البومة الصغيرة

البومة الصغيرة

رسوم: نصير بهبهاني

عادت البومةُ الصغيرةُ إلى عشِّها غاضبةً جدًا، نفضت جناحَيها بغيظٍ وقالت لأمها:

- لقد قررتُ ألا أخرجَ من هذا العشِّ أبدًا حتى أموت، لأنني مللتُ تعليقات الطيور علينا، ما أغرب وجوهكم! وجوهُكم مسطحةٌ كأوجهِ البشر، ترى هل تعرفونَ لغةَ البشرِ أيضًا؟ لقد سئمتُ ذلكَ كله ولا أريد أن أرى أحدًا بعد اليوم.

تنهدت البومةُ الأمُ التي كانت تجمع العُشَّ للفقسة الجديدة وقالت:

- لو أنهم عرفوك أكثر سيكفون عن هذه التعليقات، ولكنك أنت لا تصبرين، وعلى أي حال حسنًا تفعلين ببقائك في العشِ هذه الأيامِ، فأنا بحاجة إلى مساعدتكِ في رعايةِ إخوتك الصغار، فموعد فقسهم سيحل غدًا إذا لم أخطئ الحساب.

وبالفعل، في اليومِ التالي فقس البيضُ، وخرج إخوتُها الصغارُ إلى الوجودِ وامتلأَ العشُ برائحتهم وبدفء أجسادِهم الغَضَّة الصغيرة، ومر اليومُ وهي تروح وتجيء تساعدُ أمها في إطعامهم ورعايتهم، لكن غضبَها من معاملة الطيورِ الأخرى لها، أفسدَ عليها فرحَها بإخوتها الصغار، فظلت تشعر بالضيقِ والحزنِ. ومع ذلك، ما كادت الشمسُ تميل نحو المغيب حتى قالت لأمها:

- سأخرج يا أمي لأحلّق بعض الوقت.

قالت الأم: ولماذا تذهبين بنفسك إلى الطيورِ، التي لا تحتملين حديثَها؟ إذا كانت تضايقك حقًا أبقي بين أهلك من اليوم، فجميعهم يطيرون بالليل.

فقالت: لن أذهب إلى أحدٍ ولا أريد أن أقابل أحداً، فقط سأدور دورة واحدة للتريض وأعود.

فتحت جناحيها وطارت، وبعد أن دارت دورةً واسعةً حول المنطقة، أحست بالوحشةِ والهمِ، فلا طعم للطيران والتريض دون صحبةٍ، وقالت لنفسها: حقا إن المرءَ لا يستطيع الاستمتاعَ بهذه السماءِ دون أصدقاء، فكم أتمنى الآن أن أقابلَ أحدًا منهم! ولم تمض لحظاتٌ حتى شاهدت سربًا من الأوزِ المهاجرِ يحلقُ في السماءِ، وسرعان ما شعرتُ بالانجذابِ إليه ، كانت الأوزاتُ تهبطُ الآن لتستريحَ، فوقفت تتفرجُ عليهن، وحينما نزلن إلى البركةِ، ورحن يسبحن قالت:

يالجمالهن! ما أحلاهنّ! سأذهب لأتعرف عليهم.

ولكنها تذكرت تعليقات البلابل والصقور التي ضايقتها بالأمس، وكل الكلمات التي تخشى أن تسمعها من الأوزات، فأسرعت تعد قناعًا يجعل وجهها شبيهًا بأوجه هذه الطيور، لكنه جاء غير مطابق، بل جاء غريبًا، فالمنقار الذي صنعته لم يكن يشبهُ منقارَ أي طائر آخر، كان غريبًا جدًا، ولكن شخصيتَها المرحةَ وطريقتَها اللطيفةَ في التعارف على الغرباءِ، جعلت الأوزات يرحبن بها بينهن. وبعد أن لعبن وتنقلن من شجرةٍ إلى أخرى، وثرثرن كثيرًا عن كل شيء في الطبيعةِ، سألتها إحدى الأوزات المهاجرة عن نوع الطيور الذي تنتمي إليه، وعندئذ اكتشفت أنها لا تستطيع الآن أن تقول إنها بومة صغيرة، أو تحكي أي شيء عن أهلها من البوم، بل وجدت أنها مضطرة لمواصلة الكذبة، التي ابتدعتها حينما وضعت ذلك القناعَ على وجهها وجعلته لا يشبه أوجه البومِ، فراحت تلفقُ أسماءَ غريبةً عن أهلِها وجنسِها، ولأن الأوز المهاجرَ اعتادَ على مقابلة الغرباءِ والأنواعِ المختلفةِ من الطيورِ، فلم يبد أيَّ استغرابٍ حول أكاذيبها، ولم يسأل مزيدًا من الأسئلة، وهذا ما أعجبها كثيرًا فيه.

وفي اليومِ التالي، شعرت بالحزنِ والخجلِ من نفسها حينما ذكرت كذبها على الأوز المهاجر، حتى أنها قررت ألا تذهب لمقابلته وتوديعه، ولكنها لم تستطع أن تفعل ذلك، فما أن انتصف النهارُ حتى طارت إليه لتودعه، ومرة أخرى وجدت نفسها مضطرة لوضع ذلك القناع المخيف.

وبينما كانت تلهو وتمزح مع الأوز لم تلحظ أن قناعها قد سقط في مكان ما، وأن وجهها الآن صارَ منكشفًا للأوزات المهاجرة، فقالت الأوزات:

- ماذا حلَّ بك يا أختاه؟

سألت البومة مندهشةً: ماذا حل بي؟

- وجهك تغير كثيرًا، أصبحت تشبهين البوم تمامًا.

وعندئذ أدركت ما حدث، فأسرعت تهرب من أمامهن وعادت إلى العش تبكي، لكن الأوزات اللاتي كن قد أحببن البومة الصغيرة كثيرًا، أسرعن وراءها، ورحن يطرقن باب عشها بأدب وصبر حتى فتحت لهن... قالت الأوزات:

- كم كنت مخطئة عندما غيرت وجهَك يا أختاه، هل تعرفين أنه من العار أن ينكر المرءُ أصلَه، ثم قالت إحداهن: من قال لك إننا لا نحب طيورَ البومِ؟

قالت البومةُ الصغيرةُ مدافعةً عن نفسهِا: لقد فعلتُ ذلك لأن بعضَ الطيور يقولون عن البومِ أشياءً تضايقني.

وهنا قالت أكبرُ الأوزات سنًا: يبدو يا ابنتي أنك قليلةُ الصبرِ، اعط الغرباءَ الفرصةَ ليعرفوك وعندئذ سوف يحبونك لشخصِك وروحِك الجميل.

قالت البومةُ الصغيرةُ لنفسها: عجبًا، كم يشبه ما يقلنه كلامَ أمي!

على أي حالٍ، لقد تعلمت البومةُ الصغيرةُ الكثير من هذهِ التجربةِ، واكتسبت ثقةً كبيرةً بنفسها، وهذا ما اكتشفته بنفسي وهي تحكي لي حكايتها هذه بالتفصيل.

 


 

آمال الميرغني