ملتقيات العربي

ندوة حوار المشارقة والمغاربة

اليوم الثالث الجلسة الصباحية الاولي

أبحاث الفترة الصباحية الأولى ليوم الإثنين
رئيس الجلسة: أ.د. عبدالله الغنيم مدير مركز البحوث والدراسات الكويتية
الـيابـان بـعـيـون عـربـيـة
أ. د. مسعود ضاهر

تعريف بالدراسة والمنهج

         لعب البعد الجغرافي دورا مهما في غياب الاهتمام المشترك بين العرب واليابانيين طوال قرون عدة. وفي حين ساعدت عزلة اليابان الجغرافية على حمايتها من الأطماع الخارجية، فان الموقع الاستراتيجي للعرب على مداخل ثلاث قارات كبرى وضعهم تحت رقابة استعمارية مباشرة منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى الآن. فبات العرب في صلب الاستراتيجيات الدولية، من حيث الموقع والموارد الطبيعية والمالية. وقد نجحت اليابان في تلافي الإحتلال الأجنبي لأراضيها وكان شعبها يفتخر على الدوام بأن أقدام الغزاة الأجانب لم تطأ أرض اليابان قبل عام 1945، وبعد أن قصفها الأمريكيون بقنبلتين نوويتين ما زالت آثارهما حية في ذاكرة اليابانيين وجميع الشعوب الديموقراطية في العالم، كنموذج على العمل الإجرامي ضد الإنسانية. بالمقابل، لم ينجح العرب في حماية نهضتهم الأولى التي بدأت في مصر إبان حكم محمد علي، ثم انتشر تأثيرها المباشر على بلاد الشام وباقي أرجاء السلطنة العثمانية. فقد سقطت الجزائر، واليمن، وتونس، ومصر وغالبية الدول العربية تحتل الإحتلال الأجنبي بأشكاله المتنوعة، البريطاني والفرنسي والإسباني والإيطالي. ورغم استعادة غالبية الدول العربية لاستقلالها السياسي، فهي ما زالت تعاني ضغوطا خارجية لا حصر لها. لذا سارت كل من اليابان والدول العربية ضمن خطين متوازيين من التحديث والتنمية البشرية المستدامة. كما أن البعد الجغرافي بينهما لعب دورا إضافيا في بقاء العلاقات بينهما ضعيفة للغاية باستثناء تبادل النفط الخام العربي بالسلع اليابانية.

         تحاول هذه الدراسة لفت الإنتباه إلى أبرز التبدلات التي طرأت على صورة اليابان لدى الباحثين العرب في القرن العشرين، وذلك بالإستناد إلى نماذج من الدراسات العربية المنشورة عن اليابان (1). وقد تمحورت فرضياتها العلمية الأساسية، وسمات المنهج التحليلي المعتمد فيها على الشكل التالي:

         1 - أن معرفة العرب باليابان من طريق الأبحاث والدراسات العلمية المعمقة هي حديثة العهد ولا ترقى لأكثر من عقدين من الزمن. فقد كانت المقالات العربية عن اليابان قبل 1983 مجرد إنطباعات صحفية، وأدبية، وعاطفية، وغالبا ما كتبت عن بعد.

         2 - أن العلاقات بين العرب واليابانيين كانت هشة للغاية. فلم يبد اليابانيون اهتماما يذكر بالعرب قبل حرب أكتوبر 1973 حيث تعرض الإقتصاد الياباني لهزة عنيفة بسبب إرتفاع أسعار النفط العربي وعدم معاملة العرب لليابانيين كدولة صديقة.

         3 - أن الصورة المتبادلة بين العرب واليابانيين كانت، في الغالب، مشوشة وسلبية لدى الجانب الآخر. مرد ذلك إلى أن وسائل التواصل المباشر بينهما كانت ضعيفة للغاية حتى أواسط القرن العشرين. وترسخت تلك الصورة من خلال ما نشرته وسائل الإعلام الغربي الذي كان يعكس صورة نمطية سلبية، ساهمت في إعاقة العلاقات الثقافية بين الجانبين طوال القرن العشرين.

         4 - بذل الباحثون اليابانيون جهودا ثقافية مهمة لمعرفة العرب عن كثب، وبصورة مباشرة.

         فهناك العشرات ممن تخصص منهم بدراسة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية للدول العربية، ويتزايد تواجدهم باستمرار في مراكز الابحاث اليابانية المنتشرة في بعض الدول العربية، وفي مؤتمرات علمية ذات صلة بالعرب والاسلام والنفط.

         في حين لم يبذل العرب جهودا تذكر لتقديم معرفة موضوعية عن اليابان، ومستندة فعلا إلى وثائق يابانية. فما زالت غالبية الدراسات العربية عن اليابان تكرر مقولات لباحثين أوروبيين وأمريكيين، نادرا ما كانت منصفة أو تقدر نهضة اليابان حق قدرها.

         بقى أن نشير إلى ملاحظة منهجية. هل أن معالجة موضوع (اليابان بعيون عربية)، في ندوة بعنوان (الغرب بعيون عربية) تحمل شيئا من الإقحام غير المبرر لبلد آسيوي شرقي مع مجموعة من الدول الغربية، أو بالأصح الغربية والأمريكية معا؟ الجواب بالنفي.

         فما يعبر عنه مصطلح الغرب في أبعاده السياسية، والثقافية، والحضارية لعصر العولمة هو جميع الدول المتطورة، تكنولوجيا بالدرجة الأولى، وذلك بمعزل عن موقعها الجغرافي. فالغرب، بهذا المعنى، ليس واحدا. وهناك تداخل كبير في تصنيف دول العالم تبعا لدرجة تطورها التقني، والإقتصادي، والثقافي بحيث تتجاوز الموقع الجغرافي لتضم القارات الخمس. وبهذا المعنى أيضا، تصنف اليابان في خانة الغرب لأنها دولة متطورة جدا، وقد أنجزت قفزات نوعية وثورات متواصلة على مختلف الصعد السياسية، والاقتصادية،والتكنولوجية، والثقافية، والإعلامية وغيرها. ولديها موقع ثابت ومتقدم بين الدول الأكثر تطورا في العالم والتي بدأت بخمس دول ثم تطورت إلى سبع، فثماني دول. وهي مفتوحة الآن أمام دول أخرى للحاق بها شرط أن تحقق وتيرة نمو عالية في عالم الإنتاج المكثف والتكنولوجيا المتطورة.

         هكذا تم توصيف اليابان، ومنذ سنوات طويلة، في عداد دول (الغرب)، أي المتطورة جدا.

         يكفي التذكير هنا بأن باحثا فرنسيا قد أصدر في العام 2003 كتابا بعنوان: (اليابان: أزمة حداثة من نوع آخر) فحمل الفصل السابع عشر منه العنوان التالي: (يابان الغرب ويابان الشرق) (2)، ناقش فيه كيف أن مناطق غرب اليابان كانت أكثر إستعدادا لتقبل الحداثة الغربية من مناطقها الشرقية. فشكلت (الباخرة) ومعها السلاح الناري تجسيدا لتوجه المناطق الغربية بحرا نحو ثقافة أوروبا وأمريكا وتقنياتهما. وشكل (الحصان) ومعه السيف، تجسيدا لقوى الساموراي التي كانت ترفض الانفتاح على الغرب وتلقب شعوبه بالبرابرة.

         وقد لعب الإمبراطور المصلح (مايجي) الدور الأساسي في نقل العاصمة من المدينة التاريخية والجميلة جدا، كيوتو، إلى مدينة إدو EDO التي تقع في عمق المنطقة الشرقية. فانطلقت منها عملية تحديث واسعة كانت في بداياتها عملية تغريب واضحة المعالم. وقد أطلق عليها اسم العاصمة الشرقية، أي طوكيو، وعمل على نقل جميع مؤسسات الدولة إليها منذ عام 1868.

         ويعتبر كثير من الباحثين في تاريخ النهضة اليابانية أن هذا التدبير شكل محاولة ذكية لتعميمم الإصلاحات على جميع مناطق اليابان انطلاقا من مركزية صارمة بحيث جمعت المؤسساته في العاصمة الجديدة، أي في قلب المناطق الشرقية الرافضة للتغريب. مما تطلب قسوة بالغة لفرض إصلاحات مقتبسة عن الغرب على نطاق واسع، وعدم حصرها في المناطق الغربية.

         وكان لموقفه المتشدد في تعميم تلك الإصلاحات أثر كبير على قوى الساموراي المحافظة، والتي تخلت عن من مكتسباتها التقليدية السابقة وإنخرطت في عملية التحديث الجديدة. فكان لها دور ملحوظ في إنجاحها وترسيخ مقولاتها بصورة تدريجية بين جماهير الفلاحين وسكان الأرياف.

         بعبارة موجزة، صنفت تجربة التحديث اليابانية في بداياتها كتجربة تحديث على النمط الغربي.

         وهناك من بالغ في وصفها بأنها غربية بالكامل، من حيث المقولات الثقافية، وأدوات التحديث، واشكال المؤسسات، وطرائق التنظيم السياسي والإداري، والضبط الاجتماعي، والتنمية البشرية والإقتصادية، ومناهج التربية والتعليم وغيرها. وهناك من اعتبرها تجربة تحديث ناجحة استفادت كثيرا من تجارب الغرب الأوروبي والأمريكي دون أن تتخلى عن خصوصيتها الآسيوية. ولم ينكر الباحثون اليابانيون أنفسهم أثر الغرب في إطلاق نهضة اليابان، لكن لديهم مقولات مغايرة تماما لمقولات الباحثين الغربيين ومن سار على خطاهم، حول توصيف عملية التحديث في اليابان، وأصالة مقولاتها، وإثبات قدرتها على التجدد بعد أن أصيبت بضربة أليمة في الحرب العالمية الثانية، ثم تحولها إلى نموذج يحتذى لدى النمور الآسيوية.

