العدد (437) - اصدار (4-1995)
توقف الخطيب برهة وشرب جرعة ماء. وكان كارلي قد سمعة بإذن مرهفة لأنه كان يقول كلمات نبيلة وصادقة، ثم تنسم الهواء لأن شمس نوفمبر اللافحة كانت تجثم على الجموع المصغية، ولم تكن الأشجار لتلقي غير الظلال فوق المساحة الكبيرة في جوهانسبرج، بينما كان المنديل الذي جعله كارلي بين عنقه وياقة القميص ينضح بالماء، وأجال كارلي عينيه في هذا الخضم من الوجوه التي تحف به. كانت وجوها من كل لون: أبنوسا لامعا وسط شحوب وجهين أو ثلاثة بيضاء منبثة بين الجموع
أغصان الريح تصول بجذع مصلوب
على رأس عشر سنوات من رحيل الشاعر أمل دنقل صدرت هذه الطبعة من "الجنوبي" وهو العنوان الذي اختارته زوجه الشاعر الأديبة الصحفية عبلة الرويني لتكتب تحته قصة الشهور التسعة التي قضتها معه قبل أن يختطفه منها غول السرطان المخيف. "الجنوبي" هو الشاعر نفسه، أبن جنوب مصر "الصعيد" وهو- أيضا- عنوان إحدى قصائده المتأخرة، بل لعله عنوان القصيدة الأخيرة التي كتبها في "الحجرة رقم 8"، حيث كان يقيم عامة الأخير في مستشفى الأورام على شاطئ النيل
قال: - اضرب بعصاك الليل... يتفجر برقا... ونجوما
دخلت القاعة الواسعة بخطوات ملسوعة، يلاحقها لسانها الملتهـج بصباح الخير صباح الخير، توزعها آليا على زملائها الذين سبقوها إلى مكاتبهم، وبمجرد أن وصلت آخر القاعة، مكان مكتبها؟ ألقت بحقيبتها فوقه، ويجسدها المنهك على الكرسي الخشبي القديم، المتبقي كتذكار حي من زمن تغلغل النفوذ الأجنبي في البلاد، قبل تأميم البنك في العهـد الجمهوري. زفرت أنفاسا عميقة، وهي تحمد الله على وصولها في اللحظة المناسبة، الثامنة والنصف إلا دقيقتين
روي عن أحد الملوك أنه قال: "إن أمر الدين والدنيا تحت" شيئين: قلم وسيف، والسيف تحت القلم" فهل ارتفع حقا القلم رمز الحكمة في مواجهة السيف رمز السلطة، أم أن العلاقة بينهما ظلت تسودها هواجس الخوف وحذر البطش؟ كان مديح "القلم"، في جانب منه، إعلاء من شأن رمزه الدال على الثقافة الكتابية، بالقياس إلى "اللسان" الذي كان رمزا للثقافة الشفاهية. وكان هذا المديح، في جانبه الثاني
1- كان عصفورا وديعا وضئيلا وجهه وجه سماوي يُغَنِّي بين هاله