جَملُ عُمَر

جَملُ عُمَر
        

رسم: حلمي التوني

          أنا جملُ عمر بن الخطاب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. عشت معه وقتًا طويلاً، وشاهدت أحداثًا كثيرة، أثّرت في تاريخ الإسلام، وأسهمت في إعلاء كلمة الله ونشر دينه، في مختلف البلدان والأمصار.

          وكانت من هذه الأحداث الكثيرة رحلة، سأكلمكم اليوم عنها .. هذه الرحلة هي التي قام بها عمر رضي الله عنه إلى بيت المقدس، أو إلى مدينة القدس، عاصمة فلسطين، كما تسمّونها اليوم، وأخذني معه خلالها. كم كانت رحلة عظيمة، أفخر بأن أقدامي قطعت الطريق إليها، وعيني شاهدت ما جرى فيها، وقلبي انفعل بما فيها من حلاوة وبهجة وانتصار .

          كان عمر خليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو الخليفة الثاني بعد أبي بكر الصديق، رضي الله عنه. وقد كان يحب الدين بشدة ويغار عليه، ويعمل بكل ما أوتي من قوة على نشره، والتمكين له في البلاد الجديدة التي لم يتم فتحها بعد. وقد فتح الله على يديه بلادا كثيرة، في الشرق والغرب. في الشرق دانت له بلاد العراق وفارس (إيران حاليًا). وفي الغرب دمشق وما جاورها من بلدان ومدن كبيرة. وقد حارب جيش المسلمين في عهده جيوش كسرى ملك بلاد فارس، وجيوش قيصر، ملك الروم، وهي الآن معظم البلاد الواقعة على شواطئ البحر المتوسط، وانتصر عليهما في معارك كثيرة، أدّت إلى زوال الامبراطورية الفارسية تماما، وسقوط أجزاء كبيرة من بلاد الرومان. وقد كان هذان البلدان هما أقوى بلدين في العالم في ذلك الوقت. وقد نصر الله المسلمين لإخلاصهم وإيمانهم بدينهم، ورغبتهم الصادقة في نشره، وإيصال رسالة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، إلى كل من لم تصل إليه.

          وبعد أن يسّرَ الله للمسلمين فتح دمشق وما جاورها من بلدان، أرادوا أن يفتحوا «بيت المقدس»، وهي المدينة التي لها منزلة كبيرة في قلوب المسلمين، ففيها المسجد الأقصى، الذي بارك الله عز وجل من حوله، وجعله قبلة للمسلمين يتوجهون إليها في صلاتهم، قبل أن تتحول القبلة بعد ذلك إلى المسجد الحرام بمكة. وهو أي المسجد الأقصى المكان الذي أُسري بالرسول، صلى الله عليه وسلم، إليه ليلا (أي أُخذ إليه ليلا، حيث اجتمع بالأنبياء والرسل الذين بعثهم الله قبله، فصلّى معهم صلاة واحدة، كان هو إمامهم فيها) وعُرج به منه إلى السماء (أيْ صُعِد به صلى الله عليه وسلم إلى السماء، حيث فرض الله عز وجل عليه في هذا الصعود الصلوات الخمس) كما أنها أيْ مدينة القدس كانت المكان الذي عاش أو دُفن فيه الكثير من الأنبياء والمرسلين، كداود وسليمان وزكريا وعيسى ويحيى وغيرهم. لهذا السبب كانت القدس مدينة مقدسة، ينظر إليها المسلمون نظرة التعظيم والإجلال، وينتظرون الفرصة كي يفتحوها، فتصبح مزدانة بنور الإسلام.

          وما أن فتح المسلمون دمشق والمدن والقرى المجاورة لها والقريبة من بيت المقدس حتى فكروا في فتح بيت المقدس.

          وكان يحكم القدس في هذا الوقت الروم ( تلك الدولة العظيمة القوية ) الذين رغم قوتهم انهزموا في معارك كثيرة أمام المسلمين. وكان معظم أهلها من النصارى، وحاكمهم أو نائب الحاكم الروماني رفض أن يُسلّم المدينة للمسلمين، وقاوم جيشهم بشدة. ولم يستطع المسلمون أن يدخلوا المدينة بسبب أسوارها القوية المنيعة.

          ولم يكن أمام المسلمين إلا أن يحاصروا المدينة ؛ فبقي جيشهم حولها، يحوطونها من كل جانب، مانعين لأية إمدادات ( كالطعام والشراب والأسلحة ) من الدخول إليها. وفي النهاية ضعفت مقاومة أهلها، ووافقوا على تسليم المدينة بشرط أن يضمن لهم المسلمون سلامتهم، وأن لا تُسلم مفاتيح المدينة إلا لخليفة المسلمين، عمر بن الخطاب، بنفسه.

          وصلت تلك الأخبار إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ففرح بشدة، وقرر أن يُسرع بالسفر إلى الشام كي يتسلم مفاتيح القدس.

          أخذني عمر في رحلته. وكنت سعيدًا لأنني سأشارك ولو بحمل خليفة رسول الله في هذا النصر الكبير «فتح بيت المقدس».

          كانت المسافة من المدينة إلى بيت المقدس كبيرة، لكنني كنت عازما على بذل أقصى ما لدي، لكي نصل في أسرع وقت.

          كان عمر رحيمًا بي، وبخادمه إلى أقصى حد.

          كان يركب على ظهري بعض الوقت، ثم ينزل ويترك خادمه ليركب بدلا منه وقتا مماثلاً، ويسير هو، ثم يتركني هو وخادمه دون أن يركبا ظهري، وقتا مماثلا. وهكذا هون علينا مشقة السفر والتعب الذي يلاقيه الخلق عادة فيه .

          وأخذت أتعجب وأنا أرى خادم عمر راكبا ظهري وعمر، خليفة المسلمين، يمشي على قدميه، ممسكا بلجامي يرشدني إلى الطريق. من ذا يُصدّق أن هذا الذي يمشي بينما يركب خادمه الخليفة، الملك أو الرئيس بلُغتكم أنتم، وملك ورئيس من.. بلاد المسلمين كلها.

          ظللنا نسير عددا من الأيام، ثم اقتربنا أخيرا من القدس. وهطلت السماء بأمطارها عند مشارف المدينة، وأصبح الطريق موحلا ورغم ذلك لم نتوقف أو نبطئ من سيرنا. وراح عمر يخوض في هذه الأوحال كلما جاء الدور عليه ليمشي، غير مستمع لرجاء خادمه بأن يركب ويتركه هو ليسير.

          ظل عمر يتناوب في الركوب على ظهري مع خادمه حتى وصلنا إلى القدس. وصادف وصولنا أن كانت نوبة ركوب الخادم. فدخل عمر بن الخطاب القدس وهو ممسكا بلجامي وخادمه فوقي. وسمعتُ حاكم المدينة الروماني يسأل عن عمر، أي الرجلين هو؟ الراكب أم السائر على قدميه ؟ وأجابه المسلمون بأنه السائر! فابتسم حاكم المدينة، ثم قال:- لقد قرأنا في كتبنا عن أوصاف ذلك الملك الذي سيأخذ منا بيت المقدس، أنه سيدخلها سائرا وخادمه فوق دابته.

          قمة الزهد والتواضع.. لمثلك يا عمر تفتح البلاد والأمصار. ومد يده بمفاتيح المدينة قائلاً:  الآن فقط أستطيع أن أسلم مفاتيح المدينة.

          وهنا كبّر عمر .. وكبّر جيشه ..   أما المدينة فقد سعدت بمولدها الجديد.

 



بقلم: محمد عاشور هاشم