يابان (الشمس المشرقة)

         بدت صورة اليابان، عن بعد، جميلة جدا لدى بعض الشعراء والكتاب العرب في النصف الأول من القرن العشرين. فإبان فترة مليئة بالهزائم والإحباط من تاريخ العرب الحديث، أعجب شعراء العرب وأدباؤهم بنهضة اليابان التي نجحت في بناء جيش قوي، وإقامة دولة عصرية، وإحتكارات إقتصادية ومالية ضخمة، وإصلاحات سياسية، وتربوية، وإدارية، واجتماعية كبيرة، وإدخال العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة على نطاق واسع إلى اليابان. وخلال ربع قرن فقط، قادت تلك الإصلاحات، إلى ظهور دولة (الشمس المشرقة)، وهي دولة قوية لا تخاف الغرب بل يخاف منها. فقد تتالت الانتصارات العسكرية اليابانية طوال الفترة الممتدة ما بين 1894 - 1941. فحقق الجيش الياباني نصره الأول على الجيش الصيني عام 1894، ثم هزم الجيش الروسي عام 1905. وخرجت اليابان منتصرة في نهاية الحرب العالمية الأولى وباتت أقوى دولة إمبريالية في جنوب وشرق آسيا. ثم إحتلت مساحات شاسعة من الصين وكوريا ودول الجوار الآسيوي وبلغت أقصى مداها ما بين 1831- 1939. وأنزل سلاحها الجوي هزيمة قاسية بالأسطول البحري الأمريكي في بيرل هاربر عام 1941.

         لذلك باتت اليابان محط إعجاب شعراء العرب وأدبائهم. فهي لم تنجح فقط ببناء دولة عصرية قوية تحميها من مخاطر الإحتلال الأجنبي بل تحولت هي نفسها إلى واحدة من أكثر الدول الإمبريالية شراسة في العالم، وفرضت هيمنتها على منطقة جنوب وشرق آسيا بأكملها قبيل الحرب العالمية الثانية، وهددت بإخراج جميع الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية من تلك المنطقة لتحويلها إلى بحيرة للنفوذ الياباني بمفرده. فأبدوا إعجابهم الشديد بالمقولات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والتربوية التي حولت اليابان بسرعة مذهلة من دولة ضعيفة إلى دولة قوية أدخلت الرعب في قلوب الآسيويين والأوروبيين والأمريكيين معا.

         ونظرا لغياب الدراسات العربية العلمية حول اليابان في تلك الفترة، تأليفا أو ترجمة، نشير هنا إلى نموذجين أدبيين عبرا بصدق عن حقيقة المشاعر العربية تجاه اليابان في مطلع القرن العشرين، وهما قصائد للشاعر حافظ إبراهيم، وكتاب للمفكر السياسي المصري مصطفى كامل.

         أ - فقد نظم حافظ إبراهيم قصيدتين مطولتين بمناسبة بدء الإنتصارات الخاطفة التي حققها الجيش الياباني على الجيش الروسي. الأولى بعنوان: (غادة اليابان)، نشرها في 6 نيسان 1904، وفيها تمجيد لفلسفة القوة، وإشادة بشجاعة اليابانيين، وبتماسك الشعب الياباني وراء قيادته السياسية من أجل تحقيق مصالح اليابان العليا كدولة قوية تهابها الدول الأخرى، ومطلعها:

لا تلم كفي إذا السيف نبا صح مني العزم والدهر أبى

         وأبرز ما جاء فيها وصفه لموقف فتاة يابانية أصرت على العودة إلى ديارها قياما بالواجب الوطني تجاه بلادها، ومشاركة شعبها في الحرب.

أنا يابانـيـة لا أنـثـني عن مرادي أو أذوق العطبا
أنا إن لم أحسن الرمي ولم تستطع كفاي تقليب الظبا
أخدم الجرحى وأقضي حقهم وأواسي في الوغى من نكبا
هكذا الميكادو قد علمنا أن نرى الأوطان أما وأبا.(3)

         ثم أعقبتها قصيدة أخرى بعنوان (الحرب اليابانية – الروسية)، نشرها في 10 تشرين الثاني 1904. وقد نظمها بمناسبة انتصار الجيش الياباني على الجيش الروسي في حرب بدأت في شباط 1904 وإنتهت بهزيمة روسيا في أيلول 1905، مع اعترافها بسيطرة اليابان على كوريا، وجلاء الجيش الروسي عن منشوريا، وشروط أخرى لصالح التوسع الياباني. ومطلعها:

أساحة للحرب أم محشر ومورد الموت أم الكوثر؟

         ولعل أجمل ما في القصيدة تذكير الشاعر بعودة الشرق بقوة إلى التاريخ العالمي.

أتى على الشرق حين إذا ما ذكر الأحياء لا يذكر
ومر بالشرق زمان وما يمر بالبال ولا يخطر
حتى أعاد ( الصفر) أيامه فانتصف الأسود والأسمر
فرحمة الله على أمة يروي لها التاريخ ما يؤثر(4)

         ب - في حزيران 1904، أصدر الزعيم المصري مصطفى كامل باشا كتابا مهما بعنوان: (الشمس المشرقة)، تضمن مقدمة، ووصفا لجزر اليابان، وبعض الأحداث المنتقاة من تاريخها، والانقلاب الحديث في عهد الإمبراطور مايجي أو الميكادو. وقدم تعريفا سريعا بسيرة بعض أعوانه، وتوصيفا لولادة الدستور الياباني لعام 1889، ومجلس النواب، والأحزاب اليابانية الجديدة، ووصفا لآليات عمل الإدارة، والقضاء، والمالية، والتربية والتعليم، والصحافة، والحربية والبحرية. إلا أن المعطيات الواردة في هذا الكتاب شمولية، ويفتقر بعضها إلى الدقة في مجالات عدة لأنها مستقاة عن بعد، ومن مصادر صحفية ودعائية في الغالب. وليست للكاتب معرفة عيانية بالعلاقة المعقدة جدا بين المجتمع التقليدي والدولة العصرية في اليابان، وأواليات تنظيمهما وكيفية التداخل بينهما. كما أن شروط البحث العلمي الدقيق لم تكن ميسرة لأن التوثيق الجيد آنذاك كان صعبا للغاية. كان الهدف التثقيفي المرجو من الكتاب بارزا بصورة جلية، إذ كان مصطفى كامل، ومن موقعه كزعيم سياسي مصري، ينشد التغيير في مصر أولا، وفي الولايات العربية، والسلطنة العثمانية، وجميع شعوب الشرق. فأجرى في كتابه هذا مقارنات متكررة بين دولتي مصر واليابان اللتين تعرضتا لضغوط خارجية مشابهة، ففشلت الأولى في مواجهتها ونجحت الثانية. وقد انطلق في مقارنته من موقف تثقيفي خالص على قاعدة مأثورة لدى العرب هي: (إن التشبه بالكرام فلاح). فلخص الغاية كتابه بالقول: (ضرب الأمثال لأبنائها الأمة العربية) بأمثالهم الذين لم تقعدهم حادثة عن النهوض، ولم يملأ اليأس قلوبهم لمصاب أهلي، أو خيبة وطنية. بل اعتقدوا أن لكل شعب حقا في الاستقلال ونصيبا من السعادة. فجدوا واجتهدوا، واتحدواوعملوا حتى نالوا هذاالحق وذلك النصيب(5) وبما أن المصريين، ومعهم جميع العرب، هم شرقيون على غرار اليابانيين، فنجاح هؤلاء يبشر العرب وغيرهم من شعوب الشرق بأن طريق الخلاص من الإحتلال والتبعية مفتوح أمامهم عبر نضالاتهم، وتضحياتهم، وتوحيد صفوفهم. ورفض المقولة التي كانت سائدة بأن التخلف قدر مفروض على الشرقيين كما كانت تزعم الدراسات الإستشراقية التي جعلت من الغرب معلما للشرق. كان البعض منا، معاشر الشرقيين، يقول ويلقن هذا القول للصغار والكبار، أننا أمم إنقضى دورها، ودالت الأيام على مدنيتها، ومحا الزمان وجودها السياسي وليس في وسعها التسلح بمدنية أوروبا ومقاومتها بها. وأنه لا بد لها من الاستسلام للغرب، وقبول حكمه، وسلطانه بلا عمل للحاضر وبغير جهاد في سبيل المستقبل. فقامت أمة اليابان مكذبة لهذه الدعوى، منادية الشرقيين أجمعين بأن طريق الارتقاء ميسر لقصاده، وأن من جد وجد، وكل من سار على الدرب وصل. (6).

         جاء كتاب (الشمس المشرقة) بأكمله ردا على تلك المقولة، وعلى الإحباط القاتل الذي كان سائدا آنذاك، ودعوة إلى الإستنهاض.(سمعت الناس يتساءلون عن نبأ هذه الأمة الشابة ( اليابان)، فأحببت أن اقدم لهم الجواب على ما يسألون... نعم، الموضوع يستحق المؤلفات الضخمة.

