اَلسُعودِيّةُ.. مَهْدُ الحضارَةِ والحرمين الشريفين (1): إعداد: العربي بنجلون
اَلسُعودِيّةُ.. مَهْدُ الحضارَةِ والحرمين الشريفين (1): إعداد: العربي بنجلون
رسم: ماهر عبدالقادر لا أَدْري كَيْفَ حَصَلَ ذَلِكَ بِالضَّبْطِ!.. كانَ بِالنِّسبَةِ لي مُفاجَأَةً عَجيبَةً، ما كُنْتُ أنْتَظِرُها بِالْمَرَّةِ. وحَتَّى عِنْدَما حَكَيْتُها لأَصْدِقائي، لَمْ يُصَدِّقوني، ولم أحكْ لهم إلا ما عِشْتَه، وإلَيْكُمُ الْقِصَّةَ كامِلَةً مِنْ بِدايَتِها إلى نِهايَتِها! في فَصْلِ الشِّتاءِ الْماضي، سافَرْتُ إلى مَدينَةِ (إفْرانَ) الْمَغْرِبِيَّةِ الْجَميلَةِ، لأَقْضِيَ يَوْمي في مُتنزَهاتِها الْهادِئَةِ. ولَمْ تَمْضِ غَيْرُ سُوَيْعاتٍ قَليلَةٍ مِنْ وُصولي، حَتَّى أَرْسَلَتِ السَّماءُ مَطَرًا غَزيرًا، أَتْبَعَتْهُ بِنُدَفٍ (قِطَعٍ) مِنَ الثَّلْجِ. فَلَمْ أَجِدْ بُدًاّ مِنَ اللُّجوءِ إلى فُنْدُقٍ، أُمْضي فيهِ لَيْلَتِي..! فاجَأَنِي صاحِبُ الْفُنْدُقِ قائلًا: أَعْتَذِرُ، طِفْلي، لا توجَدُ غُرْفَةٌ فارِغَةٌ! سَأَلْتُهُ، وأَسْنانِي تَصْطَكُّ (تَضْطَرِبُ) مِنَ الْبَرْدِ الشَّديدِ: وهَلْ.. هَلْ يوجَدُ.. فُنْدُقٌ..آخَرُ..رُ؟ أَشارَ بِأُصْبُعِهِ ضاحِكًا، كَأَنَّهُ يَسْخَرُ مِنِّي (يَهْزَأُ بي): لا، لَكِنْ يُمْكِنُكَ أنْ تَسْتَأْجِرَ ذَلِكَ الْمَنْزِلَ مِنْ صاحِبِهِ، فَلا أَحَدَ يَسْكُنُهُ، أوْ يَقْتَرِبُ مِنْهُ، لأنَّهُ كَبيرٌ ومُظْلِمٌ، ويُقالُ إنَّهُ مَسْكونٌ..ها ها ها! وقُلْتُ لَهُ، وأنا أنْصَرِفُ: شُكْرًا، سَأَتَوَجَّهُ إلَيْهِ، فَلَيْسَ لي مِنْ خِيارٍ! اِشْتَرَيْتُ شَمْعَةً، ونَقَدْتُ صاحِبَ الْمَنْزِلِ ما طَلَبَهُ، وهُوَ يَنْظُرُ إلَيَّ منْدَهِشًا. ثُمَّ دَخَلْتُهُ، وأَقْفَلْتُ الْبابَ وَرائي. وما كِدْتُ أَجْلِسُ على أَريكَةٍ، حَتَّى سَمِعْتُ صَوْتًا غاضِبًا، يَتَرَدَّدُ في أَرْجاءِ الْبَيْتِ: كَيْفَ تَجْرُؤُ، أيُّها الطِّفْلُ الصَّغيرُ، فَتَدْخُلَ مَنْزِلِي، الَّذي أَسْكُنُهُ مُنْذُ تِسْعَةِ قُرونٍ؟! أَجَبْتُهُ بِثِقَةٍ في نَفْسي: حَقًاّ، سَيِّدي!..اَلْبَيْتُ بَيْتُكَ، وأنا لا َأنْكُرُ ذَلِكَ، فَهَلْ تَقْبَلُنِي ضَيْفًا هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ رَدَّ بِصَوْتٍ خَفيضٍ: يَظْهَرُ لي أنَّكَ طِفْلٌ ظَريفٌ ولَطيفٌ، وبَيْتِي مُغْبَرٌّ، وخالٍ مِنَ الأَثاثِ، ولَنْ تَجِدَ فيهِ الرَّاحَةَ والْهُدوءَ...! قاطَعْتُهُ مُتَعَجِّبًا: ولَكِنْ، أيْنَ أَقِضي لَيْلَتِي، وأنْتَ تَرى الثَّّلْجَ يَمْلأُ الأَرْضَ والسُّطوحَ..! ضَحِكَ قائلًا: لا تَخَفْ سوءًا، بُنَيَّ!.. سَأُكْرِمُكَ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَكْرَمَ حاتِمٌ الطَّائي ضَيْفَهُ!..