بستان حقيقي تحت البحر!

بستان حقيقي تحت البحر!

تصوير: باولا كروسياني

الصباح الباكر في المدينة الكبيرة المزدحمة مخنوق بالضباب الدخاني, وهو خليط من بخار الماء ودخان عوادم مئات الآلاف من السيارات التي تزحم شوارع المدينة, إضافة لما تنفثه مداخن آلاف المصانع التي تستخدم الوقود الأحفوري ـ كما النفط والفحم. وفي هذا الضباب الداكن كانت ملايين الميكروبات تتطاير, آتية من زفرات ملايين البشر الذين يسكنون المدينة, وذاهبة إليهم مع كل شهيق.

قال الكاتب لخضور يتعجله: (هيا يا خضور اسرع.. تعال لنخرج من هذا الجو, ونلحق بأول النهار في ذلك البستان الجميل تحت البحر. إن العم دينيس ينتظرنا هناك.. هيا).

قال خضور محتجاً: (لكنني لا أمتلك ثيابا للغوص. ومتاجر الملابس الرياضية في المدينة لم تفتح بعد).

عاجله الكاتب بالرد: (لسنا في حاجة إلى ثياب للغوص. هيا اسرع لا تضيع الوقت).

تعجب خضور من رد الكاتب, لكنه أسرع يستكمل ارتداء ملابسه الخضراء.. ثبت قبعته الخضراء على رأسه, وضبط النظارة ذات الإطار الأخضر على عينيه. وأسرع قافزا إلى جوار الكاتب المتأهب وراء عجلة القيادة, وانطلقا.

بعيدا عن الزحام

اجتازت السيارة زحام المرور في شوارع المدينة الكبيرة ببطء, ثم انطلقت حرة على طريق واسع يشق الصحراء. وبعد ساعة ونصف من السير, دون ظهور أي بحر أو بحيرة, أعلن خضور استغرابه وضيقه: (حتى الآن لم أر غير الرمال).

رد الكاتب بهدوء: (اصبر يا خضور اصبر. ما هي إلا دقائق وندخل في ذلك البستان المدهش تحت البحر).

أطلق خضور تنهيدتي احتجاج, وما كاد يطلق الثالثة حتى لمح في البعيد خضرة أشجار ونخيل, ومن ورائهما كان مسطح مائي يلمع, كمرآة تحت الشمس الآخذة في الارتفاع.

بحيرة هادئة

ابتعدت الصحراء برمالها واستوحاشها, وراحت السيارة تشق طريقاً تظلله الأشجار والنخيل, عن يمينه بحيرة واسعة رائعة الهدوء, وعن يساره حقول خضراء وبساتين فاكهة. على أعالي الحقول كانت بيوت الفلاحين وبينها أبراج الحمام, والأسراب البيضاء تحلق في سماء صافية الزرقة.

قرب نهاية البحيرة صعدت السيارة الطريق الآخذ في الارتفاع, والتفت حول قرية عالية بها بيوت جميلة وسط البساتين, ثم أخذت في الهبوط على طريق ترابي تظلله الأشجار. وعند المنعطف كان العم (دينيس) وزوجته (باولا) ينتظران مبتسمين, ويفتحان أذرعهما ترحيباً.

العم دينيس شعره أبيض كالفضة, وملامحه جميلة كالأطفال. وزوجته باولا تشبه كثيرا بنات العرب. هو بريطاني الأصل, وهي إيطالية, لكنهما أحبا الناس والأرض العربيين, واختارا هذا المكان ليقيما فيه بيتهما الجميل الهاديء.

ذهب خضور مع العم دينيس ليريه البستان حول البيت وأمام المدخل الذي يطل على البحيرة, لقد زرع دينيس أشجار زيتون وتوت ونخيل وبرتقال, وفي ظلال الأشجار زرع الخضروات, وكان هناك حقل صغير نضج فيه الملفوف.

طبخت باولا للغداء صينية بطاطس بالحمام في الفرن, وأعدت سلطات متنوعة من منتجات البستان. وعندما أبدى الكاتب إعجابه بالطعام, علق العم دينيس قائلا في سرور: وهذا كله طبيعي مائة في المائة.. الحمام, والبطاطس, والخضر.. والفاكهة أيضا).

أكل خضور بسرعة وهو يدندن: (يا سلام يا سلام.. على صينة البطاطس والحمام), لقد كان مفتونا بالطبيعة النقية للمكان, وفضل أن يقضي معظم الوقت في البهو عند المدخل, يتنفس من الهواء الطليق النظيف, ويتغذى بلون الخضرة, ويرتوي برؤية مياه البحيرة التي تلمع وراء الأشجار.

عندما اجتمع الكاتب والعم دينيس وباولا لشرب الشاي الأخضر في البهو, بدا خضور قلقا, ثم انفجر موجها السؤال الذي يؤرقه إلى الكاتب: (كل هذا جميل.. وجميل جدا, لكن أين هذا البستان تحت البحر الذي حدثتني عنه?).

تحت مستوى البحر

أخذ الكاتب رشفة طويلة من الشاي الأخضر, ثم ابتسم فاتحا ذراعيه على اتساعهما وهو يقول: (منذ بدأنا نرى الخضرة والبحيرة ونحن نسير تحت مستوى سطح البحر. والآن برغم وجودنا في هذا المكان المرتفع لا نزال تحت مستوى سطح البحر. فهذه الواحة الخضراء هي الجزء المزروع من منخفض الفيوم بمساحة 1800 كيلومتر مربع, ويسميها الجغرافيون (بستان مصر الأول), وهي في معظمها تقع تحت مستوى سطح البحر. وبحيرة (قارون) التي تتوسط هذا البستان ينخفض سطحها 45 مترا تحت سطح البحر. فنحن الآن في بستان حقيقي تحت مستوى سطح البحر!).

اندهش خضور, وتذكر أنه لاحظ أن السيارة كانت تهبط مع الطريق, حقاً, منذ بدأ ظهور الأشجار والخضرة والبحيرة. وراقت له فكرة أن يكون في مكان جميل كهذا, وفي منسوب تحت مستوى سطح البحر. أخذ يتخيل نفسه تحت مياه بحر شفافة عجيبة لا تمنع الحمام من الطيران, أو الشجر من الاهتزاز في النسيم, أو البشر من التنفس. وراح يرفع وجهه, ويملأ صدره من هواء البستان النظيف المعطر, بأريج الورد الطبيعي المزروع قرب البهو, ورائحة الزهور في أشجار الفاكهة بالحديقة

 


 

محمد المخزنجي





أبراج الحمام على ضفاف البحيرة





البيت وأمام بوابته الزرقاء يلعب أطفال القرية