العدد (544) - اصدار (3-2004)
تضاريس جسده كانت كالخريطة العربية. سمرة بلون أرض السواد حين تفيض الأنهر على ضفاف النيل والفرات. وقلب مثل الهضاب النابضة, تنتظر مطرا لا يجيء, وروح طليقة مثل الصحراء المفتوحة, لا تعترف بحدود إلا عندما يتوافر كلأ الروح ومياه الحياة, هكذا عاش عبدالرحمن منيف, غامضًا مثل كهوف النفس العربية, ساطعا وقاسيا أحيانا مثل شمسها, حينما ظهر في العام 1998 على المسرح الصغير لدار الأوبرا المصرية, وهو يتسلم جائزة الرواية العربية لم يصدق أكثر من شخص أنه حقيقي, وأنه طوال هذه الفترة كان يكتب هاربا من عدسات الضوء
هناك مشاهد تثبت في الذاكرة على نحو خاص, لا تفارقها رغم تعاقب السنوات وتغير الأحداث والوظائف والأمكنة التي يمر بها المرء. وقد تعلمنا من علماء النفس أن الذاكرة لا تستبقي إلا المشاهد التي لها أهمية عند صاحبها, سواء على مستوى الوعي أو اللاوعي. أعني الأهمية التي تحفر دلالة مشهد بعينه في الذاكرة, مرتبط بحلم حيوي أو رغبة عارمة أو أمل واعد أو إيمان عميق. ومن هذه المشاهد التي قد نراها في كتب قرأناها, أو روايات استمتعنا بها, أو أماكن زرناها وتعلقنا بها
واقف... بين غيب المتاهة والبحر ترفع أشرعة
لم تكن (الرواية الجديدة) التي شغلت الأوساط الأدبية كافة في فرنسا والعالم زهاء ثلاثة عقود (من الخمسينيات وحتى السبعينيات) تيارًا أو مدرسة أو حركة بالمعنى التقليدي للكلمة. إذ لم تُخضع نفسها, على غرار ما درجت عليه المدارس الأدبية في السابق, لمبادئ أدبية أو فلسفية أو أخلاقية أو حتى أيديولوجية - سياسية معلنة سلفًا (الواقعية الاشتراكية مثلاً أو الأدب الملتزم). بل على العكس كانت (الرواية الجديدة) لحظة انفلات وانعتاق من الأشكال التي غالبًا ما كانت تنتهي إلى تقييد الكتابة في أصول ومبانٍ تقيم حدودًا وحواجز للكتابة وللخيال - رغم ادعائها أول الأمر التحرّر والتفلّت. فلم يكن يجمع الكتّاب المنضوين تحت هذا العنوان
على رصيف أحد شوارع لندن, كانت المكتبة المجاورة تعلن عن الرواية بشكل يكاد يكون استفزازيًا. توقفت - على غير عادتي - وقد استفززت فعلاً وبدأت أقلّب النسخة المعروضة داخل المكتبة. على الغلاف الخلفي طالعتني معلومات تأخذ بالرواية بعيدًا عمّا يبحث عنه قرّاء الروايات عادة من متع سردية. وجدت في الرواية اتصالاً بهموم بحثية كانت - ولاتزال - تشغلني, فكان أن انكببت على القراءة لأكتشف منذ الصفحات الأولى أنني لا أشبع هموم البحث فحسب
عندما قرر بيفيتو ذهب ليجد الكاتب بالعدل, قال له: أريد أن أبيع