الشُّجاعُ المجهولُ
الشُّجاعُ المجهولُ
رسم: سمير عبد المنعم منذُ مئاتِ السنينَ، لم يكنْ في القرى طواحين، وكانَ القرويُّون يقصدونَ المدنَ، على أرجلِهم، أو على دوابِّهم كالحميرِ والبغالِ، ليجلبوا حاجياتهم الضّروريّةَ، وعلى الأخصِّ الطحينُ الذي يُصنعُ منه الخبزُ اليوميُّ. من إحدى القرى خرجَ، صبيحةَ أحد الأيامِ الشتائيّةِ، اثنا عَشَرَ رجلًا إلى المدينةِ لتأميِن الطَّحينِ. رَجَع الرجالُ يحملُ كلٌّ على ظهرِهِ كيسَهُ، وعندما أوشكتِ الشمسُ على المغيبِ، طلبَ إليهم كبيرُهُم أن يستريحوا قليلًا، ولم ينسَ أن يذكِّرَهُم بخبرِ الضَّبُعُ* التي كثيرًا ما اعترضتِ المسافرينَ ليلًا، وسمّى عددًا من الذين مزّقَتْهم هذه الضَّبُعُ المفترسةُ، ونبّه أن يظلَّ الرجالُ متقاربينَ في مسيرِهم، ثمَّ انطقوا يُكملون طريقَهُم. بعدَ مدّةٍ، وقد اشتدّ عليهم ظلامُ الليلِ، التفت كبيرُهُم، ليطمئنَّ على سلامتِهم، ورأى أن يعدّهم: واحدّ.. اثنانِ، ثلاثةّ.. عشرةٌ، أحدَ عَشَر وأوشك أن يُكملَ، لكنّه توقّف.. أين الثاني عَشَرَ؟! جاس ببصره في المكان، تطلّع إلى الخلفِ.. لا أحَد.. هكذا إذن؟! زفرَ الرجلُ زفرةً طويلةً، وقالَ: وا أسفاهُ!، لقد حدَثَ ما كنتُ أخشاهُ. لقد خسِرْنا رجلًا.. هلَكَ الرجلُ.. آهٍ، لكن من هو يا تُرى؟ لم يُجبْ أحدٌ.. أراد آخرُ أن يستوثقَ أكثر (قال في سرّهِ: لا بدّ أنَّ كبيرَنا قد أخطأ في العدّ) سأكونُ دقيقًا أكثرَ، أيُعقلُ أن يُهاجمَ الرجلُ، ولا أحدَ منّا يشعرُ بذلك؟ واحدٌ.. اثنان .. ثلاثةٌ .. أربعةٌ.. ثمانيةٌ .. تسعةٌ .. عشرةٌ .. أحدَ عشَرَ ... اثـ.. لا، فرك عينيه، لا آخر.. تطلّعَ إلى الجميع بأسىَّ، وقال: صدَق كبيرُنا، نحن أحَدَ عَشَرَ فقطْ، الآنَ، هذه كارثةٌ، لقد قُتِلَ الرجلُ افترستْهُ الضبعُ، ذاتُها، هذا مؤكّدٌ.. واحسرتاه! كلُّ واحدٍ مارسَ العدَّ، والجميع توصلّوا إلى أنّ واحدًا لم يعد موجودًا بينهم. قطعَ ذهولَ الجميع رجلٌ منهم: فقدْنا واحدًا منّا، هذا أصبحَ مؤكّدًا، لكنْ، ما حيلتُنا؟ المهمُّ الآن أن ننتبهَ، يجب أن نبقى متلاصقينَ، الواقعةُ لم تكنْ لِتحدُثَ لولا أنَّ الفقيدَ تأخّرَ عنّا، انفردتْ به الضَّبُعُ الجائعةُ، داورتْهُ، وتمكّنتْ منهُ، ثمَّ صرَعتْهُ، وحدث، واويلتاهْ، المكروهُ.. الأمرُ لله، كلّنا محزونونَ، لكنْ، ماذا نفعلُ.. هذا قدرُهُ؟! تبارى الجميعُ في ابتكارِ عباراتِ التأسّفِ والتعبيرِ عن الحزنِ، بلْ لقدْ أضافَ بعضُهم أوصافًا طيّبةً على شخصِ المأسوفِ عليهِ، مع أنّ أحدًا لا يعرفُهُ.. قال أحدُهم: كان المرحومُ رجلًا شجاعًا، تصوّروا، لم يَصرُخْ، حتى لا يخيفَنا، ولرُبّما، لو فعلَ، لكنّا أنقذناهُ، فنحنُ كُثُرٌ، لكنَّه - رحمه الله - شهمٌ ورقيقٌ. فضَّلَ أن يموتَ على أن يزرَعَ في قلوبنا الرُّعبَ. وقال آخرُ: إنَّه لم يَصْرُخْ لأنَّه قدّرَ أن الضَّبُعَ، لو أطلق هو صرخَتُه، كانت قادرةً على أن تصرعَ عددًا منا، اللّه