         لكنني أظن أن فيما أتيت به الكفاية، وأعتقد أن تاريخ اليابان هو خير ما يلقى على أمم الشرق من الدروس النافعة....

         ويضيف: (العالم كله ينظر إلى اليابانيين نظرة استغراب وإعجاب، ويعد إنتصارهم الباهر، وظفرهم العظيم... أجمل ما دونه تاريخ الحروب. وإذا إستمر اليابانيون على هذه الخطة التي أعجب بها الناس طرا، تم لهم أمام الروس ما تم لهم أمام الصينيين... والله أسأل أن ينتفع قومي بهذه الموعظة، ويحقق آمالي، ويريني من همم رجال الأعمال، ما يزيدني ثقة بأن بلادي بالغة ما ترجو من حياة عالية، ومجد واستقلال)(7).

         لكن المقارنة بين اليابان ومصر تثير مرارة الكاتب حين يتذكر كيف أن انطلاقة حركة التحديث في كلا البلدين كانت متشابهة في وجوه كثيرة، فكيف انتهت إلى نتائج معكوسة؟ فوصف تلك المرارة قائلا: بأي قلم يكتب المصري عن أمة كانت في عداد الأموات يوم كان قومه في الصف الأول من الأحياء، تعجب الدنيا بهم ويتفاخر الشرقيون بأعمالهم، وترهب الأعداء جيوشهم وأساطيلهم. بل كيف يستطيع المقارنة بينهم وبيننا. كنا ندعو الشرق للإقتداء بنا فقاموا يدعونه للسخرية منا... وليس بعجب أن يقف المصري موقف الحيرة إذا أراد المقارنة بين أمتين إحداهما حليفة إنكلترا والأخرى مفترسة بين أنيابها... أنى للكاتب أن يقارن والمقارنة لا تكون بين الصاعد والنازل، والمتقدم والمتأخر، والحاكم والمحكوم، والسائد والمسود، والغالب والمغلوب، والشمس المشرقة والشمس التي غربت.. إني، كما أرى في التاريخ العبر والأمثال، والمرهم لجراح الأمم، أرى فيه شقاء الذين تولعوا بالمجد والإستقلال وقضي عليهم أن يعيشوا في زمن الإحتلال والإنحلال. وما مراجعة ذلك الماضي المجيد إلا كرد الحياة لمحمد علي الكبير ليرى بعيني رأسه في أي حال صارت مصر وأي مقام أدرك اليابانيون (8).

         يحدد الكاتب افتتاح قناة السويس كنقطة زمنية مهمة لحركة التاريخ الانحداري لدى المصريين والتصاعدي لدى اليابانيين. كأن قنال السويس لم يفتح إلا ليؤذن بضياع مصر وعظمة اليابان. فقد كان عام 1869 خاتمة الحياة الكبيرة في مصر ومبدأها في بلاد الميكادو. (9).

         ثم يركز كثيرا على الدور الأساسي الذي لعبته القيادة السياسية في كلا البلدين. فمواقف تلك القيادة دفعت اليابان على طريق العمران، والازدهار، والقوة، والمنعة، ودفعت مصر باتجاه الأزمات، والخراب الاقتصادي، والتبعية وصولا إلى تسهيل فرض الاحتلال الأجنبي.

         لو بحثنا بحث إنصاف واعتدال في الأسباب التي قضت علينا لوجدناها في استعمال الحكام والأمراء للسلطة المطلقة، استعمال جنون واستبداد، واستخدامها لأهوائهم النفسانية ومطامعهم الشخصية وإماتتهم الشهامة في الأمة، وقتلهم لكل إرادة فيها.... فالسلطة المطلقة إذا ضلت تخرب في يوم واحد ما يعمر في قرون. وبالعكس، إذا وجهت للخير تبني في يوم ما لا تبنيه حكومات الدستور في سنين وأعوام. وكما أنها في الحالة الأولى أضاعت مصر وجرت عليها الويل فإنها نهضت باليابان في الحالة الثانية نهضة لم ير التاريخ لها مثيلا ولم تسمع الأمم بما يحاكيها من قبل. فقد وفق الله لهذه الأمة السعيدة ( اليابان) رجلا لم يعتبر حق الملك والسيادة قوة سحق وإبادة. بل نظر إليه نظرة صائبة وعرف أنه يجب أن يكون مصدر الخير والسعادة. وأن أمة كاملة وضعت ثقتها فيه، وأجمعت على محبته، والخضوع لإشارته، والامتثال لإرادته لجديرة بأن تنال منه النفع العميم والخير الوفير، والإصلاح المستمر، والحرية المنعشة للقلوب، المنمية للقوى، والدستور الذي يكفل للأمة بقاء هذه الحرية(10).

         لذلك تحمس الشعب المصري، ومعه كثير من الشعوب العربية والإسلامية، لانتصار اليابان على روسيا القيصرية التي كانت تعتدي على السلطنة العثمانية، وتشجع ولاياتها على الانفصال عنها. فهناك نزوع إيجابي يظهر بصورة طبيعية لدى شعوب الشرق المسحوقة عند رؤيتها لقوة آسيوية صاعدة في أية بقعة من بقاع الشرق. فهي تتوق إلى >إيقاف الغرب عند حده مما يسر كل شرقي أصابه شيء من طوفان أوروبا....

         ويضيف: (إن انتصار اليابان يحدث انقلابا عاما في الشرق الأقصى ويبعث في الأمم الصفراء روحا جديدة، ويجمع أمرها، ويوحد كلمتها ويوجهها إلى طريق الجد والعمل... إننا نبتهج لتحقيق هذه القضية لأن تقدم تلك الشعوب ينعش قلوب الأمم الإسلامية ويجدد للإسلام حياة كبرى في الشرق الأقصى. فالمنتصرون لليابان ينتصرون للحق والعدل والتقدم والوطنية. ويثبتون ارتقاء شعورهم بميلهم للدولة الشرقية التي ألقت على العالمين أفضل دروس الجد والاجتهاد والعمل والاتحاد)(11). ثم ينهي كتابه بالقول: لا يسع القاريء بعد الوقوف على عظمة هذه الأمة اليابانية إلا أن يقول إن أمة متحدة الكلمة، مجتمعة الأمر، ملتفة حول عرش إمبراطورها، متفقة الشعور نحو وطنها، متضامنة متآلفة لنصرة رايتها الشمسية، مالكة لإرادتها، لا تخيب أبدا في مطالبها، ولا تظلم أو تضطهد ولو اجتمعت دول الأرض عليها وأحاطت بها من كل جانب (12).

         غاية الكتاب إذن سياسية، ثقافية، وطنية، وذات أبعاد دينية ومستقبلية معادية للاستعمار الأوروبي.

         فمصطفى كامل يريد توظيف الانتصار الياباني، لخدمة الشعوب الشرقية كلها لأنها كانت تعاني من ويلات الاحتلال، والسيطرة الأوروبية المباشرة. ونظرا لبعد اليابان الشاسع عن بلاد العرب، وتحكم وسائل الإعلام الغربية بمصادر الأخبار حول ما كان يجري في منطقة جنوب وشرق آسيا، شكل كتاب(الشمس المشرقة) مدرسة تعلم فيها عدد كبير من المثقفين العرب عن أسباب نهضة اليابان من جهة، وأسباب تخلف العرب من جهة أخرى.

         ورغم ما فيه من ثغرات كبيرة، يعتبر بحق أفضل ما كتب عن اليابان بعيون عربية طوال عقود عدة بقي خلالها المرجع العربي شبه الوحيد عن نهضة اليابان إلى حين ظهور الكتابات العربية العلمية عن اليابان.

... ويابان (الشمس الغاربة)

         في حدود هذه المقالة، تصعب الإحاطة الكاملة بكل ما كتبه الباحثون العرب عن اليابان طوال القرن العشرين. لكن ما نود التأكيد عليه في هذا المجال أن أصداء صورة اليابان التي رسمها مصطفى كامل في(الشمس المشرقة)، وأشعار حافظ إبراهيم عن اليابان، بقيت تتردد في كثير من الأعمال الإنطباعية أو الصحفية في العالم العربي. ومع سقوط اليابان تحت الاحتلال الأمريكي في نهاية الحرب العالمية الثانية وتحويلها إلى بلد منزوع السلاح، وإلى شبه محمية سياسية وعسكرية تحت المظلة الأمريكية، اهتزت صورة اليابان الجميلة في عيون العرب في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد كان الرأي العام العربي مشبعا بالدعوات القومية إلى الكفاح المسلح، وحرب التحرير الشعبية، ويحكمه قادة عسكريون تسلموا السلطة عبر انقلابات عسكرية وانقلابات مضادة. وكان التبادل الثقافي بين العرب واليابانيين هشا للغاية،، إذ اكتفى الجانبان بمقولة نفعية تجارية تقوم على قاعدة (النفط العربي مقابل التكنولوجيا اليابانية).

         إلا أن حرب 1973 وما رافقها من حظر للنفط العربي ضد اليابان أحدثت هزة عنيفة لدى الجانب الياباني. فقد ألحق الحظر خسائر كبيرة باقتصاد اليابان الذي كان يعتمد بشكل أساسي على نفط العرب. وبدأت مرحلة جديدة تميزت بانفتاح اليابان على العالم العربي.

