رَحَلْتُ ورَأيْتُ: قَطَرُ.. ومارد مصباح علاء الدين.. إعداد: العربي بن جلون
رَحَلْتُ ورَأيْتُ: قَطَرُ.. ومارد مصباح علاء الدين.. إعداد: العربي بن جلون
رسم: رضوان الرياحي لَنْ أنْسى ماحَيِيتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْجَميلَ، يَوْمَ الثَّالِثِ مِنْ سِبْتَمْبِرَ! كُنْتُ وَحيداً فَريداً أتَمَشَّى بَيْنَ الشَّجَرِ، الَّذي يُظَلِّلُنِي بِأَغْصانِهِ الْمورِقَةِ الْخَضْراءِ؛ حيناً أتَرَنَّمُ فِي نَفْسي، وحيناً أُمَلِّي عَيْنَيَّ بِمَناظِرِ الطَّبيعَةِ الْخَلاّبَةِ. وفَجْأةً، لَمَحْتُ مِصْباحاً نُحاسِياًّ، يومِضُ مِنْ بَعيدٍ، وَمْضَةً تِلْوَ وَمْضَةٍ، كَأنَّهُ يُنادينِي. تَوَقَّفْتُ عَنِ السَّيْرِ والتَّرَنُّمِ، وشَعَرْتُ بِقَلْبي يَنْبُضُ بِسُرْعَةٍ، نَبْضَةً تِلْوَ نَبْضَةٍ: ماذا أفْعَلُ؟!.. هَلْ أظَلُّ جامِداً فِي مَكانِي هَكَذا، مِثْلَ تِمْثالٍ حَجَرِيٍّ، لا أُقَدِّمُ رِجْلاً ولا أُؤَخِّرُها؟!.. لابُدَّ أنْ أَكْتَشِفَ سِرَّ هَذا الْمِصْباحِ، وإنْ كانَ شَكْلُهُ غَريباً عَنِّي، لَمْ أرَ شَبيهاً لَهُ مِنْ قَبْلُ!.. وحينَ دَنَوْتُ مِنْهُ، مَدَدْتُ يَدَيَّ الْمُرْتَعِشَتَيْنِ، أُريدُ أنْ أحْمِلَهُ، فَوَجَدْتُهُ ثَقيلاً جِداًّ، بِرُغْمِ فَراغِهِ ورِقَّةِ نُحاسِهِ! دَعَكْتُهُ برِفْقٍ ولِينٍ، أنْفُضُ عَنْهُ الْغُبارَ.. وبَعْدَ ثَوانٍ، ثَوانٍ فَقَطُّ، نَفَثَ دُخّاناً كَثيفاً، أعْشى عَيْنَيَّ، وهُوَ يَصْعَدُ عالِياً. ولَمْ يَلْبَثْ أنْ تَشَكَّلَ مارِداً ضَخْماً، لَمْ أُشاهِدْ نَظيراً لَهُ مِنَ الأجْسامِ والأحْجامِ، لا في الأحْلامِ ولا في الأفْلامِ! تَوَجَّسْتُ مِنْهُ خيفَةً، فَتَراجَعْتُ إلى الْوَراءِ، حَتّى كِدْتُ أسْقُطُ عَلى ظَهْري، فَأطْلَقَ قَهْقَهَةً قَوِيَّةً، زَعْزَعَتِ الأشْجارَ، وأسْقَطَتْ أوْرَاقَها، وأرْعَبَتْ أطْيارَها. لَكِنَّهُ عادَ إلى هُدوئِهِ، لَمّا رَآني قَلِقاً مَرْعوباً، وخاطَبَني بِهُدوءٍ: هَنيئاً لَكَ، بُنَيَّ!.. لَقَدْ عَثَرْتَ عَلى مِصْباحِ عَلاءِ الدِّينِ، الَّذي ضاعَ، ولَمْ يَظْهَرْ لَهُ أثَرٌ، مُنْذُ قُرونٍ طَويلَةٍ! قُلْتُ لَهُ مُتَلَعْثِماً: كُنْتُ أظُنُّ أنَّ عَصْرَ عَلاءِ الدِّينِ، وعَلي بابا، وشَهْرَزادَ، غَبَرَ (انتهى) دونَ رَجْعَةٍ، لَكِنَّهُ عادَ الآنَ في عَصْر ِالتِّكْنولوجْيا والْعِلْمِ، والاِخْتِراعاتِ الإلِكْتْرونِيَّةِ الْمُدْهِشَةِ.. . قاطَعَني مُبْتَسِماً: دَعْنِي مِنْ عَصْرِكُمُ الَّذي لا أفْهَمُ فيهِ شَيْئاً بَتاتاً، ولا أسْتَطيعُ الْعَيْشَ بَيْنَكُمْ، لِما بَلَغَني عَنْهُ مِنْ تَطَوُّرٍ كَبيرٍ، وأجِبْني بِصَراحَةٍ: ماذا تَطْلُبُ منّي أنْ أفْعَلَهُ لَكَ؟ تَرَدَّدْتُ في الإجابَةِ، فَأرْدَفَ (تابع حديثه) قائِلاً: أتُريدُ مالاً وَفيراً، أمْ ذَهَباً ولُؤْلُؤاً كَثيراً، أمْ قَصْراً فَخْماً، أمْ قَطيعاً مِنَ النّوقِ؟ طَأْطَأْتُ رَأْسي أُفَكِّرُ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: - أُريدُ أهَمَّ مِنَ الْمالِ والذَّهَبِ واللُّؤْلُؤِ.. ! اِرْتَسَمَتْ عَلاماتُ الدَّهْشَةِ عَلى وَجْهِهِ، كَأنَّهُ عَجَزَ عَنِ التَّصْديقِ بِأنَّ هَذا الْفَتَى لا يُبالي بِالْمالِ والْحُلِيِّ، كَيْفَ لا، والْبَشَرُ يَسْعَوْنَ طيلَةَ حَياتِهِمْ وَراءَهُما: ماذا تَقولُ؟!.. أَهُناكَ أحَبُّ إلَى النَّفْسِ، وأهَمُّ مِنْ هَذِهِ الأشْياءِ الثَّمينَةِ؟! أجَبْتُهُ بِثِقَةٍ كامِلَةٍ: أجَلْ، ألَمْ تَقْرَأْ ما نَظَمَهُ الشّاعِرُ : «تَغَرَّبْ عَنِ الأوْطانِ في طَلَبِ الْعُلى وسافِرْ فَـفي الأسْفارِ خَمْسُ فَوائِدِ تَـفَرُّجُ هَـمٍّ واكْتِسابُ مَعيـشَةٍ وعِلْمٌ وآدابٌ وصُحْـبَةُ ماجِـدِ»؟ قالَ الْمارِدُ، كَأنَّهُ أدْرَكَ غايَتِي النَّبيلَةَ: إذَنْ، تُفَضِّلُ الْقِيامَ بِرِحْلَةٍ عَلى الْمالِ واللُّؤْلُؤِ! - نَعَمْ، إلى أيَّةِ دَوْلَةٍ تَوَدُّ أنْ تَحْمِلَنِي؟ - اِخْتَرْ أنْتَ، وسأنفّذ ما تريد! - أُحِبُّ أنْ أزورَ دَوْلَةً عَرَبِيَّةً، كانَتْ مُلْتَقى قَبائِلِ الْعِراقِ وشَمالِ الْحِجازِ ونَجْدٍ! أطْرَقَ الْمارِدُ يُفَكِّرُ، ثُمَّ هَزَّ رَأْسَهُ قائِلاً: تَقْصِدُ دَوْلَةَ قَطَرَ، الَّتي تَحْتَفِلُ في الثّالِثَ مِنْ سِبْتَمْبِرَ، بِعيدِ اسْتِقْلالِها؟ صِحْتُ بِهِ، والْفَرْحَةُ تَغْمُرُ قَلْبِي: ماذا تَنْتَظِرُ، أيُّها الْمارِدُ؟!.. هَيّا بِنا حالاً «خَيْرُ الْبِرِّ عاجِلُهُ»! مَدَّ يَدَيْهِ كِلْتَيْهِما أمامَهُ، كَأنَّهُما بِساطٌ، وقالَ: اِجْلِسْ فَوْقَهُما ثابِتاً، لاتَخْشَ سوءاً، ثُمَّ أَغْلِقْ عَيْنَيْكَ، وافْتَحْهُما في الْوَقْتِ نَفْسِهِ! قَفَزْتُ فَوْقَ يَدَيْهِ، وبِسُرْعَةِ الْبَرْقِ، أيْ قَبْلَ أنْ أُكْمِلَ إغْلاقَ وفَتْحَ عَيْنَيَّ، ألْفَيْتُ نَفْسي في شِبْهِ جَزيرَةٍ بِالسّاحِلِ الْغَرْبِيِّ لِلْخَليجِ الْعَرَبِيِّ. يَا اللَّهُ، هَلْ أنا في يَقَظَةٍ أمْ في حُلْمِ؟!.. اِِلْتَفَتُّ ناحِيةَ الْجَنوبِ، فَرَأيْتُ السَّعودِيَّةَ، ثُمَّ وَلَّيْتُ وَجْهي نَحْوَ الْغَرْبِ، فَشاهَدْتُ الْبَحْرَيْنِ، وفي الْجَنوبِ الشَّرْقي رأيْتُ الإماراتِ. سِرْتُ في أرْضِها الصَّخْرِيَّةِ الْمُنْبَسِطَةِ، مِنْ هُنا إلى هُناكَ، مِنْ هَذِهِ النّاحِيةِ إلى تِلْكَ، وأنا أُمَلِّي عَيْنَيَّ بِهِضابِها وتِلالِها الْكِلْسِيَّةِ في مِنْطَقَةِ دُخّانٍ الْغَرْبِيَّةِ، وجَبَلِ فْويطْ في الشَّمالِ. وكَمْ هِيَ جَذّابَةٌ مَناظِرُ الأخْوارِ والْخُلْجانِ والأحْواضِ والرِّياضِ الَّتي تَنْتَشِرُ في الْماجْدَةِ، والشَّحّانِيَّةِ، والسليمي، وتَفْخَرُ بِأراضيها الْخِصْبَةِ، وثَرَواتِها النَّباتِيَّةِ! قُلْتُ بَيْنِي وبَيْنَ نَفْسي : أكُلُّ هَذا الْجَمالِ السّاحِرِ يَخْتَبِئُ هُنا، ونَحْنُ نَجْهَلُهُ ؟! لَمْ أُصَدِّقْ ما حَصَلَ لِي، فَأحْبَبْتُ أنْ أسْألَ طِفْلاً ماراًّ بِجانِبِي، وهُوَ يَرْتَدي بِذْلَةً جَميلَةً، ويَنْتَعِلُ حِذاءً جَديدًا، ويَمْسِكَ رايَةً: - السَّلامُ عَلَيْكُمْ. رَدَّ بِوَجْهٍ بَشوشٍ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ، أخي.. أتُريدُ أنْ تُرافِقَنِي؟ سَألْتُهُ حائراً: نَعَمْ، لَكِنْ، إلى أيْنَ؟ حَدَجَنِي (نظر إليّ) بِنَظْرَةٍ غَريبَةٍ مُتَسائِلاً: إلى السّاحَةِ الْكُبْرى، لِنَحْتَفِلَ بِعيدِ الاِسْتِقْلالِ.. مالَكَ تَنْظُرُ إلَيَّ هَكَذا، ألا تُصَدِّقُنِي؟ - بَلى، ألِهَذا تَحْمِلُ الْعَلَمَ بِلَوْنَيْهِ الْجَميلَيْنِ؟ - طَبْعاً، وأيْنَ عَلَمُكَ؟ - مادُمْنا أخَوَيْنِ حَميمَيْنِ، فَسَنَتَرافَقُ إلى السّاحَةِ! - حَسَناً، تَعالَ نَذْهَبْ، وإلاَّ فاتَنا تَرْديدُ النَّشيدِ الْوَطَنِيِّ! ِانْطَلَقْنا إلَى السّاحَةِ، نَحُثُّ (ندفع) الْخُطى فِي سُرورٍ وحَماسَةٍ، فيما كانَ يَنْظُرُ إلَيَّ، بَيْنَ الْفَيْنَةِ (الحين) والأُخْرى، كَأنَّ قَلْبَهُ أعْلَمَهُ بِشَيْءٍ. والسَّيّاراتُ تَسيرُ مُزَيَّنَةً بِالرّاياتِ، بَيْنَما الرَّاجِلونَ مِثْلَنا عَلى جانِبَيِ الطَّريقِ، يَحْمِلونَ الأعْلامَ، ويَتَبادَلونَ التَّهانِيَ. وعِنْدَما وَصَلْنا السّاحَةَ، وَجَدْناها غاصَّةً (ممتلئة) بِالْجَماهيرِ، كِباراً وصِغاراً، يُنْشِدونَ بِأصْواتِهِمُ: قَسَماً بِمَنْ رَفَعَ السَّماءْ قَطَـرُ سَتَـبْقى حُـرَّة تَسْمـو بِروحِ الأوْفِياءْ وفي نِهايَةِ الْحَفْلِ، اِنْزَوى بِي هامِساً: أحْسَسْتُ أنَّكَ مِنْ بَلَدٍ بَعيدٍ، ألَيْسَ كَذَلِكَ؟ - يالَكَ مِنْ نَبيهٍ، وكَيْفَ عَرَفْتَ ذَلِكَ؟ - لَمْ تَكُنْ حافِظاً لِلنَّشيدِ، ولَهْجَتُكَ عَرَبِيَّةٌ، لَكِنَّها غَريبَةٌ بَعْضَ الشَّيْءِ! اِعْتَرَفْتُ لَهُ قائلاً: صَدَقْتَ، وبِالْحَقيقَةِ نَطَقْتَ، لَكِنْ، هَلْ كُلُّ الأَطْفالِ يَحْفَظونَ النَّشيدَ الْوَطَنِيَّ؟ أجابَني مُؤَكِّداً: إنَّ أوَّلَ ما يَنْبَغي أنْ يَرْضَعَهُ أيُّ طِفْلٍ مَعَ حَليبِ أُمِّهِ، هُوَ حُبُّهُ لِوَطَنِهِ ودينِهِ وأرْضِهِ ولُغَتِهِ وشَعْبِهِ. ويَظْهَرُ هَذا الْحُبُّ في حِفْظِ وتَرْديدِ النَّشيدِ في الأعْيادِ والْمُناسَباتِ والْحَفَلاتِ والْمُبارَياتِ الرِّيّاضِيَّةِ، واللِّقاءاتِ الثَّقافِيَّةِ والْفَنِّيَّةِ. كَما يَظْهَرُ في رَفْعِ عَلَمِهِ خافِقاً، لأنَّهُ يُلَخِّصُ أخْلاقَهُ وتاريخَهُ. - ألاَ فَسِّرْ لِي أكْثَرَ: اَلْعَلَمُ، فـي رَأْيي، لَيْسَ إلاّ رَسْماً مُلَوَّناً، يُمَيِّزُ بِلاداً عَنْ أُخْرى، فَكَيْفَ يُلَخِّصُ أخْلاقاً وتاريخاً؟ اِبْتَسَمَ قائلاً : اُنْظُرْ جَيِّداً إلى عَلَمي، ماذا تُلاحِظُ؟ - لَهُ لَوْنانِ : عِنابِيٌّ ذو تِسْعَةِ رُؤوسٍ، وأبْيَضُ ناصِعٌ. - حَسَناً، اللَّوْنُ الْعِنابِيُّ يَرْمُزُ إلى دِماءِ الْوَطَنِيِّينَ، الَّذينَ ضَحَّوْا بِأرْواحِهِمْ في الْقَرْنِ التّاسِعَ عَشَرَ. واللَّوْنُ الأبْيَضُ شِعارُ الأمْنِ والسَّلامِ. أمّا الرُّؤوسُ التِّسْعَةُ، فَتُشيرُ إلى الإماراتِ الْمُتَصالِحَةِ في دُوَلِ الْخَليجِ الْعَرَبِيِّ سَنَةَ 1916 وقَطَرُ هيَ الْعُضْوُ التّاسِعُ. وصَمَتَ قَليلاً، قَبْلَ أنْ يَدْعُوَنِي: أتُريدُ أنْ تَحْضُرَ مَعي حَفْلَةَ لَيْلَةِ (الْقْرَنْقْعو)؟ - يَسُرُّني كَثيراً، لِنَنْطَلِقْ حالاً! تَوَجَّهْنا إلى قاعَةٍ كُبْرى، فَوَجَدْنا أَطْفالَ الْمَدارِسِ، يُشارِكونَ في الْمُسابَقاتِ والألْعابِ التُّراثِيَّةِ، وعَلاماتُ السُّرورِ والْبَهْجَةِ تَرْتَسِمُ عَلى وُجوهِهِمْ، وهُمْ يُرَدِّدونَ الأناشيدَ، ويَتَناوَلونَ الْحَلَوى. وفي آخِرِ الْحَفْلِ، خَرَجوا فَرْحانينَ، يُرَدِّدونَ هَذِهِ التَّرْنيمَةَ: - «قَرَنْقْعو قَرَقَرْقاعو، أُعْطونا اللهُ يُعْطيكُمْ، بَيْتُ مَكَّةَ يَديكُمْ». و(الْقَرَنْقعوهْ خُلْطَةٌ مِنَ الْمُكَسَّراتِ والْحَلَوِيّاتِ). سِرْنا مَعَهُمْ رِجْلاً بِرِجْلٍ، يَصْدَحونَ بِأُهْزوجَتِهِمْ، حامِلينَ أكْياساً مَليئَةً بِالْحَلَوِيّاتِ. وكُلَّما صادَفوا طِفْلاً يَتيماً أوْ فَقيراً يَمْلأونَ يَدَيْهِ بِها، فَيَنْضَمُّ إلَيْهِمْ فَرِحاً. تَعَمَّدْتُ أنْ أُبْطِئَ عَنْهُمْ، فَلَحِقَ بي صاحِبي مُتَسائلاً: مالَكَ خَرَجْتَ عَنِ الْكَوْكَبَةِ؟.. ألا تُريدُ أنْ تُساهِمَ مَعَنا في هَذا الْعَمَلِ الإنْسانِيِّ؟ - بَلى، لَكِنَّ إقامَتي بِقَطَرَ أوْشَكَتْ عَلى النِّهايَةِ، وأنا أُريدُ أنْ أنْتَهِزَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ، فَأزورَ ما تَبَقَّى مِنْ سُوَيْعاتٍ الْمُدُنَ والْقِلاعَ. - لا تَنْسَ أنَّكَ سَتَزورُ مَنْزِلي، وتَتَناوَلُ مَعي وَجْبَةَ الْعَشاءِ. - شُكْراً جَزيلاً، أخي، لا تَنْسَ أنْتَ أيْضاً أنْ تَزورَني يَوْماً ما! رَدَّ باسِماً: طَبْعاً طَبْعاً، هَيّا نَجُلْ في مُدُنِنا الْقَطَرِيَّةِ.. اُنْظُرْ، هَذِهِ «الدَّوْحَةُ» عاصِمَةُ وَطَني، تَـتَوَفَّرُ عَلى ميناءٍ تِجارِيٍّ ومَطارٍ كَبيرَيْنِ، وطُرُقٍ فَسيحَةٍ، ومَصارِفَ نَقْدِيَّةٍ، ومُؤَسَّساتٍ حُكومِيَّةٍ. كَما توجَدُ بِها مَساجِدُ ومَكْتَباتٌ، مِثْلَ «دارِ الْكُتُبِ الْقَطَرِيَّةِ» ويُطِلُّ عَلى شاطِئِها «الْمَتْحَفُ الْوَطَنِي» الَّذي أُنْشِئَ سَنَةَ 1912. و«حَديقَةُ الْبَدْعِ» تَحْتَضِنُ مَجالاتٍ خَضْراءَ، وسوقاً شَعْبِيَّةً، وألْعابَ أطْفالٍ، يَلْتَقونَ فيها لِيَقْضوا أوْقاتَ فَراغِهِمْ نَشِطينَ. و«بَيْتَ التَّقاليدِ الشَّعْبِيَّةِ» الَّذي شُيِّدَ بِشارِعِ «حَمَدٍ الْكَبيرِ» سَنَةَ 1935 يَبْدو لَكَ مِنْ بَعيدٍ بِبُرْجِهِ الْهَوائِيِّ (بادْجيرْ) الْمُطِلِّ عَلى كافَّةِ الْجِهاتِ، كَـ«الرَّيانِ» و«خَليفَةَ». وإذا قَطَعْنا مَسافَةَ عِشْرينَ كيلومِتْراً، نَجِدُ بِـ«طَريقِ سَلْوى» حَديقَةَ الْحَيَوانِ، تَحْتَوي عَلى حَيَواناتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، أَليفَةٍ ومُتَوَحِّشَةٍ، وزَواحِفَ، وطُيورٍ مُخْتَلِفَةٍ، ومَدينةِ ألْعابٍ لِلأطْفالِ. وتِلْكَ مَدينَةُ «مْسيعيدْ» تَقَعُ في الْجَنوبِ الشَّرْقي، تَبْعُدُ عَنِ الْعاصِمَةِ بِخَمْسَةٍ وأرْبَعينَ كيلومِتْراً. وتَنْفَرِدُ بِصِناعاتِها الثَّقيلَةِ، ومينائِها التِّجاري الَّذي يُصَدَّرُ مِنْهُ النَّفْطُ. ويوجَدُ بِشاطِئِها «مُنْتَجَعُ سيلينْ السِّياحي». ولَعَلَّكَ إذا زُرْتَ مَتْحَفَها الْجَميلَ، سَتَنْبَهِرُ عَيْناكَ بِزَخْرَفَةِ الْقِطَعِ الأثَرِيَّةِ، والْبَواباتِ الْعَتيقَةِ. وهُناكَ في الشَّمالِ، نَجِدُ عَدَداً مِنَ الْمُدُنِ، مِثْلَ «رَأْسْ لفانْ» الصِّناعِيَّةِ، الَّتي تُصَدِّرُ الْغازَ الطَّبيعِيَّ مِنْ مَرْفَئِها.و«الشّمالْ» الْحَديثَةِ الْبِناءِ، وهِيَ مَرْكَزٌ إدارِيٌّ لِلْقُرى السّاحِلِيَّةِ، تَبْعُدُ عَنِ الْعاصِمَةِ بِمِئَةٍ وسَبْعَةِ كيلومِتْراتٍ. ومَدينَةُ «الْخورِ» تُشْبِهُ «الْوَكْرَةَ» في كَثيرٍ مِنْ مَساجِدِها ومَتْحَفِها وأبْراجِها الْعالِيةِ، الدَّالَّةِ عَلى عَراقَتِها وأصالَتِها الْعَرَبِيَّةِ. وتَبْعُدُ عَنِ الدَّوْحَةِ بِسَبْعَةٍ وخَمْسينَ كيلومِتْراً. أمّا «دُخّانٌ» الَّتي تَقَعُ عَلى السّاحِلِ الْغَرْبِيِّ بِسَبْعينَ كيلومِتْراً عَنِ الْعاصِمَةِ، فَتُعْتَبَرُ مَدينَةً صِناعِيَّةً، وأوَّلَ مِنْطَقَةٍ لِحُقولُ النَّفْطِ. أخَذَني مِنْ يَدي قائلاً: هَيّا، ياصَديقي، تَرَ بِأُمِّ عَيْنِكَ الْمَناظِِرَ الْجَذّابَةَ في «جَزيرَةِ النَّخيلِ» أوْ نَلْعَبْ في الْمَدينَةِ التَّرْفيهِيَّة «مَمْلَكَةِ عَلاءِ الدِّينِ». قُلْتُ لَهُ مُتَسائلاً : ولِماذا لا نزورُ الْقِلاعَ الَّتي تَشْتَهِرُ بِها بِلادُكَ؟ -كَما تُريدُ، هَذِهِ قَلْعَةُ «الزِّبارةِ» وتِلْكَ قَلْعَةُ «الْكوتْ» تُطِلُّ عَلَيْنا مِنْ فَوْقِ الرَّبْوَةِ، أُقيمَتْ عامَ 1917. وثَمَّةَ قَلْعَةُ «الْوَجْبةِ» بِالضّاحِيةِ الْجَنوبِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ «الرَّيانِ» يَعودُ بِناؤُها إلى عامِ 1882 مازالَتْ تَحْكي بِفَخْرٍ مَعْرَكَةً حامِيةً، انْتَصَرْنا فيها عَلى الأتْراكِ سَنَةَ 1893. وقَلْعَةُ «مْروبْ» تَبْعُدُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ كيلومِتْراً عَنْ مَدينَةِ «دُخّانْ» يَرْجِعُ تاريخُها إلى الْعَهْدِ الْعَبّاسِيِّ في الْقَرْنِ الثّالِثِ الْهِجْرِيِّ- التّاسِعِ الْميلادِيِّ. وقَلْعَةُ «الشَّقْبْ» عَلى بُعْدِ ثَمانِيَةِ كيلومِتْراتٍ عَنِ «الزبارَةِ». وقَلْعَةُ «أُمِّ صلالٍ مُحَمَّدٍ» تَبْعُدُ بِواحِدٍ وعِشْرينَ كيلومِتْراً عَنِ الدَّوْحَةِ، شُيِّدَتْ في الْقَرْنِ التّاسِعَ عَشَرَ. سَألْتُهُ : يَظْهَرُ لي أنَّ قَطَرَ مِنَ الدُّوَلِ الْقَديمَةِ؟ أجابَني دونَ تَرَدُّدٍ : لَمْ تَقُلْ إلاّ الْحَقيقَةَ، هِيَ دَوْلَةٌ قَديمَةٌ، وإنْ كانَتْ تَبْدو بِبِناياتِها الْحالِيةِ حَديثَةً. فَفي الْقَرْنِ الْخامِسِ قَبْلَ الْميلادِ، كَتَبَ الْمُؤَرِّخُ الإغْريقِيُّ «هيرودْتْسْ» مايَلي: «إنَّ الْقَبائِلَ الْكَنْعانِيَّةَ هِيَ أوَّلُ مَنْ سَكَنَ قَطَرَ، لأنَّ رِجالَها كانوا رَحّالَةً، يَشْتَهِرونَ بِفُنونِ الْمِلاحَةِ والتِّجارَةِ الْبَحْرِيَّةِ». ووَرَدَ اِسْمُ «قَطَرَ» في خَريطَةِ الْجُغْرافِيِّ الْيونانِيِّ بَطَليموسْ «بِلادُ الْعَرَبِ» إذْ يُشيرُ فيها إلى مَدينَةِ الزبارَةِ التي كانَتْ مِنْ أهَمِّ الْمَوانِئِ التِّجارِيَّةِ في الْخَليجِ الْعَرَبِيِّ. وتَدُلُّ الْحَفْرِيّاتُ والنُّقوشُ والْقِطَعُ الأثَرِيَّةُ عَلى أنَّ قَطَرَ لَمْ تَكُنْ أرْضاً خَلاءً؛ كانَتْ مَأْهولَةً بِسُكّانٍ نَشِطينَ في مَجالِ الرَّعْيِ والزِّراعَةِ، وصَيْدِ السَّمَكِ وتِجارَةِ اللُّؤْلُؤِ، مُنْذُ الألْفِ الرّابِعِ قَبْلَ الْميلادِ، حَتّى أُطْلِقَ عَلَيْها «دُرَّةُ الْخَليجِ». أمّا سُكّانُها فَيَنْتَسِبونَ إلى أُصولٍ عَرَبِيَّةٍ، حَلُّوا بِها في الْقَرْنَيْنِ السّابِعَ عَشَر والثّامِنَ عَشَرَ. ويُقالُ إنَّ نَبِيَّنا الْكَريمَ «صلى الله عليه وسلم» وزَوْجَتَهُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، لَبِسا بُرْدَتَيْنِ قَطَرِيَّتَيْنِ، وأنَّ الأميرَ الْعادِلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ،كانَتْ لَهُ عَباءَةٌ قَطَرِيَّةٌ مُزُرْكَشَةٌ بِالرِّيشِ. سَألَني ضاحِكاً: قُلْ، ولا تَخْجَلْ: ألَسْتَ في حاجَةٍ إلى أُكْلَةٍ قَطَرِيَّةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْجَوْلَةِ الطَّويلَةِ في رُبوعِنا الْفاتِنَةِ؟ أجَبْتُهُ، ومَصاريني تُدَنْدِنُ: أجَلْ، لَمْ يُخْطِئْ ظَنُّكَ، فَلَيْتَكَ تُكْرِمُني بِها! - إذَنْ، تَعالَ مَعي إلى مَنْزِلي، فَأُمّي حَضَّرَتْ لَنا أُكْلاتٍ شَعْبِيَّةً، مِنْها: الْعَصيدُ، والْبَلاليطُ، مَعَ الشّايِ والزَّنْجَبيلِ. صِحْتُ بِهِ في سُرورٍ، وأنا أتَلَمَّظُ بِشَفَتَيَّ: يالَها مِنْ أُكْلاتٍ شَهِيَّةٍ!
|