يا زهرتي نوَّري وغني

يا زهرتي نوَّري وغني

رسوم: محسن رفعت

لن أنسى هذا الشتاء.. كانت ماما حاملا, (نوسة) أختى بذرة تكبر داخل بطنها, قالت لى ماما إن شجرتنا حامل مثلها, يعنى زهور رائعة ستظهر على فروعها, وقالت إن ميعاد ولادتها هى والشجرة, هو الربيع.

بدأت أراقب بطن ماما, وجذع الشجرة, شجرة الياسمين الهندى التى تعيش على مدخل بيتنا, رأيت بطن ماما تكبر, لكن الشجرة أين بطنها?

فكرت أنها ضعيفة تحتاج إلى تغذية, بدليل أن كل أوراقها سقطت, كنت أشرب نصف كوب اللبن بالعسل, وأسقيها بالباقى, وآخذ حبة من فيتامينات ماما كل يوم, وأغرسها عند جذورها وأرويها, حتى عرفت ماما, فأعطتنى كيس سماد, قالت هذا فيتامين النبات, وقالت إن الشجرة تصنع لبنها وعسلها بنفسها كل يوم بمساعدة الشمس, والهواء, لكن لم أر بطن الشجرة, ولم أعرف مكانها!

وكنت أحلم أحلاما غريبة جدا, لكن ظريفة جدا جدا.

مرة أحلم أن الشجرة ولدت زهرة واحدة كبيرة, كبييييرة, قلبها ليس بذورا, انما وجه طفلة تشبهنى, لها عينان, وفم, وانف, فمها ذهبى بلون الشمس, ووجهها أبيض بلون القمر, تماما شبه زهرة الياسمين, وأنها تضحك, وتلعب طول النهار مع الفراشات, والنحل, وأنها تأخذ أجنحتهم أحيانا, تطير معهم, وتعود لتنام فى قلب الشجرة.

وأحلم أن ماما ولدت مجموعة أطفال صغار, شعرهم وأياديهم وأقدامهم أوراق شجر بكل الألوان!.. تفوح منهم روائح الزهور, فل, وياسمين, وقرنفل, وأن الفراشات, والنحل يطهون لهم طعامهم فوق أشعة الشمس, يدخلون بيتنا, ويطعمونهم من أطباق هى زهور رائعة!

انتظرت يوم وصول أختى, والزهور بفارغ صبر.

حتى كانت المفاجأة فى شهر مايو.

خرجت (نوسة) أخيرا للحياة, صغيرة, لكن أكبر جدا من الزهور, تشبهنى فى كل شئ, لكنها لا تمشى, ولا تتكلم, تضحك, وتبكى, وترضع فقط, لا تعرف أو تفهم أى شئ!

وفى نفس الوقت, كانت أغصان الشجرة امتلأت بأوراق خضراء كبيرة, وظهر على طرف كل غصن مجموعة من زهور الياسمين.

فرحت جدا, وتخيلت أن فى كل ربيع ستلد أمى أختا أو أخا, والشجرة تمتلئ زهورا جديدة.

لكن مر الشتاء, ولم تكبر بطن ماما.

جاء الربيع, ولم تلد ماما!.. لكن الشجرة امتلأت بمجموعات الزهور بنفس الطريقة.

سألت ماما:

- لماذا ولدت الشجرة, وأنت لا?

- ولماذا تلد الشجرة زهورا كثيرة كل مرة?

قالت ماما:

- لأن الله يحب أن يملأ الدنيا زهورا كثيرة.

سألت : لماذا ?

أجابتنى : اسألي أنت الزهور, هى تعرف.

قلت: ولكن الزهور لا تتكلم!

أكدت ماما أن كل شئ, وكل المخلوقات تتكلم, لكن الشاطر الذكى فقط هو من يكتشف لغتها, ومن يحاول حتى ينجح, سيفرح ويندهش من جمال حكايات الزهور, وأسرارها, ويصبح قلبه زهرة مثلهم.