         ووجهت دعوات كثيرة لرجال السياسة، والفكر، والإعلام العرب لزيارتها. وعقد الجانبان مؤتمرين ثقافيين في 1978 و1979، ثم ثلاثة مؤتمرات كبيرة ما بين 1990 -1992، ومؤتمرات شبه منظمة في الأعوام القليلة الماضية. فبدأت ملامح صورة اليابان على حقيقتها تنتشر بين العرب من خلال ما رسمته أقلام صحافيين، وأدباء، وشعراء من العرب زاروا اليابان لأيام محدودة وعاد معظمهم مبهورا بجمال طبيعتها، وتقدمها العلمي والتقني السريع. لا يتسع المجال هنا لذكر الكم الهائل من تلك الدراسات الانطباعية ذات الطابع الصحفي التي تحفل بها سنويا وسائل الإعلام العربية، المرئية منها والمسموعة والمكتوبة. فهي أكثر من أن تحصى، وتعكس ما شاهدته عين الزائر العربي في بلاد (الشمس المشرقة).

         فهي بلاد رائعة الجمال، وتأسر الضيف العربي بكرم الضيافة، والبرامج الحافلة. فكان أن طور بعض الباحثين العرب مقولة (الشمس المشرقة) إلى (الشمس الساطعة)(13).

         لكننا سنركز فقط على الجانب الثقافي، بشكليه الأكاديمي والأدبي، لرسم صورة اليابان كما تبدت في عيون بعض الباحثين والأدباء العرب الذين أتيحت لهم الفرصة لمعرفة اليابان عن كثب، والإطلاع المعمق على وثائق تجربتيها في التحديث، ومناقشة بعض مفكريها.

         لعل أولى الدراسات الني حاولت الخروج من دائرة الانبهار إلى التحليل العلمي المعمق هي المقالة المكثفة جدا والبالغة الأهمية التي نشرها المؤرخ العربي المعروف شارل عيساوي، وتناول فيها تجربة التحديث اليابانية بدقة وشمولية. وقد نشرت أولا بالإنكليزية عام 1983، ثم بالعربية ضمن كتاب (تأملات في التاريخ العربي)، وما زالت تعتبر من أفضل ما قدمه الباحثون العرب في هذا المجال. فهي تظهر صورة اليابان وتجربة التحديث فيها على حقيقتها، كحركة جماعية تضافرت فيها جميع عناصر النجاح خلال فترة زمنية قصيرة. وبما أن عناصر النجاح متوفرة على أرض الواقع لدى كثير من دول العالم النامية، ومنها دول عربية، رأى عيساوي أن بإمكان العرب الاستفادة من دروس تلك التجربة المستمرة حتى الآن، لإطلاق نهضة عربية حديثة خلال فترة زمنية اقل بكثير من الفترة التي استغرقتها التجربة اليابانية.

         فللعرب طاقات بشرية على درجة عالية من الكفاءة، ولديهم موارد طبيعية ومالية هائلة لم تتوفر لليابانيين مثلها عند إطلاق نهضتيهم الأولى والثانية. (14) بالمقابل، انتقد بعض المثقفين العرب تجربة اليابان بشدة، ولم يعترفوا بخصوصيتها بل وجدوا فيها مجرد تقليد سطحي لتجارب التحديث السائدة في الغرب الأوروبي والأمريكي. لذا تبدو صورة اليابان لدى هذه الفئة من الباحثين العرب مشوشة، ولا نفع منها خارج اليابان لأنها أنشئت خصيصا لاستنهاض اليابانيين فقط ولا تصلح لإستنهاض غيرهم. بعبارة أخرى، تنطلق رؤية هذه الفئة من المثقفين العرب من موقف مسبق يعتبر اليابان بلدا مقلدا لتجارب الآخرين، ولا تقدم مقولات التحديث اليابانية أي جديد تستفيد منه الشعوب الأخرى، وبشكل خاص الشعوب العربية والإسلامية. ونظرا لكثرة هذا النوع من الدراسات العربية التي تتلاقى عمليا مع ما ينشره باحثون غربيون من مقولات نقدية غير منصفة عن اليابان، كان لا بد من اختيار نماذج معبرة منها تظهر صورة سلبية لتجربة التحديث في اليابان، وتركز على تعاسة إنسانها، وتدعو العرب إلى عدم الاستفادة من دروسها.

         1 - زار الباحث المصري رؤوف عباس حامد اليابان مرات عدة كأستاذ زائر للتدريس في جامعاتها. واطلع على وثائق نهضتها من مصادرها الأساسية مترجمة إلى الإنكليزية، وأقام حوارات مطولة مع باحثين يابانيين حول مشكلات التحديث في اليابان.

         وقد أصدر كتابه الأول بالعربية عام 1980 في القاهرة تحت عنوان: (المجتمع الياباني في عصر مايجي). وعزا أسباب نهضة اليابان إلى عوامل موضوعية أبرزها إرتباط الأزمة الداخلية التي مر بها المجتمع الإقطاعي بالضغط الغربي على اليابان. ذلك الضغط الذي شكل تحديا خطيرا لم يكن المجتمع الإقطاعي في وضع يسمح له بمواجهته، فكان لا بد من إدخال تغييرات على البناء الأساسي لذلك المجتمع حتى يستطيع مواجهة التحدي الغربي (15).

         وتوصل إلى بعض الإستنتاجات منها، أن اليابانيين إستفادوا من علوم الغرب وثقافته في صياغة سياسة كانت تهدف إلى بناء دولة حديثة على درجة من القوة تمكنها من الوقوف مع الغرب على قدم المساواة. وكان عصر مايجي تعبيرا عن الطريق الذي إختارته اليابان بفضل قيادتها السياسية التي إنتهجت سبيل الإصلاح ونجحت في تطبيقه، وإتخذته أداة لمواجهة التحدي الغربي. لذلك كانت تجربة فريدة، لم تجذب أنظار الباحثين فحسب، بل كانت موضع جدل دار بينهم حول تحديد المجتمع الياباني في ذلك العصر (16).

         ثم إستعرض آراء بعض المؤرخين اليابانيين في إصلاحات الإمبراطور مايجي، ومنها أن المجتمع الياباني إنطوى على آفات أربع: الإمبراطور، والبيروقراطية، والطبقة الطفيلية من ملاك الأراضي، والبورجوازية الإحتكارية. وقد توصل إلى الإستناج التالي: لقد خلقت استجابة اليابان للضغوط العدوانية الغربية مجتمعا جديدا. لذلك استطاعت اليابان أن تتعامل مع الدول الغربية على قدم المساواة. ولعل من المنطقي أن نتساءل: كيف إستطاعت اليابان أن تعيد بناءها القومي في جيل واحد؟ لعل العوامل الجغرافية من موقع ومساحة، كانت خير عون لليابان على إنتهاج هذا السبيل. فهي أصغر مساحة من الصين، وتتمتع بسواحل طويلة جعلت الشعب الياباني يرى الخطر الغربي القادم من أعالي البحار، رأي العين، ويحس به إحساسا يفوق إحساس الشعب الصيني بالخطر. وبذلك كان من السهل حشد الجماهير اليابانية وراء الحركة السياسية التي دقت ناقوس الخطر. على حين كانت الصين متسعة الأرجاء، لا تتباين فيها طبيعة السطح فحسب بل يتباين فيها السكان: لغاتهم، وبنيتهم الاجتماعية، والمحاصيل التي ينتجونها. مما خلق عوائق كبيرة في طريق اي محاولة لفرض نظام إداري واقتصادي واحد على النطاق القومي. وهي ظروف تتشابه مع ظروف الصين، والدولة العثمانية... لذلك لم تحاول الصين أن تعيد تنظيم نفسهاكأمة فيمواجهة التحدي الغربي، على حين نجحت اليابان في تحقيق ذلك. (17).

         ثم ينهي كتابه بتساؤل مهم: إلى أي مدى يمكن أن تفيد بلاد العالم الثالث بتجربة التحديث التي شهدتها اليابان في عصر مايجي وهل يمكن أن تتكرر هذه التجربة في مجتمعات شرقية أخرى؟.

         فانتهز المناسبة للرد على بعض الكتاب الذين يرون إمكان استفادة بلاد العالم الثالث من تجربة التحديث اليابانية ليقف من هذه المقولة موقفا سلبيا قاطعا:لا نميل إلى مشاركة أولئك الكتاب الرأي. فقد اتخذت التجربة اليابانية مسارا فريدا يجعلها نموذجا لايمكن أن يتكرر تكرارا نمطيا لعوامل عدة، منها: تمكن اليابان من تطوير السوق الوطنية الخاصة بها بالقدر الذي جعل النمو الإقتصادي الحديث ممكنا، ويسر سبل الإنتقال إلى الراسمالية. في حين كانت بلاد العالم الثالث مستعمرة أو شبه مستعمرة. وأهم عوامل تميز تجربة التحديث اليابانية في عصر مايجي عن ظروف العالم الثالث أن اليابان استطاعت أن تتحول إلى قوة إمبريالية، ومن ثم استطاعت أن تحقق نموا إقتصاديا سريعا بفضل ما نهبته من ثروات البلاد الآسيوية التي وقعت تحت نيرها، وخاصة كوريا والصين. وبذلك كانت اليابان تعتمد في نموها على موارد الشعوب التي قهرتها.

