العدد (650) - اصدار (1-2013)
تخصص «العربي» في هذا العدد ملفًا عن الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش بمناسبة مرور أربع سنوات على رحيله. هذه السنوات الأربع التي مرت على غيابه زادته حضورًا وتألقًا. فالأبحاث والدراسات حول شعره تصدر بين وقت وآخر في عواصم عربية مختلفة. فهو شاعر فلسطين كما هو شاعر العرب وشاعر الإنسانية في آن، مثله مثل لوركا وأراغون ونيرودا وسواهم من شعراء العالم الذين غنّوا عذابات شعوبهم وعذابات الإنسانية في آن. كان محمود درويش واحدًا من هؤلاء، فجّر في اللغة العربية طاقاتها إلى أقصى مدى
هذه إحدى قصائد محمود درويش التي كتبها في أواخر أيامه، وما من شك في أنه كتبها وهو على وعي أن أجله قد بات وشيكًا، وأن ما تبقى لديه من وقت لمزيد من العطاء لم يعد كافيًا للتعبير عن الكثير مما يريد التعبير عنه ضمن مشروعه الذي نذر نفسه من أجله منذ أيام الصبا، كثيرًا ما يختار كبار المبدعين السطو على الزمن بفصل أو أكثر من سيرة حياتهم تكون أشبه بخبر المبتدأ، حتى لو كان ناقصًا. مبتدأ القصيدة يوحي بالكثير من خبرها: فقوله: «من أنا لأقول لكم/ما أقول لكم» فيه بداية إنكار للذات الشخصية التي يتحدث عنها الشعراء عادة
من بداية ستينيات القرن الماضي وحتى آواخر العقد الأول من هذا القرن، ظل محمود درويش يصل شعره بساحة الوقائع الكبرى والصغرى من حوله، يحيا في قلب هذه الساحة، ويشهد تغيراتها وتحولاتها، ويتأملها ويتقصى أبعادها، ويسائلها ويسائل شعره، وينظر ويعيد النظر. وقاده هذا، إلى أن يكون واحدًا من المبدعين القلائل، في تاريخ الأدب الإنساني كله، الذين امتلكوا قدرة استثنائية على مجاوزة وتخطي ما أبدعوه من قبل، بما جعل تجربتهم الأدبية تتجدد معالمها أكثر من مرة، أو بما جعل رحلتهم الإبداعية تنهض على «نقلات» واضحة، وكأن هناك «حيوات» عدة عاشوها، أو كأن هناك «أطوارًا» فنية متباينة مروا بها
«في حضرة الغياب» نص تجتمع فيه تأملات محمود درويش المعبرة عن ذاته تعبيرًا عميقًا، نص تحضر فيه صور من حياته ونصوصه وأفكاره، نص يستعيد فيه ذاته وذاته الأخرى في برزخ زمني يتجاور فيه «الحضور والغياب» في بنية فنية منبثقة من الفلسفة الممعنة في تأمل جدل العلاقة بين الحياة والموت، بين الحضور والغياب، والمغرقة في معاينة العوالم «الجوانية» العميقة الشعورية واللاشعورية للإنسان حال إدراكه أن الحياة «ظلال شاردة»
عرف محمود درويش ثلاث لحظات من الرحيل أسهمت في بناء منظوره للعالم، وأثرت في تطور خطابه الشعري. كانت اللحظة الأولى يوم غادر وهو في السابعة من عمره مسقط رأسه «البروة» الواقعة على بعد تسعة كيلومترات شرقي عكا في العام 1948، ليعود إليها متسللاً، أما اللحظة الثانية فكانت يوم سافر إلى موسكو في العام 1970 لغايات الدراسة، ليمضي فيها قرابة السنة، ذهب بعدها إلى القاهرة في 9 / 2 / 1971 وأقام فيها بضعة أشهر عمل في أثنائها في «الأهرام»، لينتقل إلى بيروت عام 1972، أما لحظة الرحيل الثالثة فقد تزامنت مع رحيل الفصائل الفلسطينية عن بيروت في العام 1982
فَتَن محمود درويش أهل زمانه باللغة في تجلياتها المباشرة في خطابه، وذلك حديث ذو شجون يتناوله بالتفسير المشتغلون بالنقد والأسلوبية والأدب الحديث. ولكن محمود درويش نفسه قد فُتن باللغة ذاتها في تضاعيف خطابه، فكانت موضوعًا محوريًا في ذلك الخطاب، شأنها شأن الذات، والهوية والوطن، والمنفى، والآخر. يتراءى لنا ولكثيرين غيرنا أن محمود درويش يشبه المتنبي في أنه «ملأ الدنيا وشغل الناس» وقيل في تفسير سيرورة شعر المتنبي بل خلوده إنه كأنما كان ينطق بلسان كل إنسان في كل زمان ومكان
فَتَن محمود درويش أهل زمانه باللغة في تجلياتها المباشرة في خطابه، وذلك حديث ذو شجون يتناوله بالتفسير المشتغلون بالنقد والأسلوبية والأدب الحديث. ولكن محمود درويش نفسه قد فُتن باللغة ذاتها في تضاعيف خطابه، فكانت موضوعًا محوريًا في ذلك الخطاب، شأنها شأن الذات، والهوية والوطن، والمنفى، والآخر. يتراءى لنا ولكثيرين غيرنا أن محمود درويش يشبه المتنبي في أنه «ملأ الدنيا وشغل الناس» وقيل في تفسير سيرورة شعر المتنبي بل خلوده إنه كأنما كان ينطق بلسان كل إنسان في كل زمان ومكان