ما أنبله! وقال ثالثٌ: .. وقال رابعٌ.. ثمَّ استأنفت الجماعة المسيرَ بحذرِ وانكسار. عندما وصلَ الرجال القرية، وكان الأهلُ في الانتظار، ألقى كلُّ واحدِ كيسَهُ بصمتٍ على الأرض، وبدا على وجوههم شيءٌ غيرُ التَعبِ، إنَّ ذهولًا يشملُ الجميعَ، والحزنُ لا يخفى على الوجوه. لم ينتظرْ كبيرُ العائدينَ لِيُسْألَ عن الأمرِ، بادرَ على الفور: «أحدُ الرجال، منّا، فُقدَ، شيٌ محزنٌ، لقد صرعتْهُ الضَّبُعُ التي تعرفونَ، لم يصرُخْ. رحمه اللّه، ولم يستغِثْ، لمْ يُرِدْ أن نسارعَ لنجدتِهِ، حتّى لا نتعرَضَ لبطش هذه الضبُّعُ، لقد مزّقتْه من غيرِ أن يُطلق صوتًا مسموعًا، يا لهُ من رجلٍ شجاعٍ وطيّبِ! ادعوا له». تطلّعتِ ابنةُ المُختارِ، وهي فتاةٌ صغيرةٌ نبيهةٌ، إلى أكياس الطحين، وخطرَ لها أنْ تعدَّها، فوجئت أنّها اثنا عشرَ كيسًا، وبسرعةٍ ركضت باتجاه أبيها وقالت: أبي.. أبي، الأكياسُ اثنا عَشَرَ، أخذ المختارُ المعروفُ بفطنتِهِ وحكمتِهِ، يعدُّ الرجالَ، تنفّس الصعداءَ ارتياحًا، وتأمّلَ لحظةً، وبرَقتْ في ذهنِهِ فكرةٌ جديدةٌ، فبدلًا من أن يفسّر لهم خطأهُم في العدِّ، أراد أن يشجِّعَ على الرجولةِ والنبلِ، التفتَ إلى الرجال، وبوقارٍ قال: هأنتم الآن اثنا عَشَرَ رجلًا، اطمئنّوا (حدثت ضجّةٌ والتفاتاتٌ من الجميع، ولا بدَّ أنّ كلَّ واحدٍ منهم قد أصابتهُ الدهشةُ.. إذ كيفَ حدثَ هذا)؟ أشار إليهم أن يتناول كلُّ واحدٍ منهم كيسَهُ، بعد أن عدّ الأكياس، بصوتٍ مرتفعٍ، وهو يشيرُ إلى كلّ واحدٍ منها، اقتنع الرجال بأنّهم كما ذهبوا، اثنا عشَرَ رجلًا.. لم يتركهم المختار ليتساءَلوا، قال: أيْ نعمْ، أنتم رجالُنا الاثنا عَشَر، وهذا يعني أنَّ الرجلَ الشجاعَ عادَ، وهو الذي صرَعَ الضبُّعَ، لا الضَبُعُ هي التي صرعتْهُ، ولا تفسيرَ آخر للمسألةِ، لقد أصبحَ الطريقُ، بفضلِهِ، آمناْ بينّنا وبين المدينةِ، لكنْ من هو هذا الرجلُ؟ لمّا لم يُجب أحدٌ، وهل من أحدٍ يحقُّ له أن يجيبَ؟! أكملَ المختارُ: «الذي قام بهذا العملِ الجريءِ ليس شجاعًا فحسبْ، بل هو في منتهى النبلِ والتواضعِ. لقد أكمل موقفَه، لم يرَ من الرجولةِ، أن يُشيرَ إلى نفسِه، يحيا الرجلُ الشّجاعُ النبيلُ»، ردَّد الجميع: يحيا.. يحيا. تحوّلَ الحزنُ إلى فرحِ، واشتبكتِ الأيدي بالرقص تعبيرًا عن السّعادة، وغدا هذا اليومُ من كلّ عامٍ عيدًا محلّيًا تحتفلُ فيه القريةُ كلّها بذكرى الرجل الشّجاع المجهولِ الذي صرعَ الضّبُعَ، وبعد سنواتٍ، وقد تُوفّيَ آخرُ رجلٍ شهد الواقعةَ ارتأى أبناء القريةِ أنْ يقيموا للرجلِ الشجاعٍ الذي صّرَعَ الضّبُعَ المفترسةّ ضريحًا رمزيّاً يذكِّرُ بشجاعتهِ ونبلهِ.. شارك الجميع في تشييد الضريح، وصنعوا له قبّةً نصف كرويّة، وأصبح الضريح مزاراً يقصدُه الناس ليتذكّروا حكايةَ الشجاعة والنبلِ أتى بهما رجلٌ من القرية ظلَّ حريصًا على كتمِ اسمِه، وُعرِفَ هذا الضريح بضريحِ الشجاع المجهول.
|