         اما بلاد العالم الثالث فكانت عرضة للنهب الإمبريالي، وكان تخلفها نتيجة طبيعية لما تعرضت له من استنزاف إقتصادي. ومن هنا لا تعد تجربة التحديث في اليابان نموذجا تفيد به شعوب العالم الثالث، وتتخذ منه مثلا يحتذى به. (18)

         ثم أعد بحثا باللغة الإنكليزية، نشر في معهد دراسة لغات وثقافات آسيا وأفريقيا في جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية عام 1990. وقد صدرت طبعته العربية عن دار ميريت بالقاهرة عام 2001، تحت عنوان: (التنوير بين مصر واليابان): دراسة مقارنة في فكر رفاعة الطهطاوي وفوكوزاوا يوكيتشي، تناول فيه مصادر الثقافة والمقولات الفكرية لهذين المصلحين. (19).

         2 - في كتابه الصادر عام 2000 تحت عنوان (العرب والتجربة الآسيوية): الدروس المستفادة، عالج محمود عبد الفضيل تجارب اليابان، والصين الشعبية، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، وتايلاند، وسنغافورة، عبر صفحات قليلة الحجم، ومحدودة التوثيق، بعد أن استعاض عنه بمقابلات شخصية. مع ذلك، أصر الباحث على إطلاق استنتاجات شمولية، وتنظيرات طوباوية منها تشبيه تجربة التحديث في اليابان بطريقة (الإوز الطائر)الذي يقود سربا بكامله، فإذا ما أضل طريقه ضل الباقون طريقهم. وإنطلاقا من فصل تعسفي بين تجربتي التحديث الأولى والثانية في اليابان توصل الباحث إلى الإستنتاج التالي: إن نهضة اليابان ذاتها كانت جزئيا نتاج الحرب الباردة.

         فقد بدأت المساعدات تنهال على الابان بشكل كبير وسخي بدءا من عام 1950. وبدأ الإهتمام بتطوير اليابان لتصبح القوة الأساسية المنافسة للصين الشعبية....

         وأضاف: إن نهضة النمور الأربعة القدامي كان من صنع الشركات دولية النشاط، من خلال بناء منصات تصدير في تلك البلدان.... وقد تحولت تلك النمور إلى منصات تصدير لشركات دولية، تحصل من خلالها على الخامات والمكونات الأساسية، والتقانة اللازمة، كما تضمن لها تلك الشركات تسويق منتجاتها في الأسواق الدولية.(20).

         ومع أن تجربة التحديث اليابانية قد شكلت نموذجا يحتذى لجميع النمور ولدول آسيوية أخرى، وذلك بإعتراف باحثين من تلك الدول بالذات، فقد أخرج عبد الفضيل اليابان نهائيا من دائرة الدول التي يمكن للعرب أن يستفيدوا من تجربتها. إذا كنا جادين في فهم آليات ومحركات النهضة على الطريقة الآسيوية، وفي ظروف تاريخية مغايرة، علينا أن ندرس بعناية - نحن العرب - تجارب بلدان مثل: ماليزيا، والصين، والهند، وكوريا الجنوبية، فهي تجارب حقيقية وجادة في التنمية، ولم تكن محض نتاج الحرب الباردة .(21)

         لكن بعض قادة الدول الآسيوية لديهم آراء معاكسة تماما حول اليابان. يكفي التذكير هنا بكلام مهاتير محمد، رائد حركة التحديث في ماليزيا التي تناولها عبد الفضيل في كتابه. فقد كتب مهاتير تحت عنوان: (اليابان معلما) ما يلي: من الحكمة أن نتعلم من الناجحين. في الماضي كنا ننظر إلى الغرب لأنه كان ناجحا أكثر من الشرق. بعد الحرب العالمية الثانية رأينا معجزة النجاح الياباني ووصلنا إلى أن اليابان تملك المعادلة للتنمية السريعة. لقد جعل نهوض اليابان السريع الغرب ينتقد التجربة اليابانية التي تعتمد على المشاركة بين القطاع العام والقطاع الخاص (اليابان المتحدة). في رأينا هذه الفكرة جيدة، وعليه، فقد جئنا بمفهوم مماثل: (ماليزيا المتحدة). إن الخطط والتنظيم والمناهج الإدارية للشركات اليابانية مثال يستحق أن يحتذى (22).

         ثم يضيف في مكان آخر مقولة بالغة الأهمية موجهة إلى مثقفي الغرب لكنها تصلح لمخاطبة مثقفي العرب أيضا. إن النقطة المهمة التي تشكل تحديا بالنسبة إلينا هي أن نساعد الغرب حتى يفهم أنه يجب عليه التعلم من نجاح اليابان بدلا من التفكير في مخططات طائشة للتقليل من شأن ذلك النجاح(23).

         من جانبه، وبعد أن أمضى الباحث الباكستاني، نجم الثاقب خان، سنوات طويلة سفيرا لبلاده في اليابان، أفرد فصلا كاملا في كتابه دروس مستفادة من اليابان للشرق الأوسط، حول تجربة اليابان الغنية في التحديث، وتكثيف لكثير من مقولاتها بدقة علمية، وملاحظات نقدية. (24).

         3 - في كتابه: (مفاكهة الخلان في رحلة اليابان) الصادر عن دار الشروق بالقاهرة عام 2001، قدم يوسف القعيد صورة حية عن تلك البلاد كما التقطتها عين أديب مرهف في الفترة ما بين 10 - 42 نوفمبر 1993. فوصف جمالات الطبيعة الساحرة في اليابان، وأجرى حوارات عدة مع باحثين وأدباء يابانيين كانت مفيدة لتوضيح صورة اليابان الثقافية أمام العرب.

         لم يقدم الكتاب وصفا محايدا لليابان، ولا صورة لمندهش بكل ما يرى أمام ناظريه. ولم ينبر للدفاع عن تلك البلاد بل حاول أن يختبر مدى مطابقة الصورة الزاهية التي رسمها بنفسه عن تلك البلاد من خلال مطالعاته السابقة مع ما شاهد بنفسه على أرض الواقع. ولم تنس ذاكرته، ولو للحظة واحدة، إجراء المقارنة بين مصر واليابان، كما فعل مصطفى كامل في (الشمس المشرقة)، مع الانتباه إلى معاناة الإنسان في كل من اليابان ومصر. فكيف تجلت صورة اليابان في عيني الأديب يوسف القعيد كما شاهدها عام 1993؟ ولماذا تولدت لديه صدمة ثقافية أوصلته إلى مقارنة مهمة بوجود نقص في التحديث قاد إلى تعاسة الإنسان في مصر واليابان معا. ومع فشل التحديث السليم عاد المصري إلى الاحتماء بما بقي لديه من موروث ريفي تقليدي مع ما فيه من سلبيات. ورغم التحديث السريع الذي أوصل المجتمع الياباني إلى مرحلة ما بعد الحداثة بقي الإنسان الياباني على قدر كبير من الحزن المقيم.

         تجدر الإشارة هنا بشكل خاص إلى الفصل التاسع والعشرين الذي حمل عنوانا مثيرا (مصر التي تمشي وراء اليابان). وقد ضمنه القعيد آراء الباحث الياباني (نوتاهارا)، وهو من أكثر اليابانيين معرفة بلغة العرب، وتراثهم الروائي بعد أن ترجم الكثير منه إلى اليابانية. يتمتع نوتاهارا بمزاج خاص ومتقلب. فقد أعجب أولا بسكان المدن من العرب. ثم تحول إلى سكان القرى والأرياف، ثم إلى سكان البادية. وكان دوما مغاليا في مواقفه لدرجة الميل الشديد إلى حياة سكان الأرياف في مواجهة سكان المدن، ومن ثم إلى حياة سكان الصحراء في مواجهة سكان المدن والأرياف معا. ولديه مقولات متطرفة أحيانا حول رؤية التراث العربي الأصيل من خلال قيم البداوة والصحراء والأرياف. وقد نقل عنه القعيد قوله: إن مصير مصر هو مصير الفلاحين فيها، وهو مصيرنا نحن أيضا في اليابان. عند الفلاحين قدرة مالية هائلة. لذلك يتوجهون إلى التكنولوجيا خاصة التي ترتبط بعمليات إنتاجية ولها عائد من الربح. وهذا في نظري يؤدي إلى إنهيار للقيم ولنظام الحياة اليومي السابق. ومن المستحيل علينا هنا في اليابان العودة إلى ما كنا عليه من قبل. لذلك أنا متشائم من تطور الحياة والأمور في اليابان، ونفس التشاؤم اشعر به وربما أكثرعند النظر إلى تطور الحياة عندكم في مصر، فالتشابهات كثيرة بيننا... والمشكلة أن مصر تمشي وراء اليابان دون أن تحاول معرفة إلى أين وصلنا. أنتم في الطريق ورءانا (25 ).

         هكذا إنعكست نظرة نوتاهارا التشاؤمية عبر عيون عربية كانت على استعداد مسبق لتوصيف حجم الحزن، والكآبة، والتعاسة لدى المواطن الياباني رغم التقدم التكنولوجي الهائل الذي ناله.

         لكن المجتمع الياباني متنوع، لا بل شديد التنوع، ويمتلك طبقة وسطى عريضة تتجاوز 90% من سكان اليابان. وبالتالي، من الصعب تقديم صورة واحدة وموحدة عن شخصية الياباني. وهذا ما أشار إليه القعيد بدقة متناهية قبيل لقائه مع صديقه المستعرب نوتاهارا. فوصف الإنسان الياباني بقوله: إن الياباني انطوائي أو كئيب مثل شخصيات كواباتا، ولكن هناك أيضا عناصر التفاؤل الموجودة في شخصية الياباني عموما. (26). ثم وصفه بعد اللقاء بقوله:في هذه البلاد كمية من البؤس الإنساني من الصعب وصفها. ويبدو أن كاواباتا وميشيما كانا على حق في الإنتحار وإنهاء الحياة بكل هذه القسوة، مادام في هذه البلاد كل هذا الحزن المخيف (27).

