قدوتي العلمية: مَن اخترع أول إيميل في التاريخ؟

قدوتي العلمية: مَن اخترع أول إيميل في التاريخ؟
        

          «QWERTYIOP» هل تعرف معنى هذه الكلمة؟، برغم أن هذه الحروف لا تمثل معنى محددًا، وبرغم أنها مجرد حروف مرتبة بطريقة عشوائية، الا أنها أهم كلمة غيرت تاريخ التواصل بين البشر في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، وللأسف لايذكر أحد من كتب هذه العبارة الغامضة التي غيرت وجه الاتصالات في العالم وجعلته قرية صغيرة، كلكم تعرفون صمويل مورس مخترع التلغراف، وتحفظون اسم جراهام بل مخترع التليفون، ولا تخطئون اسم ماركوني حين تذكرون فضله في اختراع الراديو، ولكننا - للأسف - ننسى هذا الاسم «راي توملينسون» RAY TOMLINSON مخترع البريد الإلكتروني أو الإيميل الذي يتواصل من خلاله الآن أكثر من مليار شخص حول العالم.

          بدأت قصة اختراع البريد الإلكتروني في شهر يوليو من العام 1982 حين أرسل راي توملينسون أول رسالة إلكترونية في التاريخ، هذه الرسالة أرسلها راي لنفسه، منه وإليه!، خشي من أن يرسلها إلى صديق حتى يختبر ويتأكد من صحة اختراعه بنفسه، ولكن لماذا أرسل هذه الرسالة ولماذا فكر في هذه الوسيلة للاتصال؟

          تخرج راي توملينسون في عام 1965 في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وهو واحد من أشهر المراكز العلمية في العالم، وعمل بعد ذلك ضمن فريق شركة «بي بي إن» في الولاية، اختارت وزارة الدفاع الأمريكية هذه الشركة التي يعمل فيها توملينسون لتقوم ببناء شبكة هي نواة الإنترنت في أول أشكالها البدائية، اسم هذه الشبكة «أربانت» ARPANET وهي الأحرف التي ترمز إلى الشبكة التي تربط المعاهد العلمية والجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية بعضها بعضًا، وتجعلها على اتصال فيما بينها فقط، فكر راي توملينسون في حل مشكلة كيف يترك رسالة على جهاز الكمبيوتر لزميله الذي سيستخدمه من بعده من دون أن يحدث لقاء شخصي بينهما، بحيث تكون خاصة جدًا لايقرأها ولا يعرف تفاصيلها إلا هذا الزميل، وبالطبع لابد أن تعرف صديقي العزيز أنه في ذلك الوقت لم يكن هناك ما يسمى بالكمبيوتر الشخصي، ومن هذا الاحتياج وبالصدفة البحتة ولدت فكرة البريد الإلكتروني.

          بدأ توملينسون بتأليف برنامج بسيط لكتابة الرسائل يدعى SNDMSG، وأهمية هذا البرنامج أنه يصنع ملفًا توضع فيه الرسالة، وهو ما يعني أنه لا يستعمل إلا بين شخصين أو أكثر يشتركون في جهاز كمبيوتر واحد، ويقول توملينسون عنه «لم يكن صندوق البريد إلا ملفًا يكتب فيه المستخدم رسالته، ولا يمكن للقارئ إعادة الكتابة عليه أو تحريره، بل يمكنه قراءته فقط». هذا البرنامج السابق لم يكن كافيًا وحده، فقد كان شرطه ونفعه أن يكون المرسل والمستقبل يستخدمان نفس الكمبيوتر،  صمم توملينسون برنامجًا آخر يدعى «سيبنت»، يسمح بنقل الملفات من جهاز كمبيوتر إلى أخر على أن يكون الجهازان مرتبطين بنفس الشبكة وهي شبكة أربانت السابقة.

          الصدفة لا تأتي إلا لمن يستحقها، الفكرة جاءت لراي توملينسون صدفة، ولكن ذكاءه وعبقريته وصبره هو الذي جعل من تلك الصدفة إنجازًا عظيمًا غيّر التاريخ، أضاف راي ودمج البرنامجين فتم اختراع البريد الإلكتروني الذي نعرفه الآن، فهناك برنامج S NDMSG وهو برنامج لكتابة الرسائل على الكمبيوتر نفسه، وبرنامج CYPNET وهو البرنامج الذي ذكرنا أنه ينقل الملفات من كمبيوتر الى آخر، إذن لماذا لا يصبح البرنامجان برنامجًا واحدًا  ينقل الرسائل إلكترونيًا من جهاز كمبيوتر الى آخر؟ اجابة هذا السؤال هي التي جعلت البريد الإلكتروني حقيقة واقعة.

