العدد (444) - اصدار (11-1995)
إنها طعنة واحدة لم تخنك قواك
شعر الصعاليك هو صرخة الهامشيين الذين تمردوا على أعراف الجماعة الظالمة، وحلم العدل الاجتماعي في مجتمع لا يعرف سوى ظلم القوة العارية، ودعوة الحرية التي تتأبى على كل قيد، وطليعة التمرد الفني الذي يجسد فعلى التمرد الاجتماعي. أدركنا ما لشعر الصعاليك من فتنة خاصة حين تعرفناه أول مرة عن قرب في طلع الحياة الجامعية، واجتزنا حواجزه اللغوية الصعبة بالقياس إلى غيره من الشعر الجاهلي
ذلك الخوف المبالغ فيه من كشف طوايا النفس العربية.. أهو مبالغة في الخجل أم إفراط في العفة؟ أم أنه صورة غير مباشرة من صور عدم مواجهة النفس بصراحة والاعتراف بنقاط الضعف بدلا من المباهاة بنقاط القوة الزائفة؟ "دعني أخبرك: أنى أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر، فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر.. وإني لأجد هذا في أصل تركيبي.. ولا تؤاتيني نفسي على سواه ولا تحب غيره البتة. وهذا العارض بعينه عرض لأبي رضي الله عنه، وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجله
في كل مرة، كان يقف في ركن قصي، من ساحة محطة القطار، يتفرج على ابنة مدير المحطة الجميلة، ابنة الجيران، التي تعتمر قبعة من القش المزخرف بالأحمر والأزرق ، ويزين حافتها شريط ناصع البياض. تعود أصابعه لتداعب ذقنه المرتجفة، وهو يعود أدراجه يلوب حزنا، لأنها لم توافق على إعطائه قبعتها الجميلة، ليضعها على رأسه ولو مرة واحدة
استطعت بالأمس فقط أن أزيل الغبار الممزق لصورة جدي من فوق اللوحة..كانت معلقة على الحائط تواري شرخا عميقا متعرجا وقذارة مبهمة وظلالا بنية ويحرسها صرير بعض النمل الأسود. أسكت صرير النمل وحطمت اللوحة وأخرجت رأسي بين دفتيها..مصصت أظفارى وعضضت وتساءلت: هل يمكن للإنسان ألاّ يرى نفسه إلا في مرآة أو صفحة نهر أو ظل القمر على الأرض
وجدت المقهى مقفلة. كنت على موعد مع شخص سيقدم من مدينة تبعد بضع عشرات الكيلو مترات، وسوف نذهب بسيارته إلى مزرعته هناك، لنقضي معا يوما كاملا. يفصلني عن الحد الأقصى للموعد ساعة تامة- الجو ساخن. بين الحين والآخر تهب موجة من الغبار، فتنتابني نوبة من العطاس. إحساس يزداد بملمس الغبار في شعري وعلى بشرة وجهي الدهنية وجفوني وشفتي وطعمه المستفز على طرف لساني، ويزداد إحساسي بمضايقة العرق الراشح من الإبطين
تتقلب في فراشك ذات اليمين وذات الشمال تقلب المحتضر على سرير الموت. أنفاسك تتصاعد متقطعة كأنها تنتزع من بين جوانح صدرك اللاهثة، خفقات قلبك الوجيع في استنفار حاد لا تدري منتهاه. تشعر بشيء ما ينحت على تمثال ذهنك يحرف خلقته ويزعج سكونه المألوف.. من أبوك؟!. تغمض عينيك البريئتين لتستدرج سلطان النوم. لكن هيهات فالحظ كعادته مدبر عنك وجهه والنوم صد عنك، كما تصد الحسناء تغنجا وتدللا، وأنت في أمس حاجتك إليه..
وحيدا ومنكمشا فوق كرسيه. حاول أن يسترد أنفاسه لكنه لم يستطع. طوى بطنه وببطء حاول مدها من جديد ليستعيد أنفاسه. الوجع كان كالسكين في خاصرته اليسرى. العينان تنكمشان من شدة الألم. هل أشرب ماء؟ طرح هذا السؤال على نفسه. سيجن من شدة الألم. أصبحت كالقنفذ قال، وفي أول الليل وصوت المؤذن يطرق أسماعه من بعيد: يا رب. ثم استعاد أنفاسه مسرورا ضاحك العينين. نهض وفتح الباب على مصراعيه. توجه لرف الكتب. تناول القران وقرأ ما تيسر له من الآيات شاكرا ربه
سكن الليل، وردة في يديك، لا شك أنها وردة حمراء كما تتصورون، تقف على الرصيف كشارة مرور لا تشير إلى شيء تضع يديك في معطف رمادي، تنتعل حذاء ثقيلا، تتملى في الأشياء من حولك، أضواء السيارات تتراقص، أحدهم يحمي رأسه بجريدة . صفعك هواء بارد، هذيان الريح يجعلك تدخل في حلم لذيذ. لفظتك الخمارة بعدما استنزفت قسطا من راتبك الشهري. تتحرك من مكانك، تتبين مواقع خطاك بصعوبة، كأنك تسبح ضد التيار في هذا الأفق القاتم
لماذا غرناطة الآن؟ أهي ذكرى لما مضى أم رمز لما هو كائن؟ هل هي الزمن التاريخي المتباعد الدلالات، أو أنها وقائع الحاضر وقد ارتدت قناعا شفافا لا يخفي ما في ملامح الواقع من قسوة؟. من اللافت للنظر أن تصدر في السنوات القليلة الأخيرة روايتان تجرى أحداثهما حول خروج العرب من الأندلس أو عن حياتهم في ظل قهر الحكم الإسباني ومحاكم التفتيش في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلاديين
يقول طبيبنا النفسي الذي نتعالج عنده منذ أكثر من عامين إن أحد التوأمين أقوى دائما من الآخر وإن القوى مرشد للضعيف. من المحتمل أن يكـون كلامه صحيحـا، في حـالتنا على الأقل. فإن سقوبة سيرجيـو وبرودة دماغه العلمية تغريني وتخضعني. نحن، الاثنين، هشان وقلقان ومتقلبان هذا مؤكد ولكن سيرجيو استطاع التحكم بعمق في لغة التحاليل وخلق لنفسه قناعا من الكلمات المطمئنة، أما أنا فلم أستطع فعل ذلك. بالمقابل فإني أمتلك وبتأكيد غريب التفوق على سيرجيو
مرآتي التي حرصت على إهمالها طويلا الآن ساعة تغازلني..