مكتبة البيت.. قصة: محمد عز الدين التازي

مكتبة البيت.. قصة: محمد عز الدين التازي
        

رسوم: حلمي التوني

          خَصَّصَ الوالد في البيت غرفةً تَضُمُّ مكتبة زَخَرَتْ رفوفها بآلاف الكتب، منها كتب للتراث العربي والإسلامي، في الفلسفة والكلام وتفسير القرآن الكريم وكتب الحديث النبوي، ودواوين الشعراء العرب القدامى، ومنها كتب أخرى للمعاصرة، في المسرح والرواية والشعر ودراسات في الفكر المعاصر. وكانت المكتبة مُنَظَّمَةَ الرفوف، يَتَوَسَّطُ رُفُوفَهَا مجلس للقراءة، مكون من طاولة كبيرة وعدة كراسي مُرِيحَة، وفوق الطاولة حاسوب ودُرْجُ يَشْمَلُ عدة أقراص مدمجة تحتوي على مكتبة أخرى للنشر الإلكتروني.

          طالما لاحظت هناء وسعيدة والدهما وهو يدخل المكتبة ويغيب فيها لساعات، فكانتا تعرفان أنه يقرأ. تعجبتا لذلك الوقت الطويل الذي يقضيه والدهما يوميا في القراءة، وصبره على البقاء وهو يقرأ لتلك الساعات الطويلة كل يوم.

          قالت هناء لأختها سعيدة: والدنا يحب الكتب.

          وردت عليها سعيدة: لأني لا أعرف ما فيها، فأنا لا أحبها مثله.

          قالت هناء: وأنا أيضًا، لأنني لا أعرف ما فيها، لا أحبها.

          ترددت هناء قبل أن تطلب من والدها استضافتها هي وأختها سعيدة في مكتبته، ثم جاء يوم تَجَرَّأَتْ فيه هناء وطلبت ذلك من والدها، فرحب بهما في مكتبته وأخذ يشرح لهما محتوياتها.

          رأى الوالد ابنتيه وهما تشعران بشيء من الهيبة، فجعل المكان يَتَّسِعُ لهما، وقدم لهما شرابًا من عصير البرتقال، ثم عاد يجول بهما في رفوف المكتبة وهو يُعَرِّفُهُمَا بالذخائر الفكرية والثقافية التي تحتويها، من كتب تراثية وأخرى معاصرة. كما عَرَّفَهُمَا على الأقراص المدمجة، ومحتوياتها.

          بعد تلك الجولة بين رفوف المكتبة، جلس الوالد إلى ابنْتَيْهِ هناء وسعيدة، ينتظر منهما أن تقولا شيئا، فقد كان يحب أن يستمع إليهما. قالت هناء: يا أبي، هل قرأت كل هذه الكتب؟

          رَدَّ عليها: ليس كلها، بل أَقَلُّهَا. العلم بحر لا ساحل له يا ابنتي.

          وسألت سعيدة والدها: قل لي لماذا تقرأ لساعات في اليوم يا أبي؟

          رَدَّ عليها: لكي أُثَقِّفَ نفسي. متعة القراءة لا تضاهيها متعة أخرى يا ابنتي، وكما قال المتنبي شاعر العرب: «وخير جليس في الزمان كتاب».

          وسألته هناء: لماذا يا أبي في مكتبتك كتب للتراث، وأخرى معاصرة؟

          رد عليها: لأن تراثنا هو هويتنا الثقافية والحضارية، أما المعاصرة فتمنحنا التَّجَدُّدَ والعيش في عصرنا.

          ثم سأل ابنتيه: وأنتما لماذا لا تقرآن الكتب؟

          رَدَّتْ عليه هناء: نحن نقرأ كتبنا المدرسية يا أبي.

          فقال لها والدها: إنها وحدها لا تكفي لِتَثْقِيفِ الإنسان، فغذاء الروح كغذاء الجسد، يجب أن يكون مُتَنَوِّعًا، غَنِيَّا بالفوائد.

          قالت هناء: وماذا علينا أن نقرأ غير الكتب المدرسية يا أبي؟

          تأمل الوالد سؤال ابنته هناء، وقال: القراءة عادة يَجِبُ أن يكتسبها الإنسان، وهي تَدَرُّجٌ من السهل إلى الصعب، كما العقل يَتَدَرَّجُ في النمو والقدرة على استيعاب المعارف.

          سكت لحظة وقال: اقرآ قصص الأطفال، فهي في عمركما تفتح مجالا واسعا للمدارك، وتُقَدِّمُ تجارب إنسانية عميقة، تُغَذِّي الشعور والخيال، وتَرْبِطُ الطفل بمحيطه الاجتماعي، كما أنها تُعَلِّمُ الطفل  اللغة والأساليب، وتُعَوِّدُ على القراءة.

          ما فَرَغَ والد هناء وسعيدة من حديثه حتى سألته هناء: وأين هي هذه القصص يا أبي؟ هل توجد في مكتبتك؟

          أدرك والد هناء وسعيدة خطأه، فقد تصرف بأنانية فأوجد لنفسه مكتبة زاخرة في بيته، ولم يلتفت نحو ابنْتَيْهِ لِيُخَصِّصَ لهما مكتبة خاصة بمستواهما العمري والعقلي والدراسي.

          بقي سؤال هناء مُعَلَّقًا، دون جواب، وكان والدها قد قَرَّرَ أن يكون الجواب عمليًا، فَوَعَدَ ابِنْتَيْهِ بأن يقدم لهما الجواب في الغد.

          في صباح الغد، خطط والدهما لما عليه أن يفعل، فخرج إلى المكتبات واشترى العديد من قصص الأطفال، مُؤَلَّفَةٍ بأقلام كتاب عرب ومُتَرْجَمَةٍ عن كتاب أجانب إلى العربية، فَنَظَّمَها في رَفٍّ خاص كتب عليه: مكتبة الطفل، ولما فَرَغَ من ذلك، دَعَا ابنْتَيْهِ هناء وسعيدة إلى مكتبته وقال لهما: هذا الرَّفُّ في مكتبتي، مخصص لكما، فيه تجدان القصص الأدبية التي تجمع بين الواقع والخيال، وقصص الخيال العلمي، والقصص التي تُصَوِّرُ سيرة الأنبياء والرسل، والعباقرة الذين قاموا بالاختراعات العظيمة التي أفادت الإنسانية، كما تَجِدَانِ كتبا من التراث، من قبيل «كليلة ودمنة» لابن المقفع، «وحي بن يقظان» لابن طفيل، وغيرهما.

          فرحت هناء وسعيدة بِالْتِفَاتَةِ والدهما، وَوَجَدَتَا لهما مُسْتَقَرَّا في مكتبة البيت.

 



محمد عز الدين التازي