العالم يتقدم

العالم يتقدم

الحياة.. من دون ضوء

تخيل عالمًا تكتنفه الظلمة في كل أرجائه, ويقع أسفل عدة كيلومترات من المياه, إنه قاع المحيط. وفي هذا العالم الغريب, عثرت بعض أشكال الحياة على بيئة نادرة متقلبة سريعة الزوال, يمكنها أن تزدهر فيها برغم كل الظروف القاسية.

إنه عالم مختفٍ عن أنظارنا, تكيفت فيه الكائنات البحرية مع أسلوب معين للحياة, لا يمكن تصورها إلا في قصص الخيال العلمي الجامحة. هذا المكان المروّع لم يصل إليه أبدًا أي شعاع ضوء, سوى أنوار الغواصات التي ظهرت في أعماق المحيطات للمرة الأولى منذ عقدين من الزمان. وتلك البيئة الحالكة السواد, تختلف تمامًا عن أي بيئة على سطح الأرض نتيجة لتأثير قوى الطبيعة - عبر ملايين السنين - التي أنشأت القارات ووزعتها بالحالة التي هي عليها في الوقت الحاضر.

وفي كل من المحيطين الهادئ والأطلنطي, توجد تشققات في القشرة الأرضية, سببتها الصخور المنصهرة عند القاع. وتظل المياه تتسرب إلى داخل هذه التشققات, حتى يتم لفظها بقوة - بتأثير عوامل جيولوجية - في شكل نافورات مياه دافئة غنيّة بالمعادن, وتصب في مياه المحيط الباردة التي تحتوي على الأكسجين, وتعرف تلك النافورات الفريدة التي لا مثيل لها باسم (نافورات المياه الدافئة العميقة).

وعند واحدة من هذه التشققات بعيدا عن شاطئ أمريكا الجنوبية, عند صَدْعْ (جالا باجوس) البحري (الصدع: انفصال في التكوين الصخري), صادفت غواصة أبحاث صغيرة موقعًا مدهشًا حقًا. فقد ظهرت فجأة أمام كوّة الرؤية بالغواصة, آلاف من الأنابيب الطويلة باهتة اللون, التي تعلوها مناطق حمراء زاهية. كانت تلك (الديدان) الهائلة الأنبوبية الشكل, سميكة الجذع تشبه أزهار التوليب, ويصل طول الواحدة منها إلى نحو ثلاثة أمتار, وأخذت تتمايل وسط جو حالك الظلمة مضطرب تكثر به الدوّامات, لم يشاهده أحد من قبل.

وبينما استمرت غواصة الأبحاث في إلقاء الضوء الباهر عليها, أخذت تستكشف المنطقة التي بدت وكأنها تنتمي إلى كوكب آخر! وصلت الغواصة إلى مكان قريب به محارات بيضاء عملاقة فاغرة أفواهها لتيارات الأعماق, ولها أقدام مبطنة بوسائد ومطمورة في الصخور والرواسب. وبدافع الفضول سأل العلماء أنفسهم:

(ما المصدر الغذائي الذي عزّز تكوين هذا النظام البيئي الفريد, عند هذه الأعماق?!).

وأفضت أبحاثهم إلى بعض النتائج المذهلة. إن المياه المندفعة من النافورات غنيّة بمادة (كبريتيد الهيدروجين) - التي تتكوّن من الكبريت والهيدروجين - وهو المركب الكيميائي نفسه الذي يعطي للبيض المتعفّن رائحته الكريهة المميزة له.

وعلى الرغم من أن مادة (كبريتيد الهيدروجين) ليست مصدرًا غذائيا مغريا, إلا أن بعض البكتيريا (كائنات دقيقة الحجم جدًا بحيث لا تُرى إلا بالمجهر, وتقاس أحجامها بجزء من ألف من الملليمتر), التي تعيش حرة وتحوم في المنطقة حول نافورات المياه الدافئة العميقة, كان لها رأي آخر!

فقد تمكنت هذه البكتيريا من استخدام (كبريتيد الهيدروجين) المنطلق من نافورات الأعماق, كمصدر للطاقة التي تلزمها لتحويل ثاني أكسيد الكربون الموجود في المياه المحيطة بها, إلى سكريات تحتاج إليها في نموها, وهي عملية مشابهة للتمثيل الضوئي الذي تستغل فيه النباتات الخضراء التي تنمو فوق الأرض, طاقة ضوء الشمس في حياتها.

إلا أن الديدان الهائلة الأنبوبية الشكل, كانت تلعب دورًا أكثر غرابة!

فتلك الكائنات البحرية ليس لها فم أو أمعاء ولا توجد لها أي طريقة لتناول الطعام من البيئة المحيطة بها, ولذلك فإن أطرافها الحمراء التي تحيط بها الأوعية الدموية, تصل إلى داخل مياه نافورات الأعماق, يحث يلتصق بها الأكسجين وثاني أكسيد الكربون وكبريتيد الهيدروجين, وتقوم الجزيئات في هذه الأطراف الحمراء بنقلها إلى دم الدودة الأنبوبية.

وعندما ينبض قلب الدودة تنتقل تلك المركبات الثلاثة (الأكسجين وثاني أكسيد الكربون وكبريتيد الهيروجين) إلى (قسم تحضير الطعام), وهو عبارة عن نسيج متخصص جدا. ويحتوي قسم تحضير الطعام بالدودة, على (عمال) متميزين للغاية عبارة عن جيش جرار من البكتيريا, المشابهة للبكتيريا الحرة التي تتجوّل في المياه المحيطة.

وبعبارة أخرى فإنه يوجد داخل جسم الدودة الأنبوبية (مزرعة) تقوم برعايتها البكتيريا. ففي مقابل الحياة في بيئة مستقرة مناسبة, والحصول على الطاقة اللازمة لها, تعمل البكتيريا على توفير كل المركبات العضوية التي تحتاج إليها الدودة لنموها. ويُسمى هذا التعاون المشترك ما بين اثنين من الكائنات المختلفة, (التكافل), أي أن يصبح كل من الكائنين معتمدًا على الآخر من أجل البقاء.

لقد عثرت غواصة الأبحاث على نظام بيئي مختلف تمامًا, عما يوجد في عالم الكائنات البحرية بعيدًا عن أعماق المحيط, حيث توفر الديدان الأنبوبية مقرًا للسكن, وتدفع البكتيريا إيجاره في شكل خدمات!

وتعد نافورات المياه الدافئة العميقة, واحات تعج بالحياة فوق قاع المحيط المظلم, وتمثل كل نافورة مرحلة عابرة في حياة كوكبنا. إذ في كل وقت تولد نافورات جديدة, بينما تموت نافورات قديمة. وهذه النافورات منعزلة وبعيدة جدا عن بعضها البعض, وتصل المسافات بينها إلى مئات الكيلومترات, ومع ذلك فهناك أوجه تشابه في جميع أنواع الكائنات المحيطة بمواقع تلك النافورات.

 


 

رءوف وصفي