مغامرة العصفور ذي الريش الذهبيّ

مغامرة العصفور ذي الريش الذهبيّ
        

          يفكّر العصفور ذو الريش الذهبيّ في أنّه لم يعرف طوال حياته غير الأقفاص، لقد سئم الحياة داخل هذه البيوت الحديديّة المشبّكة، وهو ينظر الآن إلى الأفق حوله بعينين حزينتين وفكر شارد.

          في هذه الأثناء يدخل الرجل الطيّب، الرجل الذي قضّى حياته في رعاية العصافير وحمايتها. يدخل الرجل الطيّب إلى الحديقة حيث يعلّق أقــفاصه، وينظر إلى العصافير وهي تزقزق وتتقافز على الأراجيح، فتغمره الغبطة ويشعر بالرضى.

          لكنّ العصفور ذا الريش الذهبيّ لم يكن راضيًا، وعندما ارتفع صوته بالغناء، بدا في صوته حزن من افتقد لذّة العيش.

          نظر إليه الرجل الطيب بعينين ناضحتين بالحبّ، وبادره قائلاً:

          - عمت صباحًا أيّها العصفور الصغير، لِمَ تبدو اليوم حزينًا؟

          فقال العصفور ذو الريش الذهبيّ :

          - لقد سئمت العيش داخل هذا القفص، أريد أن أطير بعيدًا، أريد أن أرى العالم.

          فقال الرجل الطيّب :

          - لك ما تريد أيّها العصفور الصغير.

          وفتح له باب القفص، ثمّ أضاف :

          - لكن تذكّر، إنّ هذا القفص ليس سجنًا، إنّه بيتك.

          غرد العصفور ذو الريش الذهبيّ بفرح، ثمّ قفز إلى الباب المفتوح، ودون أن يفكّر في كلام الرجل الطيّب رفرف بجناحيه، وطار خارجه.

***

          من فوق أعلى شجرة في الحديقة، ينظر العصفور ذو الريش الذهبيّ الآن إلى ما حوله، فيرى أقرانه في أقفاصهم موزّعين على أطراف الحديقة وهم يزقزقون ويغنون، ويرى الرجل الطيّب في ابتسامته العذبة متجوّلا بين الأقفاص وبين يديه آنية الطعام وإبريق الماء.

          أمامه مباشرة ينظر، فيرى قمم الأشجار وأسطح البيوت، ويرى عليها حبال الغسيل وألوانًا من الثياب ترفرف في الهواء، ويرى فوقها سماء صافية وزرقة شاسعة.

          قال العصفور ذو الريش الذهبيّ في نفسه: «أطير في الزرقة إلى نهايتها، وأنظر ماذا يكون».

          بجناحيه الواهنين طار العصفور فوق أشجار الحديقة، وفوق سطوح المباني، وفوق حبال الغسيل والثياب المرفرفة في الهواء، ومع كلّ خفقة جناح كانت السماء تمتدّ أمامه أوسع فأوسع، وللحظات لم يكن يرى أمامه غير اللون الأزرق يملأ نفسه صفاء وانشراحًا.

          شعر العصفور ذو الريش الذهبيّ بالإرهاق، فنظر إلى الأرض تحته، ورأى حقولاً خضراء واسعة، وأشجارًا كثيفة عالية، أمّا البيوت وأسطحها وحدائقها فقد خلّفها وراءه، وفكّر أنّه قد تخلّص أخيرًا من عالم الأقفاص، وعليه الآن أن يدخل عالم البريّة الرحب.

***

          يحطّ العصفور ذو الريش الذهبيّ على غصن شجرة وارفة، وقد نال منه الإرهاق وانتابه العطش. إنّه ينظر الآن إلى الأشجار والحقول حوله ويفكّر في أنّ الطعام موجود في كلّ مكان هنا، وأنّ الماء لا ينقطع عن هذه الخضرة التي تغمر الأرض حوله.

          كان ينظر إلى ما حوله في سعادة، وعندما استعاد أنفاسه خفق بجناحيه واستعدّ للتحليق، فرأى على الشجرة حيّة طويلة ملساء بلسان دقيق كمنقار النسر كانت تزحف بصمت نحوه، فطار بعيدًا، وفكّر في أنّ الأشجار ليست هي المكان المناسب لتشعر العصافير فيه بالأمان، وتعجّب من أنّ العصافير لا تبيت إلاّ عليها.

          حلّق العصفور ذو الريش الذهبيّ قليلا ثمّ حطّ على صخرة عالية، فرأى صخورًا أخرى كثيرة تنبت بينها الأعشاب بغزارة، والتمعت في عينيه بركة ماء صغيرة، وبلغت مسمعه زقزقات كثيرة.

          «إنّه الماء» قال العصفور ذو الريش الذهبيّ في نفسه، وفكّر في أنّه سيشرب حتى يطفئ عطشه، وأمل أن يكون له من بين هذه العصافير الكثيرة رفقة وأصدقاء.

          قفز العصفور ذو الريش الذهبيّ من صخرة إلى أخرى، حتى وصل إلى بركة الماء اللامعة، فرأى عصافير كثيرة حولها تشرب أو تستحمّ أو تنفش ريشها في أشعّة الشمس، وقد ملأت المكان فرحًا وحبورًا.

          شعر العصفور ذو الريش الذهبيّ بالأمان، فحطّ بين العصافير المتزاحمة، وانتابته رغبة شديدة في الغناء.

          شرب العصفور الماء ثمّ تهيّأ للغناء، وكم كانت دهشته كبيرة عندما رأى العصافير تهبّ للطيران هبّة واحدة، وقد رفع صوته بالزقزقة.

