نظريات عدة طرحت لتفسير أسباب هذه الظاهرة الطبيعية المثيرة، منها:

الإخفاء والتمويه:

ربما يبدو للمرء أن الإضاءة القوية تعد وسيلة للإخفاء والتمويه، هو أمر محير حقًا! ومع ذلك فإن الكثير من سلالات الأسماك والحبّارات (حيوانات بحرية رخوية) تستخدم الضوء الحيوي كإضاءة مضادة لسماء الليل. فإذا نظرت إلى «الحبار عديم الذيل» من أسفل، فإنه يختفي مقابل ضوء القمر والنجوم عندما يكون بالقرب من سطح المياه.

اجتذاب الفرائس:

تستخدم الإضاءة الحيوية كشرك أو طعم لاجتذاب الفرائس، بواسطة كثير من أسماك أعماق البحار والمحيطات، مثل سمكة «أبو صنارة» حيث تجتذب زائدة مضيئة متدلية بارزة من رأس السمكة، الكائنات البحرية الصغيرة، وتغريها بالاقتراب من سمكة «أبو صنارة»، بما يسمح لها بالانقضاض عليها والتهامها.

وللعوالق (كائنات حية عضوية دقيقة) المضيئة حيويًا، حيلة مثيرة في هذا المجال. فعندما يشعر العالق بوجود كائن مفترس من خلال حركته في الماء، فإنه يضيء ذاتيًا، ومن ثم يجذب كائنات مفترسة أكبر حجمًا إليه. ولا تلبث تلك الكائنات المفترسة الضخمة أن تفترس الكائن، الذي كان يريد التهام العالق!

الهروب من الأعداء:

تستخدم بعض الحبّارات والقشريات الصغيرة، مركبات كيميائية مضاءة حيويًا، وذلك بهدف إطلاق سحابة مضيئة من داخل أجسامها، لكي تربك وتطرد أي كائن يريد افتراسها، وفي الوقت نفسه تهرب هي إلى مأمن لها.

الاتصالات:

يعتقد العلماء أن الضوء الحيوي يلعب دورًا مباشرًا في اتصال الكائنات التي تصدره، بعضها بالبعض الآخر.

ولكن كيف يقوم العلماء بدراسة الإضاءة الحيوية؟

تؤخذ قياسات عامة على نطاق واسع، باستخدام كاميرات تلفزيونية رقمية بالغة الدقة، محمولة على أقمار صناعية، وذلك للكشف عن أسراب الأسماك، التي يمكن رؤيتها ليلاً، من خلال العوالق المضيئة حيويًا، والتي تنشّطها أثناء سباحتها بجوارها. كما يتم دراسة الإضاءة الحيوية عن قرب في أعماق المحيط، حيث يعمل جهاز خاص محمول على غواصة أبحاث - يطلق عليه «مقياس الضوء في الأعماق» - على سحب مياه المحيط المحتوية على الكائنات الدقيقة، التي تصدر الضوء الحيوي، خلال أنبوب إلى داخل مختبر الغواصة، حيث يعمل كاشف ضوئي على قياس الإضاءة الحيوية، التي تثيرها أداة معينة - كالمروحة - تحدث أمواجًا، ومن ثم تصدر الكائنات الضوء الحيوي. ويقاس هذا الضوء الحيوي، بعدد «الفوتونات» (وحدات الضوء) المنطلقة في الثانية الواحدة، ومكان صدورها من جسم الكائن الحي، ومدة ومضاتها وتوقيتها ونظاميتها.

 


 

رؤوف وصفي