         وقد بلغ هذا الوصف أقصى مداه في الفصل الأخير طوكيو: وداع مؤلم وحزين... فوصف لحظات الوداع بشكل كئيب للغاية: الكمبيوتر هو سيد هذه البلاد. دخل في كل المجالات وعشش فيها. لا أتصور مصير استخدامات الذهن البشري بالنسبة لهؤلاء الناس، لا أحد يعتمد على ذهنه في هذه البلاد. بعد فترة من الوقت سيكون الكمبيوتر هو المتحكم الوحيد في مصير هذه الجزر التي اسمها اليابان. وداع مؤلم وحزين لطوكيو. الوداع لكل ما مثلته هذه البلاد من فرح وألم وحسرات. الفرح إزاء هذه التجربة النادرة في قرننا العشرين، تجربة نهوض كانت كل العوامل تقف ضدها: الطبيعة والبيئة وعدم توافر المواد الخام في الصناعة، وبعد الأسواق عنها، وابتعادها عن مراكز الانتاج والاستهلاك. الجرح الغائر والنهضة الكبرى في قرن واحد: المصانع الهائلة ومتحف هيروشيما في قرن واحد، من كان يصدق؟. والألم بسبب كل هذا البؤس الذي يعاني منه الإنسان في هذه البلاد. إن هدير المصانع، وصوت عد النقود في البنوك، والرنين العالمي للين، والتناطح رأسا برأس مع أمريكا على الجلوس فوق سقف الكون. مع كل هذا كم يبدو الإنسان في هذه البلاد تعيسا، حزينا، متعباأما الحسرات فهي ناتجة عن المقارنة الدائمة بين حالنا وحالتهم. نحن تعساء وحزانى ومتألمون ولكن بدون إنتاج يجفف لنا الدموع، لا إنجاز لدينا. نحن جيل لم ير قضية واحدة من قضايانا تحسم وتصل إلى حلها النهائي. ومما يدفع الأمر إلى شكل حد السكين أننا في مصر بدأنا مع اليابان التي انطلقت بسرعة الصاروخ بينما تعثرنا نحن. فلم اختلفت النتائج؟ لم تقدموا هم وتخلفنا نحن أو على الأقل، لم اندفعوا إلى الأمام وظللنا نحن ( محلك سر!) (28).

         يبرز الكتاب هاجس القعيد في البحث عن راحة الإنسان أولا في كل من اليابان ومصر. فسعادة الإنسان هي مادة الأديب، وغيابها هو مصدر قلق دائم له في كل ايرى، ويكتب، ويحلل. وقد زادته الرحلة، على قصر عدد أيامها، قناعة بأن اليابان التي شاهدها مرارا في مخيلته قبل أن رآها بعينيه هي بلاد في غاية الجمال الطبيعي الأخاذ، والتنظيم الدقيق، والتطور التكنولوجي، إلا أن الإنسان فيها كئيب حتى التعاسة.

         هكذا تبدو صورة اليابان لدى هذه الفئة من الباحثين العرب جميلة من الخارج، مشوشة لا بل كئيبة من الداخل نظرا للإنعكاسات السلبية للمجتمع التكنولوجي المتطور جدا على الإنسان الياباني. وتوصل بعضهم إلى قناعة راسخة بأن شمس اليابان متجهة بسرعة نحو الغروب أو الأفول، ومعها شموس النمور الآسيوية كلها، لأنها لم تكن سوى (محطات إرتكاز لشركات غربية)، وليست نموذجا يحتذى للعرب. ومع أن دول النمور الآسيوية استفادت كثيرا من إيجابيات حركة التحديث في اليابان، ما زال الباحثون العرب يتجاهلونها بصورة شبه تامة، ويرفضون الاستفادة منها بذريعة أنها من صنع غربي. وقد نشر بعضهم إستنتاجات منفرة وغير منصفة تقول بأن تجربة اليابان خاصة بشعب اليابان، ولا نفع منها خارج حدودها. وقد بنيت تلك المقولة على فهم طبقي متسرع لتجربة التحديث الأولى في اليابان، مع إسقاط شبه تام للثانية وكأنها لم تحصل. وفي الحالتين، تمسك العرب بمقولات التحديث المستقاة من الغرب الذي أعاق ولادة مشروع نهضوي عربي جديد طوال القرن العشرين.

ملاحظات ختامية: اليابان: (شمس مشرقة) أم (شمس غاربة)؟

         شدد كثير من الباحثين اليابانيين على ضرورة إقامة التمايز العلمي والمنهجي الدقيق بين نوعين من حركة التحديث في اليابان لم يتنبه معظم الباحثين العرب إلى مخاطر الدمج بينهما حتى الآن. الأولى (تحديث في خدمة الجيش)، وقد بنيت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وإنتهت بسقوط اليابان تحت الإحتلال الأمريكي عام 1945. والثانية (تحديث في خدمة المجتمع)، وبنيت في النصف الثاني من القرن العشرين وما زالت مستمرة حتى الآن في ظل دستور اليابان السلمي، ودولة يابانية منزوعة السلاح وتمتلك فقط سلحة للدفاع عن النفس. ولم يبذل الباحثون العرب جهودا تذكر لذلك النقد العلمي المنهجي الذي وجهه كثير من الباحثين اليابانيين لمقولة التحديث في خدمة الجيش. فاستمر بعضهم يظهر إعجابه الشديد بنهضة اليابان الأولى، ويتجاهل عمدا دروس نهضتها الثانية، وهي الأهم. والسبب في ذلك أن العرب كانوا وما زالوا بحاجة إلى مقولات تمجد القوة العسكرية الكبيرة لمواجهة الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وزادت حاجتهم مؤخرا إلى تلك المقولات بعد بروز مخاطر النزعة الإمبراطورية الأمريكية في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001، والتي قادت إلى احتلال أفغانستان والعراق، وتهدد الآن بتغيير عدد من الأنظمة العربية، بالقوة العسكرية. لذا لم ير بعض الباحثين العرب فائدة تذكر في تبني مقولات ثقافية تبرر خضوع العرب للأمريكيين على أمل بناء تجربة تحديث عربية ناجحة على غرار ما فعلت ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.

         وبالغ بعضهم في رؤية اليابان (بعيون غربية) وليس بعيون عربية منصفة أو محايدة. فنشروا دراسات مطولة تظهر أن نهضة اليابان كانت من صنع أمريكي، وأن النمور الآسيوية ليست سوى نمور مروضة وجريحة في القفص الأميريكي. ونصحوا بعدم الإستفادة من تجاربها لأنها لا تقدم لهم الدروس المفيدة لإستنهاض أمة عربية تشهد عودة الإستعمار المباشر إلى أراضيها.

         نتيجة لذلك، ما زالت العلاقات الثقافية بين العرب واليابانيين غير متكافئة في جميع المجالات، وهي هشة للغاية رغم ضخامة حجم التبادل التجاري الكثيف بينهما.

         فقد تجاوز عدد الباحثين اليابانيين المهتمين بتفاصيل القضايا العربية المائة باحث، منتشرين في مختلف جامعات ومعاهد اليابان. وفي عام 2003، نشر الباحث الياباني (نوتاهارا) أول كتاب أعده باحث ياباني باللغة العربية، وصدر بعنوان:

العرب: وجهة نظر يابانية (29)

         بالمقابل، فان عدد الباحثين العرب الذين أتقنوا لغة اليابان، ودرسوا نهضتها بالإستناد الى وثائقها الاصلية، ما زال ضئيلا جدا. فقد استمر غالبية المثقفين العرب يرددون مقولات نظرية لباحثين أمريكيين وأوروبيين، غالبا ما تسيء إلى حركة التحديث في اليابان. فمنها مقولات غير منصفة على الإطلاق، ومنحازة سلفا ضد النهضة اليابانية، وتحاول التقليل من اهميتها كنموذج يحتذى خارج اطار نموذج التحديث الغربي المسيطر عالميا. لكن بعض الدراسات التي نشرها مؤخرا باحثون عرب عن اليابان ساهمت في توضيح حقيقة نهضتها بصورة منصفة، عبر (عيون عربية) وليس غربية (30). وبالإضافة إلى الإنطباعات والمشاهدات العيانية، بدأ مثقفون عرب ينشرون مقالات علمية جادة ومستندة إلى وثائق يابانية.

         وأكد بعضهم على ان نجاح حركة التحديث في اليابان لم يكن نتاج وفرة الموارد الطبيعية التي تشكو نقصا حادا منها، بل أسسوا نهضتهم على تنمية المواهب البشرية تنمية عقلانية وشاملة ومتطورة باستمرار.

         تبقى مسألة منهجية أساسية تعيق رؤية العرب لليابان بعيون عربية منصفة. فالباحثون اليابانيون ينتقدون بشدة مقولات التحديث التي تمجد القوة العسكرية لأنهم خبروا سلبياتها الكبيرة بعد القنابل الذرية الأمريكية التي ألقيت على رؤوس اليابانيين. ومع أن دستور اليابان السلمي وضع في السنوات الأولى للإحتلال الأمريكي، تمسك اليابانيون به، ويرفضون العودة إلى مقولات (التحديث في خدمة الجيش) بعد أن خبروا الإيجابيات الكبيرة لمقولات التحديث في خدمة المجتمع، والرفاه الإقتصادي، والتطور العلمي والتكنولوجي الهائل. بالمقابل، بقي غالبية الباحثين العرب أسرى نظرة وحيدة الجانب إلى اليابان زمن إصلاحات الإمبراطور مايجي. فهم يظهرون إعجابهم بمقولات(فلسفة القوة) التي حولت اليابان إلى دولة مرهوبة الجانب خلال فترة قصيرة.

