دُعموصٌ... في طريق النّمل.. ميزوني محمد البنّاني

دُعموصٌ... في طريق النّمل.. ميزوني محمد البنّاني

رسوم: سامي خضير

لم يعد الحديثُ في قرية النمل يخلو، هذه الأيام، من سيرةٍ مفزعةٍ لحشرة مفترسة غذاؤها المفضّل النّملُ. إنّها «الدعموص».

مازال النمل لا يعرف عن هذه الحشرةِ الصّائدة سوى اسمها، فما فكّروا يومًا في جمع معلومات حولها.

يعرف النّمل، فقط، أنّ هذا الدّعموص يختبئ في طريقهم وحياتهم وأحلامهم فيحوّل راحتَهم إلى قلقٍ وسعادتَهم إلى رعشةِ خوفٍ دائمة.

يومَ أمس، قُدّم للملكة إحصاء للمفقودين فذهلت وقد وجدت عددهم يتجاوز المائةَ بكثيرٍ، وأنّه قابلٌ للارتفاعِ في بحر الأيّام المقبلة.

ويومَ أمس، أيضًا، قُدّر للملكة الفراغُ الذي تركَه النّملُ المفقود في المداخيل بألف حبّة كانت تنضاف كلّ يوم إلى مخزن الحبوب.

واليومَ رأى النّملُ ملكتَهم الجميلةَ الوقورة تبكي، لأوّل مرة، وهي ترثي موتاها أمام النُّصب التذكاري للمفقودين، فقوي شعورهم بهول المصيبة.

قالت بصوتٍ شجيّ مغالبةً غصّتها: «لقد خسرت المملكةُ جنودًا غايةً في التفاني والإخلاص والعفّة والقدرة على الحفر في الصّخر وتسلّق الجدران والجبال العالية من أجل الظّفر بحبّة قمح أو شعير».

بمثل هذا الحزنِ العميق، أنهت الملكة كلمات التأبين المثيرة.

بعدها، انحنت احترامًا لراية المملكة ثم قامت وأومأت لوزرائها ومستشاريها باتباعها إلى قاعة المشاورات السرية.

وهناك، شرعت الملكةُ في الاستماعِ إلى المقترحات والخططِ لحماية المملكة من هذه الحشرة المفترسة.

كانت الآراءُ منحصرةً في اتجاهين متباينين:

فئة ترى الحلّ في المصالحة مع الدّعموص تكفّه عن نصب فخّه في طريق النّملِ مقابل أن تؤمّن له المملكة غذاءَ يوميًا من الحشرات الأخرى.

وفئة بدت رافضة نهائيًا التفاوض مع الدّعموص المعتدي وتدعو إلى التخلص منه بطريقة ما.

قال قصيرُ النّمل بعد صمت طويل، وكان من أنصار التخلّص من الدّعموص:

«جلالة الملكة.. الدّعموص لئيمٌ، واللئيم إن نحن أكرمناه تمرّد وتجرّأ.. أخشى ألا يتوقف سيلُ طلباته، فمن أدرانا أن طمعه وصلافته لن يبلغا به ذات يومٍ إلى حدّ طلب يدك، مولاتي، للزواج؟».

أدارت الملكةُ رأسها من الفزع ثم وضعتها بين لاقطتيها، وطأطأت مسترجعةً كلامَ قصير النمل بتأن وتروّ.

وبعد وقت لم يدر الحضورُ هل قصر أم طال، رفعت الملكةُ رأسَها بحزم فبدت تحمل قرارًا خطيرًا، ثم أومأت بلاقطتيها إلى كبير الوزراء فقرّب رأسه من رأسها، فأسرّت له بشيء ثم غادرت القاعة بخطوات واثقة.

«اعرف عدوّك ثم واجهه».

هذا ما همست به الملكةُ للوزيرِ الأكبرِ قبل مغادرة القاعة، وما كلفته به سرًا، لذلك أرسل منذ فجر الغد، نبهاء مستشاريه لجمع المعلومات اللازمة حول العدوّ.

ولم تغرب الشمسُ إلاّ وكانت بين يديه تقارير مفزعة حول العدوّ اللدود.

قلّبها في خلوته ثم قرأها ولاقطتاه ترتعشان:

الصّورة الآن أصبحت أوضح من ذي قبل في ذهن الوزير.

الدّعموص أو (أم قيس) له فكوك على شكل كلابتين يستخدمهما كمعزقة ليحفر بها كلّ يوم حفرة قُمْعية في طريق النمل.

هذه الحفرة هي فخّه ينصبه للإيقاع بفريسته.

ينغمس الدّعموصُ في قعرها بعد ردمِ كامِل جسمه ما عد كلاّبتيه، ويبقى على هذه الحال بلا حراكٍ في انتظار أن تقع نملة في فخّه متدحرجة.

لم ينمْ الوزيرُ ليلتَها، فصورة النملة الفريسة وشبح الدعموص ذي الرأس المخيف ظلت تطارده كاملَ الليل، فغرق في التفكير قائلاً لنفسه: «لابد من مواجهة العدوّ وقد ألممت بأهمّ جوانب القوة والضعف لديهَ!».

أضاف بإصرار وقوّة في النّفس: «إنّ قريةَ النّملِ ستسخّر كل طاقاتها لقطع دابر هذا المفترس في أقرب الأوقات الممكنة».

وبعد كلّ هذا التفكير، رأى أن الوقت مناسبٌ لوضع خطة للهجوم، هرع إلى الوزراءِ وقادة الجيش يوقظهم من نومهم في الجزء الأخيرِ من الليل، ولم تبزغ شمسُ الغد إلاّ والخطّة جاهزةٌ للتنفيذ.

