قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

نجم الدين المصري
(إن لم تقطعه.. قطعك)

أندهش بشدة, وهو يرى الرمال تنساب من أعلى, عبر فتحة ضيقة, إلى أسفل, وسأل أباه:

- كيف أمكن إدخال الرمل إلى داخل هذا المكان?

ضحك الأب (أبو عبدالله محمد المصري), وقال لابنه الصغير, الذي لم يبلغ العاشرة بعد, في عام 1215م.

- إنها ساعة الرمل.

كل شيء بدا غريبًا بالنسبة للصغير (نجم الدين), تأمل حركة الرمل داخل العلبة الزجاجية, إنه يسقط بنظام دقيق. من أعلى لأسفل, قال الأب:

- إذا نزلت كل هذه الحفنة من الرمل من أعلى إلى أسفل في هذه العلبة الزجاجية, فذلك يعني أن ساعة من الزمن قد مرت.

لمعت عيناه, وتعلم أول درس مهم في حياته, أن الوقت مثل السيف, إن لم تقطعه قطعك, وأن أثمن شيء في الحياة هو الوقت, ففيه يمكن للإنسان أن يفعل كل شيء.

وشب الصغير في مدينة القاهرة, وقد تعلم أن كل شيء له وقته, الأذان ينطلق فوق المنابر في وقت محدد, وعرف أن الشمس لا تتحرك فوق الأرض إلا من خلال نظام دقيق للوقت.

قال له أبوه, وهو يهديه (ساعة الرمل), التي كانت مقياسًا للوقت في ذلك الزمن:

- اعتبرها لعبة, واستفد منها جيدًا.

وصارت (ساعة الرمل) صديقة للطفل الذي صار صبيًا, وكان عليه أن يستفيد منها بشكل مباشر, فراح يستخدمها في قياس حركة النجوم, في السماء, ليلاً.

وبناء على نصيحة أبيه, بدأ يبحث عن كتب علماء الفلك والميقات, كي يستفيد منها, وعرف, حين صار في الخامسة عشرة أن هناك مؤلفات عظيمة تركها علماء الفلك العرب, منهم (ابن يونس المصري), الفلكي المشهور الذي عاش في القرن الرابع عشر.

كما عثر أيضًا على كتاب مهم, من تأليف (شمس الدين الخليلي), الفلكي الذي عمل في الجامع الأموي بدمشق.

لم يقرأ الكتب التي استطاع أبوه أن يدبرها له.

بل راح يراجع جداول تعيين الوقت حسبما حددها الأسبقون من علماء العرب, ابتداء من ارتفاع الشمس, حتى غروبها.

وفي سن العشرين, بدأ (نجم الدين المصري), في عمل جداول خاصة به, استطاع أن يطور من (ساعة الرمل) ليس لتكون أكثر اتساعًا بل أكثر دقة, فنزول حبة رمل واحدة عبر الفتحة الضيقة, يعني وحدة زمنية محددة.

واستطاع خلال عشرة أعوام, أن يحدد ارتفاع الشمس, في أي ساعة من ساعات النهار, طوال فصول السنة: في الصيف, حيث الشمس أطول بقاء, وفي الشتاء, حيث تغرب الشمس في الخامسة مساء, وأيضًا في الربيع, والخريف.

ورسم وهو في الخامسة والثلاثين خط عرض مرور الشمس فوق مدينة القاهرة, قبل أن يقوم العلماء بوضع خط وهمي يسمى (مدار السرطان) على الخرائط, بعدة قرون.

وعندما بلغ الأربعين, صار أستاذًا في الجامع الأزهر الشريف.

وأوصى أن يدرس التلاميذ كل العلوم المعروفة في تلك الآونة:الفلك, والرياضة, والفيزياء, وعلوم الحياة, إلى جانب الدراسات الدينية والأدبية واستجابت إدارة الجامع الأزهر لاقتراحات (نجم الدين المصري).

وأحس تلاميذ الأستاذ بالفخر لما أنجزه وبدوا كأنما تدفق الحماس في عروقهم, وقرروا استيعاب كل العلوم التي أوصى بها الأستاذ.

وسرعان ما فهموا أنه كي يصير الشخص عالمًا بارعًا في الفلك, يجب أن يستوعب كل العلوم الأخرى ولاحظ الأستاذ الذي تجاوز الخمسين, أن التلاميذ, بدأوا يسيرون على طريقته, في الدقة, والميل إلى الابتكار..

ونجح التلاميذ في جمع كل هذه الجداول.

وصار التلميذ الذي سأل يومًا عن فائدة المعرفة, أستاذًا بدوره, وأحس بالحزن وهو يجلس على مقعد أستاذه المريض ذات يوم, لكن أول جملة قالها:

- الوقت كالسيف إن لم تقطعه.. قطعك, والعلم إن تستوعبه.. نفعك.

 


 

محمود قاسم