تذكرة داود ماذا تعرف عنها?

تذكرة داود ماذا تعرف عنها?

رسوم: نادي

(لا.. العلم ليس للملوك... يجب أن ينزل إلى الناس).

سمع الطفل الصغير (جلال الدين) جده يردد هذه الجملة الغريبة فنظر إليه في دهشة وكأنه يسأله أن يفسر ما قاله أكثر... ابتسم الجد, العالم الكبير (داود الأنطاكي) وقال:

- هــذا رأيّ... وأنا أنقلــــه عن أبـو الطب... أبو قراط..

وبدا الجد كأنه يضيف لغزا آخر إلى كلامه. فمن يكون صاحب هذا الاسم الغريب الذي يردده الجد? مسح العالم الكبير على شعر حفيده, وقال:

- اسمع يا صغيري.. منذ مئات السنين, كان الحكام هم وحدهم الذين يعرفون أسرار الطب, كي تكون لهم السطوة الأولى على الناس, إلى أن جاء رجل يوناني, عاش إلى جوار البحر, وقرر أن ينقل ما تعلمه من الطب إلى الناس.

ومن يومها والطب مهنة إنسانية, شرط أن يدرس صاحبها أصوله, وكيفية علاج الناس.

أبو الطب

وعرف الصغير الحقيقة, فجده له مكانة مشابهة لما حظي به (أبو قراط) أبو الطب في التاريخ.

إنه (داود الأنطاكي) واحد من القدوات العلمية في كل عصورالتاريخ.

رجل يحمل العديد من الأسماء, ولايزال كتابه المشهور (تذكرة داود) يطبع حتى الآن, يستخدمه الناس, ويتبعون تعليماته.

تعالوا نبدأ الحكاية من أولها.

في عام 932 هجرية, رحّبت به الحياة, وهي تسمعه يطلق أولى صرخاته, في بلدة صغيرة في انطاكية التي تقع شمال سوريا, وقريبة من تركيا.

ورغم تلك الصرخات, إلا انه عندما صار في الخامسة, لم يكن يتحمل صراخ أي أحد إلى جواره, خاصة أخته الصغرى (فاطمة) التي كم جاء عطار القرية لمداواتها, إلا انها فقدت بصرها.

وزاد الصراخ...

سأل يوما: ألا من وسيلة تخفف الألم?

وسرعان ما جاء الرد: في الكتب خير علاج.

وعرف أن هناك كتباً قديمة, شرح فيها بعض العلماء أساليب التخلص من الألم, وراح يبحث عن الكتب, وأماكنها, وقضى سنوات طويلة لكنه لم يصل إلى شيء.

مخطوطات قديمة

وذات يوم, وهو في السابعة عشرة, التقى صاحب مكتبة قديمة, عجوزاً, قال له:

- إذا كنت تعشق الطب فعلاً, فخذ من عندي, بلا مقابل.

واكتشف (داود) أنه نال من العجوز ثروة لا تقدّر, فهذه مخطوطات قديمة لكتب قام بتأليفها رجال عشقوا الطب: أبوقراط اليوناني, وجالينوس الروماني, وابن سينا العربي, وتلميذه الرازي.

ولم يقرأ الكتب, بل قرر أن يحفظها عن ظهر قلب, وراح يرددها على نفسه والآخرين كأنه يتلوها من صفحات تمر أمام عينيه, وقال لنفسه:

- هذه كتب كثيرة, لم لا أجمع خبراتها في كتاب واحد?

كان يواصل الليل بالنهار.

في الصباح يستجمع كل ما لديه من معرفة, من العقاقير والأدوية, يرتّبها, ويضيف إليها, وفي الليل يقرأ المزيد من الكتب التي كتبها من سبقوه.

وراح يسأل الكبار عن خبراتهم: قل لي, بماذا أحسست وأنت تتناول شراب الخروع عندما أوجعتك بطنك?

ويدوّن الاجابة, ويسأل مريضاً آخر, ثم يدوّن الاجابة, حتى يصل إلى النتيجة بعد أن يكون قد سأل الكثير من الأشخاص, ووصل إلى النتيجة نفسها.

وسأل أحد زملائه:

- ألا تتعجب....?

ردّ: في العلم خطأ بسيط قد يودي بحياة شخص بريء.

