حلوى النهر

حلوى النهر
        

رسوم : صفاء نبعة  

          كان هناك صيّادٌ طيّبٌ، يعيش مع زوجته وطفلهما الرضيع في كوخ قرب النهر، حيث تُعِدُّ له الزوجة الشبكة كل مساء، وتحملها إلى قاربهِ الصغير، مع إناءِ الطعام. وتحرصُ على وضع الإناء في خزانةِ القارب. ثُم تحيطُهُ بالقشّ والخرْقات. فيظلُ الطعامُ ساخنًا لفترة كافية، خاصةً أن موسم الشتاء قد جاء.

          اعتادَ الرجل في عودتهِ أن يرى جمعًا من الأولادِ يلعبونَ قربَ الكوخ. حينًا ألعابًا لطيفة مسليةً، وحينًا ألعابًا خشنةً، فيقول لنفسه: «غدًا يكبر ابني ويشاركهم اللعب».

          وكان إذا عاد يشكو لزوجتِهِ من أشياءٍ غريبةٍ تطلعُ لهُ في الشبكةِ. أشياء لا قيمة لها، تثقل عليهِ العمل وتعطّل رزقهُ. فمرةً تكونُ أحذية بالية، ومرةً صناديقَ فارغة، صفيحة صدئة، وحتى كتبًا مدرسيّة قديمة.

          كانت الزوجة تفهمُهُ وتعاني من ذلك أيضًا، فهي التي تقضي الوقت الطويل في رتق الشباك كلما تمزقتْ. لذا كانت تجيب شكواه بالقول:

          - لنتحمل يا زوجي، فباطن النهر مثل الحياة، يفيضُ دائمًا بأشياء تسرّنا، وأخرى غريبة لا تسرُّنا.

          في كلِّ يومٍ كانَ الأولادُ ينتظرونَ عودةَ الصيّاد، بعدَ أن يكونَ قد باعَ صيدهُ. وعادَ بما يلزمُ أسرتَهُ من أغراضٍ. ولم يكن ينسى أن يملأَ جيوبهُ بالحلوى. يوزعها على الصغار قائلاً لنفسه: «أولاد عفاريت، لكنهم طيبون. غدًا يكبر ابني ويستطيع الأكل مثلهم».

          غيرَ أنّ موسمَ الشتاء كان يقلل كثيرًا من رزق الرجل. فالأسماكُ تهربُ بعيدًا وعميقًا عن مواضع سقوط المطر.. تمامًا كما تهرب من أماكن الموج. لهذا اتفق الصغار على أمرٍ ما وأبلغوه للعصافير، فلم يكن ليتم من دونها، مما جعلَ العصافير تصعدُ طيرانًا إلى السحابة القريبة لترجوها أن تُسقِطَ مطرها بعيدًا عن هذه المنطقة من النهر. قالت السحابة لهم:

          - أووه.. كما ترونَ فأنا ثقيلة قليلة الحركة، والريحُ التي تحركني لم تمرّ من هنا منذُ أيام. وأنا في انتظارها، أدعو لي ألا أسقطَ وحدي مطرًا فقد تذوّبني الشمس في أي وقت. والصياد طيب وكلنا نحبه.. اعذروني فلا حيلة لي.

          حينئذٍ.. اجتمعت العصافير حول السحابة وأمسكوها من أطرافها في وقت واحد، وصعدوا بها لأعلى.. لأعلى ما أمكنهم في قلب السماء. ثم ذهبوا فورًا إلى الريح حيث تسكن خلف الحقول والبيوت، وطلبوا منها أن تجيء وتحركّها بعيدًا. قالت الريح:

          - آه يا أصدقائي.. لم أكن أنوي العملَ اليومَ أيضًا لأنني مجهدة. كنت سأكتفي فقط هذه الأيام بعملِ بعض الزعابيب والدواماتِ الصغيرة بين البيوت كي لا أعتاد الكسل. لكن لأجل خاطركم سأنهض.. آه نسيت.. لن أحمل السحاب بعيدًا إلا إذا انحنت الأشجار وأسقطت أوراقها، فلا ينسى قوتي أحد.

          طارت العصافير وطلبت من الشجر أن يحني غصونَهُ ويُسقِط أوراقه. قال الشجر:

          - لا أسقط أوراقي حتى تمدني الأرض بالغذاء الكافي، لأنبت به ثمارًا وأوراقًا خضراء جديدة، فالربيع قادم، والأرض بخيلة معنا هذه الأيام، ولا نعرف السبب.

          اسألوا حتى العشب.. إنه أيضًا يعاني لدرجة أن جفّ وتقصّف وحده.

          تعبت العصافير من هذا الدوران الشاق. وعادت إلى الأولاد لتبلغهم بما كان، فذهبوا جميعًا وتحدثوا إلى الأرض بما طلبت الأشجار، بادئين كلامهم بالقول: «اسمحي لنا أيتها الأم الكريمة..». مما أعجبَ الأرضَ التي قالت لهم:

          - هذا بطني مليء بالترابْ المغذي. وهو يشتاقُ لأن يصبح طينًا، لا أمد الشجر ولا حتى نباتات الحقول بالغذاء، حتى يسقيني النهر بما يكفي عطشي. أرجوكم اسألوا النهر هذا السؤال.. لماذا يخاصمني؟

          ذهب الأولاد والعصافير إلى النهر ليستوضحوا هذا الأمر، قالت مياه النهر:

          - لا أروي الأرض ولا حتى الشّجر حتى يكفّ الأولاد عن إيذائي بإلقاء الحصى والعلب الفارغة والحقائب القديمة.. وكل ما يؤذيني.. آه، إنني لا أنسى أيام كنت أتدفق صافية ونظيفة حتى بين الجبال.. ليتني أستطيع العودة إلى هذه الأماكن مرة أخرى.

          حينئذٍ، نظرت أسراب العصافير إلى الأولاد في لومٍ، فهموا منه كل شيء، غير أن الأولاد كانوا يستعجلون خطواتهم - فقد حان موعد عودة الصياد - وهم يقولون لبعضهم البعض «الحمدلله أن جارنا الصياد لم يعرف شيئًا مما جرى، فالحلوى التي يجيء بها كل يوم لذيذة».

 

 


 

رضا البهات