أول طبخة

أول طبخة

رسوم: عفراء اليوسف

في حصةِ الأنشطةِ قالت المعلمةُ: إننا أصبحنا آنسات كبيراتٍ علينا أن نساعد أمهاتنا ولكن.. كيف؟

قلتُ: أنا أرتّبُ حجرةَ مكتبِ أبي لأني أحبُّها أكثرَ من حجرتي ففيها الكمبيوترُ والمكتبةُ والتحفُ الجميلةُ. قالت زميلةٌ: أنا ألمّع سورَ الشرفة لأنني أقف بها طويلاً ودائمًا أرتكن إليه. وقالت أخرى: أما أنا أقف على كرسي صغيرٍ لأصل إلى صنبورِ حوضِ المطبخ فأغسل الأطباقَ ولا مانع أن ألهو قليلاً بالماء والمنظف.. أنفخ فيها فتتطاير فقاعات جميلةٌ.

فاجأتنا المعلمةُ: وماذا عن الطهي؟!

أخذنا ننظرُ بعضنا لبعض نحن البنات الصغيرات ونبتسم ابتسامات توحي بأننا لا نعرف حتى.. كيف نوقد «البوتوجاز»، أما أنا فتذكرتُ هلعَ أمي حين كنتُ أحاولُ ذاتَ مرة أن أشعلَ عين «البوتوجاز» الصغيرة دون أن يراني أحدٌ، ولكن أمي قد رأتني ولا أريدُ أن أذكر ماذا حدث بعد ذلك، فخوفُ أمي عليَّ أوجعني كثيرًا. قالت المعلمة: سنصنعُ «بيضًا مقليًا» علينا إحضار أربعَ بيضات. ارتعشتُ فأمي هي التي تدخلُ إلى الدجاجاتِ التي لا تنقرها حين تجمع البيضَ أما أنا حين أحاول الدخولَ يحدث هرجٌ في المكان تتطاير على إثره ريشاتٌ ملونةٌ وزغبٌ أصفرُ ناعمٌ. أردفت المعلمةُ: ملعقتان من الحليب المغلي البارد.

تعجبتُ وسألتُ: كيف مغلي وبارد وهل يحتاج صنع البيض المقلي إلى حل هذا اللغز؟!

أكملت المعلمةُ: قليلٌ من الملح وقليلٌ من الفلفل الأسود. شعرتُ بطعم البيض المقلي اللذيذ في فمي وتذكرتُ أمي بمهارة فلا تسقط منها ذرة ملح ولا تعطس لأن الفلفل الأسود بعيدٌ عن أنفها الذي أداعبه دائمًا. أضافت المعلمة: نقلب الخليط في وعاءٍ عميقٍ بحرص حتى لا ينسكب. حينئذ التمعت على السبورة الوردةُ الجميلةُ التي تزين مفرش مطبخ أمي، إلا أن القلق بدا على وريقاتها الرقيقة، قلتُ لها بعيني: سأكون مثل أمي ولن ألوثك أبدًا يا وردتي، انتعشت الوردة وكأن كلامي كان ندى الصباح، ذهبت الوردةُ ربما لتعود إلى المفرش، انتبهتُ إلى المعلمة وهي تشرح كيف نسكب الخليط في مقلاة بيد طويلة بها سمنٌ ساخنٌ، كنتُ قبل هذه الخطوة قررتُ أن أسأل أمي المساعدة حتى أصنع «بيضًا مقليًا» إلا أن صوت نزول البيض على السمن الساخن رن في أذني فارتجفتُ وقررتُ أن أفكر قليلاً قبل اتخاذ مثل هذه الخطوة، أنهت المعلمةُ كلامَها بأن نقلب الخليط على النارِ حتى يتماسك، ولم تنس أن تنبه علينا أن نقدّمه ساخنًا ونطلب مساعدةَ الكبير وأن نخبرها بالنتيجة غدًا، في الطريق إلى المنزلِ ظللتُ أفكر في البيضِ واللبن المغلي البارد والملح والفلفل والمقلاة، ولم أنتبه للأشياء التي كنتُ أحييها عند مروري بها كالشجرة ذات الزهور الحمراء وبائعة الكتب التي تداعبني وأنا أطلب من أبي كتابًا للتلوين، بل كدتُ أقع حين نسيتُ المطبَّ الذي أتفاداه تلقائيًا كل يوم، حين أخبرتُ أمي رأيت في وجهها فرحة جعلتني أنظر في المرآة لأتأكد أنني مازلت الطفلة نفسها التي تزين شعرها شرائط ملونة.

في المساء أخْبَرْت أمي وأبي وأخوتي أنني سأعد لهم عشاءً جميلاً، ضم أخي رأسي إليه في حنان بالغ ثم أمسك بطنه وداعبني قائلاً: سترك يا رب، طمأنته بينما أبي يرقب كل هذا في صمتٍ قلقٍ كصمته وقلقه يوم امتحان الحساب الذي أحمل همه من أول يوم في الدراسة، أخَذَتْ أمي يدي ودخلنا المطبخ، أحسستُ أن حجمي صغر وكل الأشياء أكبر مني حتى الكوبُ الذي تشرب فيه أختي الصغيرة، علمتني أمي كيف يوقد «البوتوجاز» دون أن ألسع نفسي وكيف أتجنب ذراتِ الفلفل الأسود إلا أنني عطست وأنا أقلّب البيضَ، كما حلّت أمي لغز اللبن المغلي البارد حلاً سهلاً أدهشني حقًا قالت: نغلي اللبن ثم نتركه يبرد.

وحين كادت تسقط نقطةٌ على الوردةِ التي في المفرش لاحقتني أمي، فغمزت لي الوردة. وأنا أقلب البيض على النار أخذتُ أتأمل الخطوط البيضاء المتعرجة الكثيرة وكيف يلتف حولها اللون الأصفر في تكوين غريب لم أجد له تشبيهًا تعجبتُ كيف؟ وأنا التي أفسر كلَّ أشكال السحبِ وأعرف عدد ألوان قوس قزح، نبهتني أمي حتى لا يحترق «البيض المقلي» ثم أمسكت بيدي التي تمسك يد المقلاة الطويلة. أخيرًا انزلق «البيض المقلي» ساخنًا فوق طبق صيني لامع، حين ابتسمت أمي رأيت في عينها زميلاتي ومعلمتي يصفقن لي.

على العشاء كنتُ أرقبُ الجميعَ بخوفٍ.. هل سيعجبهم أم لا؟ مال أبي ناحيتي وغمز مبتسمًا هامسًا لي: إنه أطعم بيض مقلي أكلته في حياتي.

 


 

وسام جار النبي الحلو