أحيانا يكون كلام ماما فوازير, لكن تمنيت أن يكون قلبى زهرة, وبدأت أختار أجمل زهرة لتكون هى شكل قلبى, لكن احترت, كيف أكلم الزهور ?.. وكيف أسمعها?

طلبت من ماما أن تعلمنى لغة الزهور بسرعة, قالت مستحيل, لأن كل زهرة لها لغة مختلفة, اختارى أنت الزهرة التى تحبينها أكثر, وهى ستعلمك لغتها بنفسها, تكلمينها, وتسمعينها بسهولة.

اخترت (دوار الشمس), لأنها طويلة مثلى, وبعدها اخترت زهورا كثيرة, وفى النهاية اخترت زهرة (الياسمين الهندى), ورسمتها على زجاج نافذة غرفتنا أنا و(نوسة), حتى ترى الشجرة صور أولادها فى الخريف, والشتاء وتفرح, كما تفعل ماما, تضع صورنا فى براويز فى كل مكان بالمنزل, فرحت الشجرة جدا بصور زهورها, ومالت أغصانها على شباكنا أكثر, (نوسة) رسمت الزهور على كل شئ أبيض فى الحجرة, قالت يمكن الشجرة تكبر أكثر وتدخلها.

وأخيرا وصل الربيع.

كانت ( نوسة) كبرت, وتعلمت المشى, وتحاول الكلام, نلعب أنا وهى فى حديقتنا الصغيرة كل يوم, وكل مساء, تلقي علينا شجرة الياسمين صديقتنا مجموعة من زهورها, هدية منها, أشبكها بالخيط تيجانا, واساور, واحد لنوسة, وواحد لى, وننام, هى أميرة الياسمين, وانا الملكة, تأتى الفراشات, ترفرف فوقنا بأجنحتها, الهواء ينشر رائحة الياسمين حولنا, يملأ البيت, والحديقة, وبيوت الجيران.

بمجرد ان تشم ماما رائحة الياسمين, تأتى لتحكى لنا حكاية قبل النوم.

تحكي ماما .. أن زمان ,زمان .. كانت تعيش أميرة صغيرة على جزيرة موجودة وسط النيل ,بعيد ,بعيد ..الجزيرة كانت كلها حديقة .. لم يزرعها انسان .. فيها كل أشكال والوان الزهور .. وطبعاً أجمل الفراشات والطيور ,كانت الأميرة لا ترى كل هذا الجمال ,لانها كانت وحيدة ,حزينة .. ليس لها أصدقاء تلعب معهم ..لأن والدها الملك وصل مريضاً إلى هذه الجزيرة المهجورة البعيدة هو وأسرته وأقل عدد من العمال, ليختبئ هناك بعدما فشل الأطباء فى علاجه, كان لا يمشى, ولا يتكلم, وأى طعام يأكله طعمه مر لا يحتمله, كان يرفض أى علاج جديد, ويرفض أن يراه أى غريب.

لكن الملكة زوجته لم تيأس, وكانت جميلة وفى رقة الزهور, وظلت تأمر الخياطة أن تصنع كل يوم ثوبا جديدا لابنتها الأميرة, يشبه واحدة من زهور الجزيرة, وتطلب من الأميرة أن تدخل الى والدها بالزهرة التى على شكل ردائها, ولا تتكلم, فقط تعطيه قبلة الصباح, وتترك الزهرة بجوار سريره.

كانت الملكة متأكدة أن الزهور تحمل أسرار الفرح, وشفاء الملك.

مرت أيام كثيرة, والملك لا يتحسن, يرفض الحركة أو الكلام, أو الخروج من حجرته, لكن الملكة لا تيأس.

وكانت الأميرة الصغيرة تسأل الزهور:

- معقول ولا زهرة منكم قادرة على شفاء أبى?, لماذا لا يرى جمالكم? وكيف لا يشم رائحة عطركم?

فى هذه اللحظة, كان رئيس حراس الزهور يمر على الجزيرة الحديقة, سمع أسئلة الأميرة, ورأى عينيها الحزينتين, بسرعة نادى بمزماره الطويل على كل حراس الزهور المنتشرين, والنائمين بالجزيرة.

