قدوتي العلمية

قدوتي العلمية
        

رسم: ممدوح طلعت

د. عبدالفتاح القصاص.. البيئة الخضراء حبيبتي

إنه يوم الاستكشاف الجميل..

          حين خرج الصغير «محمد» مع أبيه في مركب الصيد الصغير، ليدخل إلى أعماق البحر، كان الأفق بالنسبة له بعيدًا دومًا، لكنه الآن يقترب منه.

          لا، الأفق لايزال بعيدًا، كما أن «البر» نفسه صار بعيدًا تمامًا، راح يرقب كل شيء حوله، فوق بحيرة البرلس، بمحافظة كفر الشيخ المصرية، التي تطل على البحر المتوسط، كان هدف الرحلة، هو أن يتعرف على كل الجزر الصغيرة التي تقع فوق البحيرة.

          كان العالَمُ في تلك الفترة، ينحصر في البحيرة، وجزرها، وأحسّ الصغير «محمد» أنه أسعد طفل في الدنيا، ليس لأن أباه قد فضّله على بقية إخوته الأحد عشر، بل لأنه رأى حيوانات، وطيورًا، ونباتات لم تكن في قريته الصغيرة «برج البرلس» التي ولد بها عام 1921.

          واكتشف الصغير أن الطبيعة هي «لعبته المفضّلة».

          صار عليه أن يجمع أوراق النباتات، ويصنفها، ويضعها في كرّاس خاص بعد أن يجففها، وعرف أن النبات كائن حي مثل الإنسان، يولد، وينمو، ويكبر، ويشيخ، وأيضًا يصيبه المرض.

          واكتشف الصغير، من خلال رحلاته مع أبيه، صانع المراكب الصغيرة، العلاقة بين الإنسان والطبيعة حين قال له أبوه:

          - أنا أعرف جيدًا، متى أصطاد السمك، ومتى أصطاد الطيور، ومتى أصنع المراكب.

          لم تكن هناك مدارس في تلك الفترة في القرية الواقعة على أطراف البحيرة، والتحق الصغير وهو في سن الرابعة بكتّاب القرية، حيث حفظ القرآن الكريم، وما إن شبّ  قليلا حتى أرسله أبوه إلى الإسكندرية كي يعيش في بيت عمه، وكان أول طفل يغادر المكان ليتلقى تعليمه في مدينة أخرى.

          وفي مدرسة طاهر بك الابتدائية، عرف الصغير حياةً جديدة، كان سعيدًا بوجبة الغداء التي يحصل عليها، كان التلاميذ يجلسون حول المائدة نفسها لتناول الطعام، وأحسّ أن المدرسة ليست سوى بيت آخر.

          ولم يتوقف «محمد عبدالفتاح القصاص» عن ممارسة هوايته، بل يجمع أوراق النباتات، ويضعها في كراس خاص، وهو يدرس في مدرسة العباسية الثانوية.

          كانت مدرسة مختلفة، تقع فوق ربوة خضراء واسعة، وكان المدرسون ينتمون إلى طبقة المثقفين، والأغنياء، والعلماء الأجلاء.

          عرف الصغير أن أغلب مدرسي العلوم، يعدون رسائل علمية، وأن أحدهم التحق بالفعل للعمل أستاذًا بكلية العلوم، لذا قرر أن يلتحق بالكلية نفسها.

          وفي عام 1942، تحولت مدرسة العباسية، فوق ربوتها، إلى كلية العلوم، وكان ذلك حلمًا لم يصدق الشاب نفسه أنه تحقق.

          وفي الكلية، كان أغلب المدرسين من الأجانب، بالإضافة إلى الأساتذة المصريين، وكان الكثيرون منهم مهتمين بعلم النبات، وبالعلاقة بين النبات والبيئة.

          ولم يجد الطالب بعد تخرجه بعامين، أي عام 1946، سوى السفر إلى جنوب السودان، في منطقة السدود، لدراسة إمكانية حفر قناة جديدة على نهر النيل تسمى «جونجلي».

          وهناك قضى عامين وسط بيئة مختلفة، أعد خلالها رسالة الدكتوراه، التي منحتها له جامعة كمبردج البريطانية.

          كنت تجربة مليئة بالخصوبة، فقد صار صديقًا للبيئة، يعرف قيمتها حين تكون نقية غير ملوثة، ويدرك جيدًا مدى ما تصاب به البيئة من أخطار التلوث، لو أساء الإنسان استخدامها.

          وقرر أن يهب كل حياته للدفاع عن البيئة، بعد أن رأى الطبيعة في أحسن حالاتها، عندما تكون بكرًا، بعيدة عن تدخل الإنسان، سألوه يومًا عن أصدقائه في تلك السنوات، فقال ضاحكًا:

          - إنها التماسيح، وفرس البحر، فحين تعيش هذه الحيوانات، تكون البيئة نظيفة.

          إنه يعرف أن الإنسان يقضي على كل منافسيه عندما يعيش في بيئة ما، وأن فرس البحر، والتماسيح هما دائمًا من أوائل ضحايا الإنسان.

          لذا، فعندا سافر الدكتور محمد عبدالفتاح القصاص إلى بريطانيا، اختار أن يعيش في منطقة بحيرات متشابهة لتلك التي عاش فيها، سواء في كفر الشيخ، أو جنوب السودان، إلى أن حصل على درجة الدكتوراه.

          سأله صديق له، عند عودته إلى القاهرة:

          - ما مشاريعك القادمة في وطنك؟

          قال: سوف تكون الصحراء وطني، في أي مكان، سواء في مصر، أو السودان، أو أي صحراء عربية.

          وفي عام 1953 عمل مدرسًا في جامعة لندن، فرع الخرطوم، لكن الحرب الأهلية التي اندلعت، جعلته يعود إلى منطقة السدود كي يدرس البيئة عند أطراف نهر النيل.

          وزار منابع النيل، وراح يردد مبتسمًا:

          - شاهدت الطرف الآخر من النهر عند كفر الشيخ، واليوم أشاهد طرفه الأول عند شلالات تيمولي.

          وذاعت شهرة الدكتور القصاص، بأنه عاشق البيئة، بأنهارها، وخضرتها، ولم يكف عن البحث، والرحيل، وصار له تلاميذ نابغون، وصار يهتم أكثر ببيئة النباتات، والمناطق القاحلة.

          واهتمت دول عديدة بأبحاثه خاصة المملكة العربية السعودية، والكويت، والعراق، وكانت أبحاثه موضع اهتمام حين تم بناء السد العالي، وساهم في برنامج منظمة اليونسكو الخاصة بالمناطق القاحلة، كما عمل خبيرًا في برامج الأمم المتحدة للبيئة، وصار واحدًا من أشهر علماء البيئة في العالم.

          وعندما سألوه عن أهم ما يجب أن نعتني به، قال:

          - المياه، فالعالم مقدم على مشاكل جسيمة تتعلق بتدبير المياه.

          وعندما سألوا ابنته «عايدة» عن أهم ما يتسم به أبوها، قالت في ثقة:

          - التواضع.. والركن الأخضر.

          إنه مشروعه الرائع بأن يتحول كل شيء إلى خضرة طبيعية.

 


 

محمود قاسم