أَيَروقُكَ أنْ تُمْضِيَ لَيْلَتَكَ في بِلادٍ دافِئَةٍ كَالسُّعودِيَّةِ؟! كِدْتُ أَطيرُ فَرَحًا، وأنا أتَساءَلُ مُسْتَغْرِبًا: أَتَقولُ صِدْقًا أَمْ تُمازِحُنِي؟!..كَيْفَ لا يَروقُ لي أَنْ أَزورَ أَرْضَ الْحَضاراتِ؟! وإذا بِيَدٍ عَريضَةٍ، تَمْتَدُّ أَمامي، وتَحْمِلُنِي على كَفِّها الدَّافِئَةِ، كَأَنَّني وَرَقَةٌ أَوْ ريشَةٌ خَفيفَةٌ: الآنَ، سَتَتَأَكَّدُ جَيِّدًا أنَّنِي لا أُمازِحُكَ، شَرْطَ أنْ تَعودَ قَبْلَ أَذانِ الْفَجْرِ، لأَنَّني كائنٌ لَيْلِيٌّ، وإِلا بَقيتَ هُناكَ تَنْتَظِرُني لَيْلَةً أُخْرى! وأَخَذَتِ الْيَدُ تَطولُ وتَطولُ في السَّماءِ، كَأَنَّها قَوْسُ قُزَحٍ، حَتَّى أَنْزَلَتْنِي في صَحْنِ الْكَعْبَةِ، فَوَجَدْتُنِي أَطوفُ مَعَ الْحُجَّاجِ، بَدْءًا مِنَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ، ولِسانِي وقَلْبي يَلْهَجانِ (يُرَدِّدانِ): «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاشَريكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والْمُلْكَ، لا شَريكَ لَكَ».. ولَمَّا أَنْهَيْتُ سَبْعَ دَوْراتٍ، وَقَفْتُ أَتَأَمَّلُ الْكَعْبَةَ الْمُشَرَّفَةَ، فَتَذَكَّرْتُ سَيِّدَنا إِبْراهيمَ وابْنَهُ إِسْماعيلَ، اللَّذَيْنِ تَعاوَنا مَعًا على بِنائِها حَجَرًا حَجَرًا، لِتَكونَ قِبْلَةَ الْمُسْلِمينَ جَميعِهِمْ. فَجاءَ شَكْلُها مُرَبَّعًا ومُكَعَّبًا تَقْريبًا، تُقابِلُ أَرْكانُهُ الأَرْبَعَةُ الاتِّجاهاتِ الْجُغْرافِيَّةَ؛ الشَّمالَ، الْجَنوبَ، الشَّرْقَ، الْغَرْبَ!.. ثُمَّ قِسْتُها بِعَيْنَيَّ، فَعَرَفْتُ أَنَّ عُلُوَّها يَبْلُغُ خَمْسَةَ عَشَرَ مِتْرًا، وأَضْلاعَها ما بَيْنَ عَشْرَةٍ واْثنَيْ عَشَرَ مِتْرًا. وهِيَ تَتَوَسَّطُ (الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) الشَّبيهَ بِالشَّكْلِ الْمُرَبَّعِ. سَرَّحْتُ نَظَري في كُلِّ جَنَباتِهِ، وفيما أنا كَذَلِكَ، شَعَرْتُ بِيَدٍ حانِيَةٍ تَلْمَسُ كَتِفي: اَلسَّلامُ عَلَيْكُمْ! اِلْتَفَتُّ خَلْفي، فَرَأَيْتِ طِفْلًا: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ! سَأَلَني بِوَجْهٍ باسِمٍ: يَظْهَرُ لي أَنَّكَ تَزورُ السُّعودِيَّةَ للمرة الأولى! أَجَبْتُهُ مُؤَكِّدًا: أَجَلْ، أَخي!..