قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

الزهراوي.. ليتني كنت مع صديقي

«أحبك يا مدينتي»..

إنها العبارة التي يرددها الصغير «خلف» كل صباح، حين يصعد إلى أعلى مكان في المدينة ويطل على «قُرطبة» الإسبانية، التي يسكنها المسلمون منذ عقود.

إنه يحب الطبيعة الخضراء والنقاء، والأفق الممتد.

كان يتخيل أنه سوف يرى نهاية الدنيا أمامه.

وفي كل صباح، كان يحلو له أن ينظر إلى الجهة التي جاء منها ماشيًا، ويردد:

- هنا، في هذه البقعة، يقع بيتنا.. في منطقة الزهراء. حيث يسكن علية القوم.

بلغ «خلف»، هذا الصباح العاشرة من العمر، في العام 947 ميلاديًا، وأحس أن بلوغ الإنسان لهذه السن، يعني أنه قد صار كبيرًا، وعليه أن يفعل شيئًا.

أحسّ أن الأبواب مفتوحة أمامه، فأبوه عباس الزهراوي الأنصاري، رجل غني، ويمكنه أن ينفق عليه الكثير، كي يصبح طبيبًا.

وقبل أن ينزل من أعلى التل، رفع يديه إلى السماء، وراح يدعو ربه:

- اللهم.. اجعلني أخفف آلام الناس على يديك.

وهكذا بدأ رحلته نحو الطب.

كان «خلف» قد تمكن من حفظ القرآن الكريم، قبل ثلاث سنوات، وصار عليه أن يجمع بين العلم والإيمان.

وفي البيت الواسع الذي يمتلكه الأب «الأنصاري»، قال الرجل الذي جاءت أسرته من المدينة المنورة لابنه:

- اسمع يا «خلف»، أعدك أن أحقق لك ما تشاء.

وبدأ الأب يصحب ابنه إلى حيث مجالس العلماء، من رجال الطب، وبدأ يتعلم أصول الطب والصيدلة، وفهم أن العلوم الأخرى، سوف تفيده في التحصيل. فدرس علوم الرياضيات، وقرأ في كتب الفلاسفة الأسبقين.

وذات يوم، أصيب صديقه «كسوة» بجرح غائر في رأسه، فذهب به أبوه إلى أقرب حلاق، راح يزيل الشعر عن رأسه، وعندما عاد «كسوة» إلى الدار، أصابته «حُمى» شديدة، فهم منها «خلف» أن الحلاق لم يدرس الجراحة، أو الطب، ومع ذلك فإنه أقبل على علاج «كسوة» دون أي حرج.

ومنذ هذا اليوم، قرر «خلف» أن يستكمل دراسته على أصولها، وأن يحارب الدجالين، الذين يمارسون الطب.. دون أي دراسة.

وطوال حياته، فإن «خلف» لم تفارقه صورة صديقه «كسوة» الذي دفع حياته ثمنًا لهذا الحلاق الذي استخدم «الموس» الذي يحلق به شعر الآخرين، في عمل جراحة لصديقه.

ومرّت السنوات.. وهو يردد دومًا: ليتني كنت طبيبًا لصديقي «كسوة». وصار «خلف» شابًا أتقن التشريح، وعرف الكثير عن التركيب الجسماني للإنسان، ودرس الأمراض العديدة التي تصيب كل منطقة من الجسم.

وعلى الرغم من أنه كان في مقتبل العمر، فإن «خلف الزهراوي» قرر أن يمارس الجراحة، أي قرر أن يصير طبيبًا مختلفًا.

وذات يوم، جاءه أب، ومعه ابنه المصاب بتمزق في ذراعه، بدا الأب منزعجًا، وهو يقول:

- ابني سوف يفقد حياته، أيها الطبيب. هل من أمل؟

لم تكن الحالة سهلة بالنسبة لطبيب في هذا الزمان، لكن «خلف» أدرك أن الطفل المريض، قد تمزق شريانه، بسبب قطعة الزجاج التي سقطت عليه، وأنه ينزف بشدة، وقد يفقد دماءه بعد دقائق.

وبكل ثبات راح يتصرف. فهو يعرف أن الوعاء الدموي يجب أن يربط.

وكان «خلف» بعد ساعة هو أول طبيب عربي، يقوم بربط الشريان بالخيط الحريري، وبأدوات جراحة نظيفة.

وتوقف النزيف، وبعد أيام شفي الصغير، ويوم أن رآه «خلف»، قال في نفسه:

- كم تمنيت لو أنقذت صديقي «كسوة».

وعاهد نفسه أن يحاول إنقاذ المجروحين والمصابين، حتى لا يلاقوا المصير نفسه، لذا ابتكر طريقة لإيقاف النزيف بالكي، أو بالخياطة.

كما استطاع أن يقوم بخياطة الجروح بإبرتين، وكم أنقذ العشرات من المرضى، خاصة الأطفال منهم.

ولعل «خلف» الزهراوي، الذي صار يعرف باسم «أبو القاسم» هو أول طبيب متخصص في الأطفال، فقد نجح في التعرف على أبرز الأمراض التي تصيب الأطفال.

لذا، فكم قام باستئصال ورم اللحمية من عشرات الأطفال الذين كانوا ينطقون الكلمات بشكل خطأ بسبب اللحمية.

وأنقذ «ابو القاسم خلف الزهراوي» عشرات من مرضاه الصغار، حين نزع عنهم اللوزتين.

وقرر «الزهراوي» أن يؤلف كتابًا عن «الطب والمرضى»، وأطلق عليه اسم «التصريف» شرح فيه كيف يمكن للطبيب الناشئ أن يجري العمليات الجراحية.

ولم يكن الكتاب عن أمراض الأطفال وحدها.. بل عن كل ما يمكن أن يصيب الإنسان من أمراض.. ابتداء من العظام المكسورة، أو أمراض الصدر، أو آلام الأسنان، والفك.

ولأنه درس الصيدلة إلى جوار الطب، فقد تضمن كتابه الوصف الكامل لكل العقاقير اللازمة لمرض بعينه.

كما تضمن الكتاب أنواع الأغذية، وفائدة كل منها لصحة الإنسان، فالخضراوات مفيدة لسهولة الهضم، واللحوم تساعد في بناء الأنسجة، والكبد مفيد لمن نزف كثيرًا.

وصار كتابه «التصريف» بمنزلة المراجع للعلماء في أوربا، حتى بعد أن خرج المسلمون من «قرطبة» في القرن الخامس عشر.. أي بعد وفاته بخمسة قرون.

لقد اعتبروه دومًا «أبو الجراحة» في الطب، وذلك لكثرة ما قام به من عمليات مبتكرة، ووضع خطط علاج للأمراض المستعصية.

 


 

محمود قاسم