تونغــا.. الجزر الصديقة!
اِستَيقَظَت سَلوى مِن نَومِها، فَفَتَحَت نافِذَةَ غُرفَتِها لِتَـتَهَوَّى قَليلاً، كَعادَتِها كُلَّ صَباحٍ، وإذا بِالشَّمسِ تُفاجِئُها بِأشِعَّتِها الفِضِّيَّةِ، فَتَدخُلُ ضاحِكَةً، لِتَملَأَ جَوانِبَ الغُرفَةِ: الجُدرانَ، السَّقفَ، الأرضَ، السَّريرَ، الصوّانَ...!
غَضِبَت مِنها سَلوى قائلَةً: يا لَكِ مِن فُضولِيَّةٍ! كَيفَ تَجرُئينَ على دُخولِ غُرفَتي بِدونِ إذني؟!
اِبتَسَمَتِ الشَّمسُ، ثُمَّ أجابَتها بِهُدوءٍ: ما كانَ لِتَستَقبِليني بِهَذِهِ الطَّريقَةِ، يا صَغيرَتي!... ألا تَعرِفينَ أنَّ الغُرفَةَ الَّتي أَدخُلُها، لا يَزورُها الطَّبيبُ؟!... إنَّني أَقضي على الجَراثيمِ، وأُعالِجُ الأَمراضَ الجِلدِيَّةَ كَحَبِّ الشَّبابِ، والنَّفسِيَّةَ كَالقَلَقِ والتَّوَتُّرِ، وأمراضَ القَلبِ، وأُطَهِّرُ الدَّمَ، وأُنَمِّي الجِسمَ، وأَحمي عِظامَهُ وأُقَوِّيها، وأَمُدُّكِ بِالطَّاقَةِ، الَّتي تُضيء غُرفَتَكِ، وتُدفِئُها في الشِّتاءِ...!
قاطَعَتها سَلوى نادِمَةً: عُــذراً، إن أسَــأتُ إلَـــيكِ، فَـأنا لَــم أكُــــن أعرِفُ كُلَّ هَذِهِ الفَوائدِ!
رَبَّتَتِ الشَّمسُ على رَأسِ سَلوى: لَو لَم أَكُن أُريدُ إسعادَكِ وإعطاءَكِ الصِّحَّةَ والنَّشاطَ، لَمَا قَطَعتُ مَسافَةً طَويلَةً، لِأصِلَكِ، وأدخُلَ غُرفَتَكِ!
سَألَتها سَلوى مُتَعَجِّبَةً: ومِن أينَ أتَيتِ ؟!
- مِن مَملَكَةِ (تــونغــا) بَينَ جَزيرَتَي نيوزيلَندا وهاواي، ومَعنى اسمِها (جَنوب) المُحيطِ الهِندي... وهِيَ أرخَبيلٌ (مَجموعَةٌ) مِن مِئَةٍ وسِتَّةٍ وسَبعينَ جَزيرَةً، اثنَتانِ وخَمسونَ مِنها مَسكونَةٌ. ويَصِفونَها بِـ (الجُزُرِ الوَدود) و(الصَّديقَةِ) لِأنَّها تُرَحِّبُ بِضُيوفِها، وتَستَقبِلُهُم بِأذرُعٍ مَفتوحَةٍ، ومِنهُمُ البريطاني (جيمس كوك) مُكتَشِفُها سَنَةَ 1773.كما أنَّ سُكَّانَها يُحِبُّونَها كَثيراً وإذا سَألتِهِم عَنها، يُجيبونَكِ بِشِعارِهِم: اَلَّلهُ وتُــونغــا، هُما كُلُّ ما أرِثُهُ في هذا العالَمِ!
ولِتَعلَمي أنَّها مِن أَوائـلِ الدُّوَلِ الَّتي أَطلُعُ مِنها، ثُمَّ أُرسِلُ أشِعَّتي على باقي بُلدانِ العالَمِ!
قالَت سَلوى مُستَغرِبَةً: لا لا، أنا لا أُصَدِّقُ ما تَقولينَهُ!
- إذا لَم تُصَدِّقيني، فَهَيَّا امسِكي بِأحَدِ أشِعَّتي، لِأحمِلَكِ إلى مَملَكَةِ تونغا، فَتَرَي شُروقي مِن هُناكَ !