كانت الخطّة قد استفادت كثيرًا من نقاط ضعف العدوّ مثل انغماسه في تربة القاع، وتركه فكيه مفتوحين ساعات.

وقبل خروج النّمل بساعات من قريته سالكًا طريقه العادية للضرب في الأرض بحثًا عن الرزق، كان الجند قد سبقوهم إلى الحفر العميقة التي رصدتها التقارير.

ها هم، من بعيد، يدفعون بالعصيّ بعض الحصيّات داخل كل فخّ يتخلّل الطريقَ، ثم يصبّون عليه خليط الإسمنت المركّز.

وحفرةً بعد حفرةٍ، تمكّن الجندُ من إحكام سدّ الفِخاخِ التي تم رصدُها من قبل... حفرة عميقة واحدة بقيت من دون سدّ.

قال قائدُ الجند لجنوده وهو يبعدهم عن حوافها الهشّة المتداعية:

«أرأيتم ذينك القوسين الأسودين، في قاع الحفرة، إنّهما كلابتا العدو. إنه هناك ينتظر بفارغ الصّبر وجبة الصّباح. ابتعدوا وإلا تدحرجتم إلى الداخل».

وحين تركوا مسافةَ أمانٍ بينهم وبين الدّعموص، رمى القائدُ حصاةً داخل الحفرة وبقي ينتظر ردّة فعل العدوّ.

بعد برهة أطلّت الحشرة برأسها المخيف وهي تصرخ غاضبةً في كل الاتجاهات:

- من الأحمق الذي يريد أن أحوّله في برهة إلى رشفة وقشرة؟

- أنا قائدُ جندِ النمل أيّها المفترس المخادع!

- هذا شرفٌ لي. أفضّل دائمًا أن أكون مفترسًا على أن أكون فريسة أيها الضعيف. افترس ولا تكن فريسة! نصيحة من عدوّ لدود.

- لسنا في حاجة إلى دروسك العدوانية. إنّنا أبناء مملكة حيّرت العلماءَ في النظام والانسجام والتنسيق وضرب بها المثل، منذ القدم، في الكّد والسّعي والصّبر والتعويل على الذات، والادخار للأيام السّوداء. تعلّمت منّا الشعوبُ الكثيرَ وبنا اعتبرت.

- وما الذي يمكن للشعوبِ تعلّمه من نملةٍ تفني يومَها وجهدها في تسلّق جدار عال أو جبلٍ شاهقٍ من أجل حبة قمح أو غيرها؟ حريّ بالناس أن يتتلمذوا على دعموص مثلي يحصل بأقلّ جهد، وأقصرِ وقت على غنائم لا تحصى دون أن يغادر حفرته العميقة هذه.

ولم يتأخّر القائدُ في الرّد عليه بلهجة اعتزاز وفخر قائلا: «تسلق الجبال شرف لا يناله من يقضّي نهاره مردومًا في حفرة وفمه مفتوحٌ ينتظر بمذلّة لقمةً سائغةً ملوّثة بالدّم. انظر إلى نفسك: ألا تستحي؟ صدق من قال يوما:

«ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر».

ولم يكد الدّعموصُ يستوعب كلامَ القائد حتى هاج وماج وهمّ بمهاجمته لكن الحصى انهمر عليه من كل حدبٍ وصوبٍ فتسمّر في مكانه متأوهّا.

ومازال جند النّملِ يقذفون بالحصى المدبّب حتى أردوه قتيلاً.

كانت فرحةُ الانتصارِ على العدوّ المروّع عارمة، فلم يتمالك القائدُ وجنده أنفسهم عن الرّقص حول الدّعموص الصرّيع منشدين أناشيد عسكرية.

ولم ينسوا، قبل جرّ جثة الدّعموص إلى القرية أن يسدّوا فخّه بالحصى والاسمنت.

كانت جثةُ العدو الضّخمة صعبةَ السحب فلم تتمكن كتيبةُ الجندِ من إيصالها إلى ساحة القرية إلاّ بعد مشقة.

ها هو النملُ، وقد خرج من الوكر منذ الصّباح الباكر أفواجًا وزرافات، يستقبل الأبطال ويلقي نظرةَ دهشةٍ ونقمةٍ على الحشرة التي كم سلبتهم الطمأنينة وأرواحَ أعزّ إخوانهم وأخواتهم.

بعد تقبّل التهاني بمناسبة النّصر، وبعد تبادل الوزراء والمستشارين وقادة الجيش عبارات الغبطة والتفاؤل. بعد هذا تقدمت الملكة بخطواتها الموزونة وظلّها الخفيف من جمع النّمل الكريم، وقالت لهم جملة واحدة لن تنسى:

«تأمّلوا جيّدا عدوّكم».

تأمّل النملُ، من جديدٍ الجثةَ الملقاة على ظهرها. تأمّلوا كلابتيهما الملطختين بدماء أحبّتهم، وقرونها السامة، وأرجلها ذات الأشواك.

تأمّلوها ملقين أسئلة عديدة على قائد الكتيبة الذي كان لا يتأخر في الإجابة عن الاستفسارات بكل فرح وزهو.

لن ينسوا ما حيوا شكلَ هذا العدوّ. سيصفونه لأبنائِهم وأحفادِهم. سيرسمونه على الحيطانِ هو وقمعه، ويكشفون حيلَه وألاعيبَه.

لابدّ من توعية النّمل.. ذَهب دعموص ومازالت في الطرق والمسالك والشعاب دعاميص تصطاد بالحيلة والفخّ.

 

 

 


 

ميزوني محمد البنّاني