          إذن تم حل المشكلة الأولى وهي كتابة الرسالة الخاصة بحيث لايقرأها الا الشخص المقصود، وتم حل المشكلة الثانية وهي إرسال الرسالة من كمبيوتر إلى آخر، ولكن بقيت مشكلة أخرى وهي معرفة المكان الذي أرسل منه المرسل إلى المستقبل، أي معرفة عنوانه الإلكتروني، وكان هذا السؤال العويص الصعب هو الأب الشرعي لعلامة @ التي أكملت الشكل النهائي لما نطلق عليه الآن الإيميل.

          كيف فكر توملينسون في هذا الرمز الشهير @ ؟، نترك توملينسون يحكي بنفسه اكتشافه الذي غير وجه العالم وجعل صندوق البريد المعدني يدخل متحف التاريخ، يقول توملينسون  «تأملت لوحة المفاتيح، حاولت العثور على رمز لا يستعمله الأشخاص عادة ضمن أسمائهم، لم أرد أن يكون هذا الرمز رقمًا، فكان الرمز @ هو ما اخترته من الرموز الموجودة على لوحة المفاتيح، إنه حرف الجر الوحيد الموجود على اللوحة»، وبالطبع فإن هذا الرمز الذي وقع اختيار توملينسون عليه يقرأ على أنه حرف الجر « at» باللغة الإنجليزية والذي يشير إلى المكان الذي تنطلق منه الرسالة.

          اخترع توملينسون حرفًا إضافة إلى حروف كل اللغات وليس اللغة الإنجليزية فقط، انتشر هذا الرمز أو هذا الحرف حتى أصبح أشهر حرف في العالم  وصار يستخدم في الإعلانات واللوحات.

          «لقد استغرق الأمر ما بين 20 و40 ثانية للتفكير»، هكذ قال توملينسون عن المدة التي استغرقها لحل مشكلة توضيح مكان وجود المرسل عند إرسال الرسالة بوضع الرمز @ بين اسمه ومكان وجوده.

          لم ينشر توملينسون اختراعه ولم يطلب براءة اختراع لاكتشافه العبقري، وهذا القلق كان عاملًا أساسيًا في ضياع حقه ونسيان اسمه في طوفان التطورات التي أضيفت على البريد الإلكتروني بعد ذلك بواسطة الهوتميل وغيره، طلب من مساعده بريتشفيل أن يكون الأمر سرًا، وفسر رفضه بأنه لم يطلب منه أحد هذا الاختراع، لكن قلق توملينسون سرعان مازال عندما أخبره زميل ثالث يدعى لاري روبرتس أنه سيستخدم اختراعه، وخلال فترة وجيزة أصبح اختراع توملينسون هو وسيلة اتصاله المثالية واتصال زملائه بعضهم ببعض في الجامعات والمؤسسات الأمريكية، وأظهرت الدراسات التي أجريت في تلك الفترة أن 75 في المائة من الاتصالات في شركة «أربانت» القديمة  كانت تتم باستخدام البريد الإلكتروني الجديد.

          مازال راي توملينسون يعمل. وينصب عمله الآن على تطوير برمجيات التجارة الإلكترونية، لجعلها أكثر أمنًا، وبرغم أن هذا الرجل قلب الدنيا رأسًا على عقب وغيّر مفاهيم التواصل والحوار والرسائل التي تطورت بعد ذلك من مجرد كلمات إلى رسائل من الممكن أن ترتبط بها ملفات موسيقى أو فيديو.. إلخ، بالرغم من كل هذه الإنجازات إلا أنه لم يتغير، وظل متواضعًا بسيطًا، فمكتبه في الشركة في ولاية ماساشوستس غاية في التواضع،  ولم يندم توملينسون على إهماله في الحصول على براءة الاختراع الذي حرمه من أن يصبح مليارديرًا يحصد الثروة من اختراعه، عندما يسأله أحد عن إحساسه بالندم  يضحك قائلًا: «عادة ما ينتهي الاختراع بمكافأة وثروة، لكن هذا الابتكار كان استثناء!». 

          أنت ترسل وأنت جالس في غرفة مكتبك رسالة يستقبلها البريد الإلكتروني لمجلة العربي الصغير في 20 ثانية فقط، لابد أن تعرف أننا ندين بالفضل لهذا الرجل العبقري «راي توملينسون» الذي لم يحصد الثروة من اختراعه، ولكنه حصد الاحترام.

 



إعداد: سماح أبوبكر عزت