أمسَكَت سَلوى بِشُعاعٍ، فَجَذَبَتها الشَّمسُ جَذبَةً قَوِيَّةً إلى الوَراءِ، وفي لَمحِ البَصَرِ وَجَدَت نَفسَها بَينَ جُزُرٍ خَضراءَ، وشَواطِئَ مَرجانِيَّةٍ، رِمالُها بَيضاءُ وجَوانِبُها زَرقاءُ، تَسبَحُ في مِياهِها سَلاحِفُ وحيتانٌ حَدباءُ، وهِيَ تَطفو وتَغوصُ، المَرَّةَ تِلوَ الأخرى كأنها تَلهو، أو تُرَقِّصُ أولادَها الصِّغارَ، الذين تَحمِلُهُم على ظَهرِها، وتُعَرِّضُهُم لِنورِ الشَّمسِ، لِتُدفِئَ أجسامَهُم، وتُنَشِّطَ دَورَتَهُمُ الدَّمَوِيَّةَ!
ويَستَطيعُ كُلٌّ مِنَّا أن يَسبَحَ مَعَها، لِأنَّها لَطيفَةٌ، رَغمَ ضَخامَتِها وقُوَّتِها!
وهُناكَ على شَواطِئِ الجُزُرِ مَن يَصيدُ الأسماكَ المُتَنَوِّعَةَ والأُخطُبوطَ، ومَن يَركب الزَّوارِقَ فَيُجري سِباقاتٍ مُــمتِــعَــةً، أو يُمارِسُ رِياضَةَ رُكوبِ الأمواجِ!
وحينَ حَطَّ الشُّعاعُ بِسَلوى على شاطِئِ العاصِمَةِ (نوكو ألوفا) لَــفَــتَــت نَــظَــرَها بَــدانَــةُ سُكَّانِــها لِأنَّهُم يَتَناوَلونَ وَجَباتٍ غِذائيَّةً كَبيرَةً، لِدَرَجَةِ أنَّ الوَجبَةَ الواحِدَةَ تَكفي شَخصَينِ. لَكِنَّهُم، وإن كانوا سِماناً، فَإنَّهُم يَرتَدونَ ألبِسَةً تَقليدِيَّةً خَفيفَةً وفَضفاضَةً كَالتَّنانيرِ العُشبِيَّةِ المَلفوفَةِ بِخُصورِهِم والنَّازِلَةِ إلى رُكَبِهِم، والقُمصانِ بِلا أكمامٍ، كَي يَتَحَرَّكوا بِخِفَّةٍ. ويَتَحَزَّمونَ بِضَفــائِــرَ مِن أوراقِ الشَّجَرِ، أو بِسِلسِلَةٍ مِن قُشورِ فاكِهَةِ (جَوزِ الهِند) كما يَعشَقونَ الرِّياضَةَ، ويُمارِسونَ مِنها (الرِّكبي: كُرَةَ القَدَمِ الأمريكِيَّةَ)... ويَهتَمُّونَ بِالفِلاحَةِ، وإن كانوا صَيَّادينَ أو تُجَّاراً أو مُوَظَّفينَ أو عُمَّالاً، فَيَزرَعونَ خُضَراً وفَواكِهَ أمامَ بُيوتِهِم!
وما أعجَبَ سَلوى في هذا البَلَدِ، هُوَ أنَّ كُلَّ الأطفالِ يَتَعَلَّمونَ، فَيَقصِدونَ المَدارِسَ، صَباحَ مَساءَ، ويَقرَؤونَ الكُتُبَ والمَجَلَّاتِ في الحَدائقِ والمَكتَباتِ، ولا يَستَعمِلونَ الحَواسِبَ والألواحَ والهَواتِفَ الذَّكِيَّةَ إلَّا عِندَ الحاجَةِ، حَتَّى أصبَحَت نِسبَةُ المُتَعَلِّمينَ حَوالَي تِسعَةً وتِسعينَ في المِئَةِ، إذ يَستَحـيلُ أن تَـلقـى طِــفلاً أو رَجُــلاً أوِ امرأة، لا يَــعرِفُ الُّلـغَـتَـينِ الــــرَّسمِــيَّتَــينِ فـيها (الــتُّونغِــيَّةَ والإنجَليزِيَّةَ)
وفي يَومِ الأحَدِ، الأوَّلِ مِن كُلِّ شَهرِ مايٍو، يَحتَفِلونَ بـ (الأُسرَةِ )ويُسَمَّى(فَــكــام )أي(يَومُ الأحَدِ) وفيهِ يَرتَدي الأطفالُ الِّلباسَ التُّونغِــيَّ الأبيَضَ، ويُرَدِّدونَ أناشيدَ يَحمَدونَ الَّلهَ على نِعَمِهِ، ويَشكُرونَ الآباءَ والأُمَّهاتِ على جُهدِهِم في تَربِيَتِهِم وتَعليمِهِم، والعِنايَةِ بِصِحَّتِهِم وراحَتِهِم!