         نخلص إلى القول إن رؤية اليابان بعيون عربية تتطلب، وبالدرجة الأولى، قراءة نقدية لمقولات تلك النهضة بهدف الإستفادة من جميع تجارب التحديث في العالم وعدم التركيز على واحدة منها وإغفال التجارب الأخرى. ومن أبرز الدروس المستفادة التركيز على دور الإنسان الحر، والمبدع، وعلى كيفية بناء دولة ديموقراطية على أسس سليمة، والتأسيس لمجتمع الرفاه الإقتصادي والتكنولوجيا المتطورة، والطبقة الوسطى المستقرة، والإدخار المرتفع، وحماية البيئة، وخفض نسب الجريمة، والمخدرات، والأمراض الوبائية وغيرها.

         نلفت الإنتباه هنا إلى أن قادة النمور الآسيوية نظروا بعيون آسيوية لتجربة تحديث اليابان دون أن يقلدوها. وقد إستندوا إلى العوامل الإيجابية في تراثهم الثقافي والسياسي والإجتماعي والإقتصادي، وطوروها، وقدموا لدولهم نماذج إضافية ناجحة ذات طابع آسيوي، بعيدة عن تقليد مقولات التحديث التي عممتها تجارب المركزية الأوروبية والأمريكية واليابانية في آن واحد.

         أخيرا، رأى شارل عيساوي أن بإمكان العرب اللحاق بقطار التحديث في أي وقت يحزمون فيه أمرهم على القيام بتجارب تحديث ناجحة، وبمقولات عربية غير مقتبسة عن الآخرين.

         وفي حال توفرت القيادة السياسية الحكيمة والمتنورة فإن بإمكان العرب تحقيق نهضتهم خلال فترة زمنية قصيرة لأن لديهم إمكانيات بشرية ومادية هائلة لبناء تجارب تحديث ناجحة.

         إلا أن العرب ما زالوا يفتقدون إلى مشروع نظري لتجديد نهضتهم ومواجهة تحديات عصر العولمة. ومن نافل القول إن أي مشروع نهضوي جديد بحاجة ماسة إلى دراسة تجارب التحديث الناجحة في العالم، غربا وشرقا. ومن الخطأ الفادح أن تكون الدراسة بهاجس تقليد تلك التجارب أو الإقتباس السهل لمقولاتها كما جرى في السابق، بل لإستخلاص الدروس والعبر منها (بعيون عربية)، وبناء مشروع نهضوي عربي بمقولات عربية، وبقوى عربية.

         وذلك يتطلب تعميق الحوار الثقافي بين العرب وجميع شعوب العالم، خاصة الآسيوية منها التي لم تشوه تاريخ العرب بالقمع، والإضطهاد، والإستعمار، والسيطرة على مواردهم، وتشويه تراثهم الثقافي والحضاري كما فعلت بعض الدول الغربية. كما أن العرب بحاجة ماسة إلى مؤسسات ثقافية قادرة على فتح حوار ثقافي مع الشعوب الأخرى، من موقع الندية، وتجاوز الإقتباس السهل والمقولات الجاهزة، والعمل على رؤية الآخر بعيون عربية ناقدة ومنصفة.

         ختاما، ليست الصورة المتبادلة حتى الآن بين العرب واليابانيين حقيقية أو منصفة لكلا الجانبين. فهي، في الغالب، لم تكن بعيون عربية ولا بعيون يابانية، بل نتاج وسائل إعلام غربية تضخ يوميا صورة نمطية مشوهة ومشوشة لدى الطرفين. لذا فالإرتقاء بالحوار المباشر بين مثقفي البلدين يساعد على تطوير العلاقات الثقافية بينهما في المستقبل. مع الأخذ بعين الإعتبار أن صورة اليابان لدى العرب، وصورة العرب لدى اليابانيين، ما زالت سلبية في الغالب الأعم، وما زال الجانبان ينظران إلى بعضهما في مرآة غربية مشوشة.

         إلا أن تطور الدراسات العلمية المتبادلة بين الجانبين في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، قد ساهم بشكل ملحوظ في تقديم صورة أفضل من السابق، لأنها التقطت (بعيون عربية ويابانية). ووصل الحوار الثقافي بينهما إلى مرحلة متقدمة، وهو يبشر بتقديم صورة موضوعية عن موقع كل من العرب واليابانيين في عصر العولمة، والتخطيط لمستقبل أفضل للعلاقات الثقافية بينهما، ومواجهة المتغيرات الدولية في مطلع القرن الحادي والعشرين. إن رؤية اليابان بعيون عربية تفترض بالضرورة تجاوز المقولة النفعية (النفط العربي مقابل التكنولوجيا اليابانية)، التي حكمت العلاقات العربية - اليابانية طوال النصف الثاني من القرن العشرين، إلى حوار ثقافي حقيقي، ومن موقع الندية، في القرن الحادي والعشرين.

مراجع البحث

1 - صدرت دراسات عربية كثيرة عن اليابان، توزعت بين المؤتمرات والندوات العلمية، والأبحاث الأكاديمية، والمقالات الصحفية، والانطباعات العامة. وتضم مكتبتي الكثير من تلك الدراسات، استخدمت بعضها في الدراسة، مع الإشارة إلى البعض الآخر ضمن مجموعتين: الأولى: مؤتمرات وكتب عربية جماعية عن اليابان، تبعا للتسلسل الزمني لتاريخ النشر: يسين، سيد( محرر): العرب واليابان: حوار عربي - ياباني حول الحضارة والقيم والثقافة في اليابان والوطن العربي وتطلعات إلى المستقبل. منشورات منتدى الفكر العربي - عمان، بالاشتراك مع المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا - طوكيو 1992. وهو واحد من ثلاثة حوارات، وقد نشر الكتابان الآخران بالإنكليزية ولم يصدرا بالعربية.
عابدين، السيد صدقي (محرر): العلاقات المصرية - اليابانية، مركز الدراسات الآسيوية، القاهرة، 2000.
محيي الدين، عمرو (إعداد ): أزمة النمور الآسيوية، الجذور والآليات والدروس المستفادة. دار الشروق، القاهرة 2000. بيت الحكمة (ناشر): النهضة وتفاعلاتها في العالم العربي واليابان منذ القرن التاسع عشر.
فعاليات اللقاء الفكري في بيت الحكمة، قرطاج، بمشاركة مسعود ضاهر، على المحجوبي، فتحي القاسمي، وعبد الللطيف الحناشي. منشورات وزارة الثقافة، تونس 2001.
فريد، سمير ( إعداد وتقديم ): السينما اليابانية في النقد السينمائي العربي، كتابات مختارة. منشورات وزارة الثقافة، المؤسسة العامة للسينما، دمشق 2001.
الثانية: كتب ومقالات علمية فردية كتبها باحثون عرب عن اليابان. وأبرزها: الجابري، محمد عابد: اليابان في الفكر العربي المعاصر. مقالة منشورة في مجلة (الموقف)، تونس، العدد الأول، آب 1992، صفحات 44 -50.
خضر، محسن: الظاهرة اليابانية وكيف نراها كعرب؟ مقالة منشورة في مجلة (العربي)، العدد 482، كانون الثاني 1999، صفحات 126 - 130.
خنسة، وفيق: الشخصية اليابانية. دار الحصاد، دمشق 1994.
درويش، فوزي: اليابان، الدولة الحديثة والدور الأمريكي. طنطا، مصر، الطبعة الثالثة 1994.
- : سياسة المعونات الخارجية اليابانية، دراسة في إدارة المعونات اليابانية للدول الأفريقية جنوب الصحراء. ترجمة علي الصاوي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1995.
-: الدبلوماسية اليابانية ما بعد الحرب الباردة. سلسلة (أوراق آسيوية)، الصادرة عن مركز الدراسات الآسيوية، العدد 24، القاهرة، فبراير 1999.
رشاد، عبد الغفار: التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية. مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1984
زكي، رمزي: المحنة الآسيوية: قصة صعود وهبوط دول المعجزات الآسيوية. دار المدى، دمشق 2000.
شريف، حسين: التحدي الياباني في التسعينات، دراسة تحليلية للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مكتبة مدبولي، القاهرة 1993.
عبد العاطي، بدر: أثر العامل الخارجي على السياسيات الخارجية للدول، دراسة حالة للسياسة اليابانية تجاه إسرائيل 1973- 2003. مقالة منشورة في مجلة (السياسة الدولية)، القاهرة، المجلد 38، العدد 153، الصادر في يوليو 2003، صفحات 8-23.
المحجوبي، علي: النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر: لماذا فشلت بمصر وتونس ونجحت باليابان، مركز النشر الجامعي، تونس 1999.
هيكل، محمد حسنين: المقالات اليابانية. الطبعة الرابعة، القاهرة، 1998.
ياسين، سعد غالب: العرب والإدارة اليابانية: ماذا يمكن أن نتعلم من اليابان؟ مقالة منشورة في مجلة (المستقبل العربي)، العدد 265، بيروت، آذار 2001، صفحات 51 -65.
2 - Philippe Pelletier : Japon, Crise dشune autre modernité. Editions Belin, Paris 2003.pp. 151 - 162 .
3 - حافظ إبراهيم: ديوان حافظ إبراهيم، منشورات دار العودة، بيروت 1996.
قسم (السياسيات)، صفحات 7 -10.
4 - المرجع السابق، صفحات 10 - 14.
5 - كامل، مصطفى: الشمس المشرقة، مطبعة اللواء، القاهرة 1904، ص 3.
6 - المصدر السابق، ص 3 - 4.
7 - المصدر السابق ، ص 5 -7.
8 - المصدر السابق ، ص 8 -10.
9 - المصدر السابق ، ص 10.
10 - المصدر السابق ، ص 11 - 12.
11 - المصدر السابق ، ص 20 - 22.
12 - المصدر السابق ، ص 222.
13 - للدلالة على النماذج المعبرة عن هذا الإتجاه، نشير إلى الدراسات التالية:
عطا الله، دعد بو ملهب: اليابان من الشروق إلى السطوع. توزيع مكتبة لبنان، بيروت 1994.
حاتم، محمد عبد القادر: أسرار تقدم اليابان. مطابع الأهرام، القاهرة، 1990.
=، = : الإدارة في اليابان وكيف نستفيد منها. الهيئة المصرية للكتاب القاهرة1990.
=، = : التعليم في اليابان: المحور الأساسي للنهضة اليابانية. الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 1997.
14 - عيساوي، شارل: تأملات في التاريخ العربي. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991. تراجع بشكل خاص المقالة المهمة: (لماذا اليابان؟)، صفحات 177 - 196.
15 - عباس، رؤوف: المجتمع الياباني في عصر مايجي. القاهرة، الطبعة الثالثة، دار ميريت 2000، ص 13.
16 - المرجع السابق، ص 209.
17 - المرجع السابق، ص 216 - 217.
18 - المرجع السابق، ص 218.
19 - عباس، رؤوف: التنوير بين مصر واليابان: دراسة مقارنة في فكر رفاعة الطهطاوي وفوكوزاوا يوكيتشي. دار ميريت، القاهرة، 2001.
20 - عبد الفضيل، محمود: العرب والتجربة الآسيوية: الدروس المستفادة. منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2000، ص 219.
21 - المرجع السابق، ص 219.
22 - محمد، مهاتير، وإيشيهارا، شنتارو: صوت آسيا، زعيمان آسيويان يناقشان أمور القرن المقبل، دار الساقي، بيروت 1998، ص 100 -101.
23 - المرجع السابق، ص 11- 12.
24 - خان، نجم الثاقب: دروس من اليابان للشرق الأوسط، القاهرة 1993. الفصل العشرون: دروس من اليابان، صفحات 149 - 164.
25 - القعيد، يوسف: مفاكهة الخلان في رحلة اليابان. دار الشروق، القاهرة، 2001. ص 278 - 279.
26 - المرجع السابق، ص 274.
27 - المرجع السابق، ص 289.
28 - المرجع السابق، ص295 - 297.
29 - نوتاهارا، نوبوأكي: العرب: وجهة نظر يابانية. دار الجمل، كولن، ألمانيا، 2003.
30 - تعرفت على اليابان عن كثب خلال السنوات العشر الماضية وأمضيت فيها قرابة ثلاث سنوات كأستاذ زائر في جامعاتها ومعاهدها. ونشرت مساهمات عدة عن نهضتها، أبرزها: ضاهر، مسعود: (النهضة العربية والنهضة اليابانية: تشابه المقدمات واختلاف النتائج)، سلسلة عالم المعرفة، رقم 252، الكويت، كانون الأول 1999. ونال جائزة أفضل كتاب عربي في مجال العلوم الإنسانية من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن العام 2000.
-: (النهضة اليابانية المعاصرة والدروس المستفادة عربيا)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، تموز 2002




