العَاذِريَّة
العَاذِريَّة
عدسة: أشرف أبو اليزيد هل سمعتم عن آلة الزمن؟ حين دخلت قرية العاذرية التي تقع على بعد 70 كيلومترًا من مدينة الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، أحسست أنني ركبت آلة الزمن، وعدت بالتاريخ إلى الوراء، إلى الماضي، قبل مائة عام، أو أكثر. في صحراء العاذرية، وفي منطقة نجد، كانت الجبال الحجرية، والتلال الرملية، والشعاب والأودية، ترسم الصحراء من حولنا. هناك أقام السعوديون هذه القرية التراثية، أي التي تستعيد التاريخ القديم، لتعكس في بنائها وتصميمها وعمارتها والحياة فيها، كل أشكال الحياة في مدينة الرياض قديمًا، التي انطلق منها الملك عبد العزيز ابن عبد الرحمن آل سعود ليوحد مناطق الجزيرة العربية تحت علم المملكة العربية السعودية. استقبلنا عازف الربابة وهو ينشد وصوت ربابته يعلو فيصل إلى أسماع الحاضرين، الذين يشاهدون الرقصات الشعبية يشارك فيها الجميع صغارا وكبارا بأزيائهم الشعبية. ولما كنا قد دخلنا «العاذرية» ليلا، فقد أكمل القمر استدارته فأصبح بدرًا يضيء أشكال الحياة البديعة من حولنا. الفرسان فوق الخيول، والإبل يقودها مدربون، والأسلحة النارية تطلق البارود للترحيب بنا فيرسم دخانها رمادًا يصعد إلى القمر. كانت الرياض في الماضي، كما أصبحت العاذرية اليوم، مثل كل المدن العربية القديمة، لها سورٌ يحميها، وتجمعات سكنية، وساحات تجارية. يلتف حول العاذرية سورٌ طوله 1109 أمتار، وارتفاعه ما بين أربعة إلى خمسة أمتار، وعليه أبراج دفاعية دائرية، قطر البرج منها تسعة أمتار، وارتفاعه 53 مترًا، ليرى منه المدافعون عن القرية أي خطر قادم من بعيد، فينذروا سكانها، ويستعدوا لحمايتهم. أما البوابات فضخمة وارتفاعها أربعة أمتار وعرضها خمسة أمتار. الطرق والممرات الداخلية بين البيوت متعرجة وضيقة. ويبلغ مجموع أطوالها 2350 مترًا. والمباني متلاصقة، كأنها أسنان المشط الواحد. والبيوت لها فناء داخلي، قد تكون به بئر، ولكن من المؤكد أن بها أشجارًا توزع الظل على السكان والجدران، لتقي من حر الشمس. وحصن المصمك المقام في العاذرية هو صورة طبق الأصل عن حصن المصمك التاريخي الذي يتوسط مدينة الرياض. ويقع في قلب بنائها منذ أن شيد سنة 1902 ميلادية الموافقة 1312 هجرية. وكان حامية عسكرية للملك عبد العزيز مؤسس المملكة العربية السعودية. ما أجمل القصر، الذي يعد سكن الحاكم، ومكان استقبال الضيوف. وما أجمل الأعمال الخشبية والجصية (المصنوعة من الجص) التي تزين القصر والأماكن كلها حولنا. إن مساحة القصر 4305 أمتار مربعة، وبه 15 غرفة على طابقين. ويتوسطه (الوجار)، وهو مكان الطهي سابقا وعمل القهوة والشاي والنخلة التي يجنى منها طيب المنظر مع التمر، الطعام الرئيسي لسكان نجد قديمًا. والساحة الرئيسية التي تتصل بالقصر ينتقل منها الحاكم وضيوفه إلى المسجد. في الحيالة، أو المزرعة، التي تمثل صورة مصغرة لمزارع النخيل حيث يخرج إليها رجال القرية ليعملوا منذ الصباح في زراعة النخيل والبرسيم والقمح، توجد 700 نخلة تنتج خمسين طنا سنويا من الرُّطب والتمر الذي يعتبر أساس الغذاء. ما إن وصلنا إلى الساحة حتى دبت الحياة فيها: أصوات الباعة في كل مكان، بقول وتمور وتوابل.. ومزادات على بضاعة قديمة، وتجار يضعون بضاعتهم، وآخرون يحزمون مشترياتهم. وطبيب شعبي يستخدم البيض والدقيق لعلاج كسور في الذراع... والخطاط الذي يكتب على قطع الورق العتيق.. والذين يخبزون الخبز ساخنا، والطعام لذيذا.. وصناع الأدوات الحديدية يشعلون النار حتى يطوعوا الحديد حسب الشكل الذي يريدونه.. كل هذا في 15 محلا تجاريا تحاكي (تقلِّدُ) السوق القديم.. رأينا ألف مهنة ومهنة.. عادت من كتب التاريخ.. وانطلقت بها الحياة حولنا.. فكأن آلة الزمن وصلت إلى المملكة العربية السعودية قبل مائة عام.. أيضا رأيت يا أصدقائي «الكُتّاب» وهو المكان الذي كان الأطفال فيما مضى يتعلمون عنده الحروف الهجائية ويحفظون فيه الآيات والسور من القرآن الكريم.. رأيتهم يرددون وراء المقرئ الحروف الأبجدية، وهم يرفعون الألواح الخشبية.. جلستُ معهم وأنا فرح بأنهم يتعلمون لغة القرآن الكريم. إنها اللغة التي نتعلمها ونتقنها فنحافظ عليها، وتحفظ هي لنا آدابنا وتاريخنا فتحافظ علينا. ما أجمل العاذرية!
|