وكَم أدهَشَ سَلوى، وهِيَ تَمُرُّ بِقَصرِ المَلِكِ الخَشَبِيِّ، الَّذي يُطِلُّ على المُحيطِ الهادي، فَالكَثيرُ مِنَ القُصورِ والمَعابِدِ والمَتاحِفِ والبُيوتِ مِنَ الخَشَبِ، الَّذي تَجودُ بِهِ الغابَةَ. وبِما أنَّ السُّكَّانَ يَعيشونَ في الجُزُرِ، وتُحيطُ بِهِمُ المِياهُ، فَإنَّهُم يَدرُسونَ طُــرُقَ الإبحـار، وأنشَأ مَــلِــكـهُــم سَفينَةً سَمَّاها (كاليا)، أبحَرَ بِها أيَّاماً، لِيُعَرِّفَ دُوَلَ العالَمِ بِوَطَنِهِ، الَّذي يَحتَوي على جُزُرٍ، وشَواطِئَ، وطَبيعَةٍ فَتَّانَةٍ...!
عِندَ غُروبِ الشَّمسِ، وَصَلَت سَلوى إلى شاطِئِ البَحرِ، فَجَلَسَت تَحتَ شَجَرَةِ (جَوزِ الهِندِ) وإذا بِجَوزَةٍ تَسقُطُ أمامَها، فَفَرِحَت بِها، إذ كانَت تَشعُرُ بِجوعٍ وعَطَشٍ شَديدَينِ. وما إنِ انتهت مِنها، حَتَّى داعَبَ النَّومُ جُفونَها، فَاستَسلَمَت لَهُ بِسُهولَةٍ، فيما تَرَكَتها الشَّمسُ، لِيُؤنِسَها القَمَرُ في وَحدَتِها، ويُضيء لَها الشَّاطِئَ الهادِئَ إضاءَةً خَفيفَةً!
وصَباحاً باكِراً، أحَسَّت سَلوى بِشَيءٍ مِنَ الدِّفءِ، كَأنَّ يَدَ أُمِّها تَحنو عَلَيها، فَفَتَحَت عَينَيها، لِتَجِدَ الشَّمسَ فَوقَها، تَنظُرُ إلَيها بِوَجهِها الباسِمِ: هَيَّا، صَغيرَتي، انهَضي مِن نَومِكِ، لِأُعيدَكِ إلى بَلَدِكِ!
قالَت سَلوى، وهِيَ تتَثاءَبُ: لَولا المَدرَسَةُ الَّتي تَنتَظِرُني، لَأَمضَيتُ أيَّاماً في هَذِهِ الجُزُرِ الرَّائعَةِ !
أجابَتها الشَّمسُ مُوافِقَةً: حَقًّا ما قُلتِ!... لَكِن، يَنبَغي أن تَدرُسي وتَتَعَلَّمي مِثلَ بَناتِ وأولادِ تونغا، كَي تَبنِيَ بَلَدَكِ، وتَنفَعِيهِ بِعِلمِكِ!
أمسَكَت سَلوى بِشُعاعٍ مِنَ الشَّمسِ، كما فَعَلَت في الأَوَّلِ، فَأرسَلَتهُ صَديقَتُها بِسُرعَةٍ فائقَةٍ. وفي غَمضَةِ عَينٍ، وَجَدَت سَلوى نَفسَها في غُرفَتِها، تُطِلُّ مِن نافِذَتِها، وهِيَ تُوَدِّعُ الشَّمسَ قائلةً: لا تَنسَي أن تَأتيني كُلَّ صَباحٍ، فَالبَيتُ الَّذي تَدخُلُهُ الشَّمسُ لا يَــزورُهُ الطَّبــيــبُ!
رسوم: عبدالله درقاوي