قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم : ممدوح طلعت

ابن جزلة.. الموسيقى علاج مجاني

لماذا يأخذ الأطباء أجورًا من المرضى?

ظل السؤال يؤرق الصغير (يحيى) حين شاهد جده يمنح الطبيب بضعة دراهم, وهو يخرج من المنزل, كان الصغير قد التهم بعض الحلوى من البائع المتجول, فأوجعت بطنه, وأحس كأن هناك من يحرق معدته.

وجاء الطبيب, وفحص المريض, وأعطاه شرابًا, جعله يشعر بالراحة, ووسط هذه الآلام التي راحت تتخفف, سأل (يحيى) جده (جزلة), فكان الجواب:

- الطبيب يمارس عملاً, ويجب أن يحصّل أجرًا على مجهوده.

ومنذ ذلك اليوم, في العام 1084 م , قرر الصغير (يحيى بن عيسى بن جزلة), أن يصبح طبيبًا, وأن يعالج المرضى, خاصة الفقراء, دون نقود, بعد أن عرف كيف دبر جده العجوز أجرة الطبيب بصعوبة.

حدث ذلك في مدينة بغداد.

وراح يدرس على أيدي العلماء, والأطباء المشاهير في المدينة, وعندما صار شابًا وسيمًا سافر إلى المدن المجاورة, لإحضار المزيد من الكتب العلمية الشهيرة في الطب, مثل مؤلفات (بن التلميذ), كما درس علم الكيمياء, والصيدلة.

وكان أول مريض, قام بعلاجه, طفل صغير, حاول أن يعض كلبًا في الشارع, فعضه الكلب غاضبًا, وأحس (يحيى) أن عليه أن يضع مريضه الصغير تحت الرعاية لأيام عدة.

وجاء الصغير (موفق الدين) للإقامة في بيت الطبيب الشاب, وبدأ يرعاه باهتمام ملحوظ, وتذكر كيف دبّر جده ذا يوم أجرة الطبيب, فقال لنفسه:

- سوف أمنحه, كل ما حرمت منه في حياتي.

وعندما عاد (موفق الدين) إلى بيته, حكى عن الطبيب الذي منحه الهدايا, وحكى له القصص الجميلة وتولى رعايته, هنا قال الأب إن الطبيب الشاب أصر ألاّ يأخذ منه أجرًا, وأنه قال:

- الله وحده يشفي, وما أنا إلا وسيلة للعلاج.

وذاع صيت الطبيب الذي يعالج الفقراء, وسائر معارفه, وأبناء منطقته, وأسرته دون أي أجر, وأحسّ الأطباء المنافسون في الأحياء المجاورة بخطورة (يحيى) على استمرارهم, فأذاع أحدهم أن (يحيى بن جزلة) يفتقد المهارة, وأنه يفعل ذلك لأنه يحتاج إلى تدريب طويل.

وعندما سمع (يحيى) هذه الأقاويل, قرر أن يخصص جزءًا كبيرًا من وقته لتأليف كتابه الأول (تقويم الأبدان).

كان يحمل الأدوية إلى مرضاه دون أن يأخذ مقابلاً, وقد سمع عنه الثري (رضوان), فاستدعاه, وقال له:

- سوف أمنحك الكثير من المال, كي تعالج الفقراء مجانًا.

وبكل أدب, شكر الطبيب (ابن جزلة) الثري, وقال: الله يعطيني, ما أسدد به ديني للناس ولاقى كتابه الأول مكانة بين العلماء, فشرع يؤلف الكتاب الثاني تحت عنوان (منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان).

كان يدبر أموره بمهارة, ويقول إن مهنة الطب نعمة حقيقية من الله, وعرف الناس أن هذا الطبيب الذي لا يأخذ أجرًا, هو الأمهر بين أطباء مدينة بغداد, مع مطلع القرن الثاني عشر الميلادي, أي في عام 1103, قرأ الناس كتابه الثالث (في مدح الطب).

وذاعت شهرة (ابن جزلة) لمهارته في العزف على العود, وعندما جاءه الطفل (موفق الدين) وقد صار شابًا, كي يعالجه من مرض أصابه في معدته, جلس الطبيب يعزف له, سأله في دهشة:

- ماذا تفعل يا سيدي الطبيب, أنا مريض, وبطني تؤلمني.

طلب منه (ابن جزلة) أن يسترخي, وراح (موفق الدين) يتذكر كيف عالجه من (عضة الكلب), حين كان يحكي له القصص, ويعزف له الموسيقى, قال الطبيب: الموسيقى من الأدوات النافعة في حفظ الصحة, وتختلف بحسب اختلاف طباع الأمم.

وبالفعل, أحس (موفق الدين) بالألم يتسرب من معدته, حين راح يبدي إعجابه بمهارة العزف, وبعد ساعة من الموسيقى الجميلة, قال الطبيب:

- اعلم يا صديقي أن موقع الألحان من النفوس السقيمة, موقع الأدوية من الأبدان المريضة.

وراح يوصي مريضه أن يمشي كثيرًا, وأن يستمع إلى صوت الطبيعة, وأن يغني مع أصوات هذه الطبيعة.

وذاع صيت الطبيب, الذي نجح في أن يجعل المدينة روضة من الغناء, والتريض, وتتلمذ على يديه الكثير من الأطباء الشباب.

وكانت أهم وصية تركها الطبيب عندما لقي ربه:

أرجو أن توقف عائدات وأرباح هذه الكتب لخدمة المرضى في كل مكان.

 


 

محمود قاسم