ورغــم سنّه الصغــيرة, فإن النـــاس راحـت تلقّبه بـ (الحكيم الماهر الفريد), وتردد الناس عليه كثيراً, يسألونه الاستشارات الطبية, وقرر أن يبني مستشفى صغيراً يأتيه الناس للعلاج.

وتحوّل المستشفى, مع مرور الوقت, إلى مركز علمي, يدوّن فيه الكثير من الملاحظات حول المرض, وأعراضه, وأساليب الشفاء منه, والعقاقير المناسبة لعلاجه, ثم العقاقير البديلة.

لم يكن ينام من ساعات الليل إلا قليلاً.

في تلك الآونة, كان أي عالم يعرف الكثير عن كل العلوم الأخرى, واستطاع ذلك الطبيب الحاذق أن يلم بمعارف كثيرة, في الفلك, والرياضة, والفقه, والكيمياء, وأيضاً في الفلسفة الإسلامية.

سأله أحد تلاميذه, عندما تقدم به العمر:

- هل استفدت من كل هذه المعارف فعلاً?

شدّ الأستاذ الشيخ تلميذه من يده, وأدخله إلى غرفته الخاصة, وأشار إلى مجموعة ضخمة من الأوراق المتناثرة, وقال: لو قرأت هذا الكتاب, ستعرف أن الإجابة: (نعم.. بالتأكيد).

تذكرة الدواء

وراح التلميذ يقرأ العنوان الجذّاب لكتاب صار من أهم المؤلفات العربية في الطب على الاطلاق, وردد في دهشة:

(تذكرة أولي الألباب, والجامع للعجب العجاب).

ثم سأل: ما هذا, ما المعنى?

وشرح داود الأنطاكي... العنوان, فالمقصود بالتذكرة هو ما يجب أن يأخذ به المريض من أساليب علاج إذا أصابه مرض, وهو التعبير الذي صار مألوفاً بعد ذلك في علم الطب (تذكرة أو روشتة).

وراح التلميذ يقرأ: وعرف أن أستاذه (الأنطاكي) عكف على تأليف الكتاب حتى لا يندثر ما تركه الأقدمـون في عالم الطب, وسمع أستاذه يقول:

- لولا بائع الكتب العجوز, لضاع تراث البشر في الطب للأبد, لذا كان لابد من المحافظة عليه.

كان (الأنطاكي) يعرف تماماً مآسي الماضي في علم الطب, كان مقصوراً فقط على الملوك, وكانوا يتوارثونه فيما بينهم شفاهة, فلا يكتبه أحد, وهو خطأ ورثه العلماء أيضاً عن الملوك, فكان الخطأ الأكبر.

ومن هنا جاء اسم (تذكرة داود).

سأل التلميذ: هل جمعت هنا ما قاله الأقدمون فقط?

ابتسم الشيخ العجوز, وقال: بالطبع لا, لو فعلت ذلك لصرت ناقلاً, لا أكثر, أنا هنا أؤلف وأضيف, وأضع حجراً ثابتاً في عالم الطب.

وطلب التلميذ من أستاذه أن يبقى في الغرفة, يقرأ ما جاء في الكتب, وسمح (الأنطاكي) له بأن يفعل, فهو يؤمن أنه يجب أن يكون قدوة, مثلما كان أبوقراط قدوته يوماً ما.

وقرأ التلميذ...

وأدرك قلمه ذلك الكنز الذي سيصل بعد أسابيع إلى الناس, فالشيخ (داود الأنطاكي) قد وضع لنفسه خطة فريدة في البحث العلمي.

ولكي يجعل كتابه مفيداً لكل الناس, فإنه كتب التذكرة بالعديد من اللهجات العربية, وهو يذكر الحسن والرديء, والنافع والضار, وكيفية تناول العلاج وعدم إدمانه أو الوقوع في أسره.

قال التلميذ: ما أروع هذا الكتاب, سوف يبقى مفيدا للناس!

وراح التلميذ يقرأ فصول الكتاب, والدهشة لا تفارقه, والكتاب يعدد أنواع النباتات وعائلات الحيوان, وما استخرجه الإنسان منها من أدوية وعقاقير, وأسس صناعة الدواء, وطرق العلاج.

وقال (داود الأنطاكي) لتلميذه وهو يثني على الكتاب:

- أهمية هذا الكتاب أنه سيصل إلى كل الناس, ويصبح الطب مهنة الشعب.

وقد كان...

 


 

محمود قاسم