ولِهَذا لا أَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ أَنْطَلِقُ، أَوْ أَحَدًا يَدُلُّني على مُدُنِها وآثارِها الْمُقَدَّسَةِ! جَذَبَني مِنْ يَدي ضاحِكًا: ولِماذا سَأَلْتُكَ، لَوْ لَمْ أُحِسَّ أَنَّكَ في حاجَةٍ إلى دَليلٍ مِثْلي؟!..هَيَّا نَزُورها مَعًا! خَرَجْنا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فَوَجَدْنا حَرَكَةً غَيْرَ عادِيَّةٍ: حافِلاتٍ تُقِلُّ (تَحْمِلُ) حُجَّاجًا، وطُرُقًا مُكْتَظَّةً (مُمْتَلِئةٌ) بِالْغادينَ والرَّائحينَ، لا تَسْمَعُ مِنْهُمْ شَتْمًا، ولا تَرى خِصامًا، إلاَّ سَلاما ًسَلامًا! سَأَلْتُ أَخي السُّعودِيُُّ: أَهَكَذا مَكَّةُ الْمُكَرَّمَةُ دائمًا؟! أجابَني: طَبْعًا، ولِماذا أَطْلَقوا عَلَيْها (مَكَّةَ)؟..لأَنَّها (تَمُكُّ) الأَخْطاءَ، والأَفْعالَ السَّيِّئةَ، أَيْ تَقْضي عَلَيْها، لِيُصْبِحَ صاحِبُها مُؤَدَّبًا. ولَها أسْماءٌ أُخْرى، كَـ «بَكَّةَ» و«أُمِّ الْقُرى» و«الْبَلَدِ الأَمينِ»و«الْبَيْتِ الْعَتيقِ»! ـ ولِماذا يَصِفونَها بِالْمُكَرَّمَةِ؟ ـ ألَيْسَتْ أرْضًا مُقَدَّسَةً؟..عَلَيْها بَنى سَيِّدُنا إبْراهيمُ الْكَعْبَةَ الشَّريفَةَ، قِبْلَةَ مُسْلِمي الْعالَمِ، وفيها وُلِدَ نَبِيُّنا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وشَيَّدَ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ، ونَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ! سارَتِ الْحافِلَةُ الْمُكَيَّفَةُ، تَقْطَعُ بِنا طَريقًا طَويلًا، يَبْلُغُ أرْبَعَمِئةِ كيلومِتْرٍ إلى المدينة، لا نَشْعُرُ بِإعَياءٍ مِنْ ِطولِ الطَّريقِ. وهُنا تَذَكَّرْتُ هِجْرَةَ الرَّسولِ وأبي بَكْرٍ على ناقَتَيْنِ، وما لَقِياهُ في رِحْلَتِهِما مِنْ عَطَشٍ، وعَواصِفَ رَمْلِيَّةٍ، وحَرٍّ شَديدٍ! ولَمَّا وَصَلْنا إلى الْمَدينَةَ الْواقِعَةَ بِغَرْبِ السُّعودِيَّـةِ، قابَلَنا مَسْجِدُ (قُباءُ) بِقُبَبِهِ الْبَيْضاءِ، ثُمَّ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ الَّذي بَناهُ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم على أَرْضٍ اشْتَراها مِنْ طِفْلَيْنِ يَتيمَيْنِ. وما إنِ ابْتَعَدْنا عَنْهُ بِأَرْبَعَةِ كيلومترات، حَتَّى ظَهَرَ لَنا جَبَلٌ أَحْمَرُ اللَّوْنِ بِطولِ سَبْعَةِ كيلومترات، وعَرْضِ ثَلاثَةٍ. قالَ أَخي: إِنَّهُ جَبَلُ أُحُدٍ، الَّذي شَهِدَ غَزْوَتَهُ، وعِنْدَ ِسَفْحِهِ تَرى مَقْبَرَةَ شُّهَدائِها، تَحْتَضِنُ رُفاتَ (تَضُمُّ جُثَّةَ) عَمِّ الرَّسولِ وأَخيه مِنَ الرَّضاعَةِ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ. وبَيْنَما نَحْنُ نَجولُ بَيْنَ أَسْواقِها ودُروبِها الْعَتيقَةِ (الْقَديـمَةِ) إذْ بِنا نُشاهِدُ مَسْجِدًا بِغَرْبِها، فَوْقَ هَضْبَةٍ، لَوْنُهُ أَبْيَضُ ناصِعٌ (واضِحٌ) سَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَأَجابَني: إنَّهُ مَسْجِدُ الْقِبْلَتَيْنِ! اِسْتَغْرَبْتُ هَذا الاسْمِ: وهَلْ هُناكَ أكْثَرُ مِنْ قِبْلَةٍ؟! ضَحِكَ مِنْ سُؤالي: لا، طَبْعًا!.. الْقِصَّةُ وما فيها أنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمينَ كانوا يُصَلُّونَ فيهِ تُجاهَ الْمَسْجِدِ الأَقْصى بِالْقُدْسِ، وعِنْدَما نَزَلَتِ الآيَـةُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام حَوَّلوا قِبْلَتَهُمْ إلى مَكَّةَ، فَسُمِّيَ بِذي الْقِبْلَتَيْنِ! دونَ شُعورٍ مِنِّي، صِحْتُ في أَخي السُّعودِيِّ، كَأَنَّ نَحْلَةً لَسَعَتْني (قَرَصَتْني): يَنْبَغي أنْ أَفِيَ بِوَعْدٍ قَطَعْتُهُ على نَفْسي، فَأَعودَ حالًا إلى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ! سَأَلَني في ذُهولٍ: أَيَّ وَعْدٍ تَقْصِدُ؟! وفيما نَحْنُ كَذَلِكَ، كَلِمَةٌ مِنِّي، كَلِمَةٌ مِنْهُ، إِذْ بِصَوْتٍ مَهْموسٍ (خافِتٍ) يُطَمْئِنُني قائلًا: شُكْرًا لَكَ، أَيُّها الطِّفْلُ، لأَنَّكَ تُقَدِّرُ الْمَوْعِدَ، وتَفي بِالشَّرْطِ!.. وَدِّعْ أَخاكَ السُّعودِيَّ، وهَيَّا أُرْجِعْكَ إلى بَيْتي، فَلَمْ يَبْقَ على أذَان الْفَجْرِ غَيْرُ دَقيقَةٍ! أَسْرَعْتُ إلى أَخي أُوَدَّعُهُ، ثُمَّ قَفَزْتُ إلى كَفِّ صاحِبي، فيما ظَلَّ السُّعودِيُّ مُتَسَمِّرًا في مَكانِهِ، يَتَأَمَّلُني والدَّهْشَةُ تَسْتَوْلي عَلَيْهِ، ويَتَساءَلُ في نَفْسِهِ: هَلْ أَنا في يَقَظَةٍ أَمْ في حُلْمٍ؟! في الصَّباحِ الْباكِرِ، فَتَحْتُ بابَ الْبَيْتِ، ورَفَعْتُ رَأْسي إلى السَّماءِ الصَّافِيَةِ، فشاهَدْتُ الشَّمْسَ الضَّاحِكَةَ تُحَيِّيني بِأَشِعَّتِها الْفِضِّيَّةِ، ثُمَّ خَفَضْتُهُ (حَنَيْتُهُ) فَوَجَدْتُ صاحِبَيِ الْبَيْتِ والْفُنْدُقِ والْجيرانَ مُتَحَلِّقينَ حَوْلي، وهُمْ يُشيرونَ إِلَيَّ بِأَصابِعِهِمْ. ولَمَّا خَطَوْتُ نَحْوَهُمْ، أَطْلَقوا أَرْجُلَهُمْ لِلرِّيحِ يَجْرونَ خائفينَ..!
|