          «أيـكون صوتي موحشًا غريبًا، فأفزع العصافير المستجمّة السابحة؟»  تساءل العصفور ذو الريش الذهبيّ في نفسه، ولكنّ ظلاّ ضخما غمر المكان حوله، فأفزعه وقطع عليه أفكاره، وعندما التفت رأى قطّا لامع العينين يهوي عليه بقائمتين قويّتين وبمخالب حادّة، فتخبّط العصفور ذو الريش الذهبيّ بقوّة، وتطاير ريشه في الهواء.

          شعر فجأة بجسده يرتفع بخفّة في الفضاء، ووجد جناحيه يرفّان بقوّة، فأدرك أنّه قد تخلّص من قبضة القطّ.

          تنفّس العصفور الصعداء وهو لايزال يرفرف بجناحيه في الفضاء، وتلفّت خلفه، فرأى القطّ واقفا في مكانه يتطلّع إليه بحنق، ورأى ريشاته الذهبيّة بين قائمتي القطّ  ملطّخة بالوحل.

***

          هاهو الآن يحطّ من جديد على شُجيْرَة في حقل واسع، وقد أنهكه الجوع.

          نظر حوله فرأى عصافير تتقافز على الأرض بين الأشجار والأعشاب، ورآها تنبش الأرض بين الحين والآخر بأرجلها، وتلتقط بمناقيرها بذورا صغيرة وحشرات مختلفة، ففكّر أن يحذو حذوها، لعلّه يلتقط ما يملأ حوصلته الخاوية.

          تلفّت يمينًا وشمالاً، وحطّ بحذر على الأرض. نبش التراب تحت ساقيه فبانت له حبّة قمح ملوّثة بالتراب، فالتقطها بشراهة، ثمّ قفز قفزات متوالية، ولم ينس أن يرفع رأسه بين حين وآخر، وأن يتلفّت حوله كما تفعل بقيّة العصافير حتى لا يباغتها الخطر وهي منهمكة في النبش والنقر.

***

          على بعد خطوات أمامه رأى عصفورين بألوان ترابيّة داكنة، وقد انهمكا في التقاط حبوب نظيفة لم يلوّثها التراب، وبدت الأرض حولهما مبسوطة ونقيّة بعناية، فالتحق بهما وشرع يلتقط حبّات بدت له في طعم الحنطة.

          فجأة تناثر التراب حوله، وتخبّط أحد العصفورين بقوّة، وطار الآخر بعيدًا.

          خفق قلب العصفور ذي الريش الذهبيّ بشدّة وهو يرى عنق العصفور المتخبّط عالًقا بين سلكين حديديين، وفهم أن ما وقع فيه هذا العصفور المسكين كان فخّا نصبه أحدهم في التراب، وفكّر في أن يكون هو نفسه عالقا في الفخّ كهذا العصفور، فانتابه الذعر، وخفق بجناحيه بعيدًا.

***

          لقد حلّ المساء أخيرًا، ومالت الشمس إلى الغروب. وهاهو العصفور ذو الريش الذهبيّ يحطّ الآن على غصن شجرة جرداء. إنّه لم يعد يأمن الأشجار الوارفة، ولم يجد له مكانًا آمنًا على الأرض المنبسطة ، وهو يفكّر في أنّه سيقضي الليل وحيدًا وخائفًا من مخاطر الظلام الجمّة، وتمنى لأوّل مرّة أن يكون في قفصه على أرجوحته الصغيرة.

          مرّت ساعات المساء الأولى هادئة، وغمر الظلام الحقول والأشجار، وفجأة أضاءت الدنيا من حوله في التماعة برق كبيرة. فتح العصفور ذو الريش الذهبيّ عينيه، ورأى في التماعة البرق الموالية الغيوم الكثيفة في السماء.

          «إنّه الخريف إذن» قال العصفور ذو الريش الذهبيّ في نفسه، وانتابته رعدة برد خفيفة.

          زمجر الرعد أخيرًا، وتساقطت قطرات كبيرة من المطر على ريشه الذهبيّ، فسمع وقعها على الأرض، وغمرت رائحة التراب الجاف أنفه.

          طار العصفور ذو الريش الذهبيّ في المطر والبرق والرعد بصعوبة، وبجهد جهيد استطاع أن يحطّ على شجرة تين مورقة لكي يتّقي بأوراقها الكبيرة المطر المتهاطل بقوّة من حوله.

          نام العصفور لـيلته نومًا متقطّعًا ومرّت أمام ناظريه أحداث هذا اليوم، فشعر بالندم، وفكّر في أن يعود إلى البيت، وفي الصباح كان ريشه مبلّلاً وجسده الصغير يرتعش من البرد والرطوبة.

          تذكّر العصفور ذو الريش الذهبيّ ما قاله له الرجل الطيّب، ورنّت  جملته الأخيرة في أذنيه من جديد:

          « تذكّر أنّ هذا القفص ليس سجنا، إنّه بيتك».

          فقال في نفسه :

          - هذا ما لم أفكّر فيه من قبل.

          في تلك الساعات الأولى من الصباح قرّر العصفور ذو الريش الذهبيّ أن يــعود إلى بيته، وبينما كانت الشمس تطلع في الأفق البعيد، كان العصفور ذو الريش الذهبيّ يضرب بجناحيه في الفضاء، عائدًا إلى حيث كان الرجل الطيّب ينتظر عودته  بابتسامته العذبة وقلبه الرحيم.

 

 


 

مجدي بن عيسى