سمع الحراس النداء, تجمعوا كلهم, كان كل حارس معه ألوان زهرته, فرش, والوان, وشكل زهرته مرسوم على ملابسه.

قال لهم رئيس الحراس غاضبا, هل سمعتم كلام الأميرة ?, هل زرتم الملك المريض?, كل واحد منكم رسم ولون زهرة واحدة فى حياته, بعدها أصبح كسولا بليدا!.. ماذا تفعلون طوال اليوم بكل هذه الألوان, والعطور, والهواء, والشمس, ومياه النهر?, غدا أريد أن أرى زهرة جديدة فيها الدواء الشافى للملك, هذا أمر, وإذا فشلتم يكون نهاية عملكم حراسا للزهور.

بسرعة بدأ حراس الزهور العمل, نسوا كل الغيرة, والمنافسة التى كانت بينهم, وضعوا كل الألوان أمامهم, حمل لهم الهواء سحابات بيضاء كثيرة ليرسموا عليها تجارب اختراع زهرة جديدة تشفي الملك المريض.

رسموا عينات لكل الألوان, لون الشمس, لون الحب, لون البحر, ألوان الفواكه, والخضراوات التى يحبها البشر, أما لون الغضب, والليل فلم يستخدموه.

وجاءوا بالعطور كلها, روائح كل النباتات.

يرسمون, يملأون سحابات, ولا تعجبهم, يلقونها فى الهواء, حتى بدأت الشمس تستعد للغروب, تعبوا, وجاعوا, كان طعامهم هو المرور فوق الجزيرة الحديقة, يشبعون من جمال منظر الزهور, ويمتلئون نشاطا.

أخيرا نجحوا, صنعوا زهرة إذا رآها أى انسان يشبع, تشبع عيناه أولا من رؤيتها, ثم تشبع أنفه من رائحتها, بعدها يفرح قلبه, ويحب أن يلمس أوراقها, ويشتهي أن يتذوقها, وبمجرد أن تلمس شفتيه, ولسانه, يخرج منها عسل صاف, ويشعر بالجوع, وأى طعام يأكله بعدها يكون طعمه حلوا كالشهد, وأى كلام يقوله يكون حلوا طيبا.

فى الفجر, كانت الزهرة جاهزة, غرسوها فى الحديقة, رواها الندى بفرح من جمالها, وفاحت رائحتها الذكية.

انتظر كل الحراس أن تصحو الأميرة, لتحمل الزهرة الجديدة لوالدها, أيقظوها, هى والخياطة, ساعدوهما, ليعرفوا نتيجة الامتحان.

شاركتهم الشمس, أرسلت شعاعا ذهبيا على وجه الزهرة, رأتها كل الطيور, والفراشات, وحشرات الحديقة, وسبحوا الله من جمالها.

فعلا الزهرة أجمل من ألوان ريش الطاووس, وعصفور الكناريا, أصوات الفرح فتحت كل الزهور, وأطلقت عطورها فى الهواء.

دخلت الأميرة غرفة والدها الملك, رائحة الزهرة دخلت أنفه, فتح عينيه, لم ير جمالا مثل هذا, مد يده يريد أن يمسك الزهرة, لمسها, اشتهى أن يذوق طعمها, بمجرد أن لمست لسانه, سال عسلها المعطر, شهدا صافيا لذيذا على لسانه, ابتهج الملك, تحرك, أمسك الزهرة, وتكلم!!.. سأل ما اسم هذه الزهرة الرائعة?

صاح الكل فرحا, الملك تحرك, وتكلم, شفي, واختفى الحزن من الحدائق ابتداءً من هذا اليوم.. وتوتة توتة, فرحنا بالحدوتة.

نعسنا أنا و( نوسة), وقبل أن ننام ونحلم أننا زهور, سألتنا ماما: لماذا خلق الله الزهور? هل عرفتم مثلنا?

 


 

منى ثابت