أبحاث الفترة الصباحية الأولى ليوم الإثنين
رئيس الجلسة: أ.د. عبدالله الغنيم مدير مركز البحوث والدراسات الكويتية
البعثات العلمية في عصري محمد على (1805 _ 1849)
وإسماعيل (1863 _ 1879)
بحث مقدم إلى ندوة مجلة العربي
(الغرب بعيون عربية)
إعداد: عزت عامر

         في إطار استكشاف آليات المد والجزر في محاولات العرب التاريخية جلب ما ينفعهم من الثقافة والعلوم والتقنيات الغربية إلى بلادهم والتفاعل معها، تكتسب تجربة التحديث في عصري محمد على وإسماعيل أهمية خاصة لكونها كانت محاولة مبكرة (نهاية القرن التاسع عشر) وواقعية للتحديث والاستقلال ولبناء صرح حضاري. ولـكـونـهـا أثبـتـت أن الـعــرب مــدركـون حاجتهم إلى التقدم العلمي الذي أحرزته الــدول الــغـربية وقــادرون عـلـى اسـتـيـعـابــه واسـتخدامه بل وتطويره بما يناسب بـيـئـتـهم الخاصة. وأثبتت أيضا أن العرب ليس لديهم ما يعوق احتضانهم للعلم الحـديث وتقـنـيـاتــه، فثـقـافتـهم العربية الإسلامية شاركت بدور مهم في التطور المعاصر، وما زال في قدرتها احتضان كل منجزات الحضارة الحديثة والمشاركة في تطويرها.

         هناك خلافات حول أهداف هذا التحديث هل كانت بناء جيش وطني قوى يسمح بالاستقلال عن السلطة العثمانية ومواجهة الأطماع الأوروبية، أو تأسيس أسرة مالكة قوية تعتمد على بلد مكتف ذاتيا يقاوم عوامل الضعف والانهيار في البلدان التابعة للإمبراطورية العثمانية. يختلف المؤرخون حول هذه الأهداف، خاصة وأن محمد على الألباني الطموح جاء إلى مصر جنرالا متواضعا ضمن الجيش العثماني، يطمح إلى بناء مملكة قوية يورثها أبناءه، لكنهم يتفقون على أن النتائج الإيجابية لهذا التحديث المبكر في مجالات تطوير الجيش وقدراته التقنية وفي التعليم والصناعة والزراعة كانت ملحوظة تماما.

         واستفادت محاولة التحديث بشكل مباشر من منجزات الغرب الثقافية والعلمية والتقنية، وأتاحت استقلالا اقتصاديا ذاتيا حتى لو لم يكتب له الصمود أمام مطامع القوى الاستعمارية الصاعدة في ذلك الزمن مثل إنجلترا وفرنسا والتكتل الأوربي المناهض لأي نهضة في البلدان التابعة للحكم العثماني.

         ولا يفوتنا هنا بالطبع الإشارة إلى سلبية نظام الاحتكار الذي شمل الزراعة والتجارة وصار محمد على عن طريقه المالك الوحيد لأراضي مصر والتاجر الوحيد لحاصلاتها، فصار الصانع الوحيد لصناعاتها، أغرته بذلك الأرباح الطائلة، وأدى هذا الاحتكار إلى أضرار بالغة للاقتصاد في مصر.

         وإذا كانت النهضة الصناعية قد أدت إلى ظهور طبقة عمالية ماهرة شاركت في التقدم الصناعي، فإن نظام الاحتكار لم يكن في صالح عمال الصناعات اليدوية في الصناعات الصغيرة التي كانت موجودة قبل عصر محمد علي. وينتقد محمد عبده فيما بعد هذا النظام الاحتكاري، حيث يرى أنه شل عمليات التطور الطبيعية التي كانت موجودة خلال الحكم المملوكي قبل عصر محمد على، الذي جمع كل السلطات في يده ومنع جميع المبادرات الفردية.

         ونتج نظام الاحتكار من طبيعة حكم محمد علي الفردية المطلقة، فرغم أنه تولى السلطة تبعا لموافقة السلطان العثماني بتعيينه واليا على مصر بناء على اقتراح الشيوخ والأعيان المصريين، الذين ساعدوه أيضا في القضاء على سلطة المماليك، إلا أنه انفرد بعد ذلك بالسلطة ومارس الحكم كمالك أوحد لكل مصر، وأدار البلاد بطريقة المالك الذي يرعى ويستثمر أمواله.

         وتمثل البعثات العلمية في تلك الفترة مصدرا مهما لاستجلاب العلوم والتقنيات الغربية إلى مصر.

         وكــانــت هــذه البـعـثـات مـصــدرا أساسيا لتأسيس النهضة التي اتبعت منهجا واقـعيا في التعامل مع الفجوة الثقافية والعلمية التي ظهرت بين أوربا الناهضة والــبـلدان الــتـابــعــة للــخـلافة العثمانية المتدهورة. وخطت النهضة خطوات ثابتة على طريق استحضار خبرات أجنبية لبناء اللبنة الأولى في التعليم والصناعة ثم إرسال بعثات لاكتساب المعارف والخبرات الكفيلة بإنشاء البنية الأساسية لمقومات النهضة.

نموذج استثنائي أم إرشادي؟

         هل كانت تجربة التحديث في عصري محمد على وإسماعيل نموذجا استثنائيا غير قابل للتكرار نبع من توازنات قوى محلية وعالمية في القرن التاسع عشر، تتمثل في ضعف الإمبراطورية العثمانية الذي كان يتيح لأحد ولاتها الاستقلال عنها وتكوين قوى ذاتية والاستعانة بالتناقض بين المتنافسين على استعمار المنطقة مثل الصراع بين فرنسا وإنجلترا لمد نفوذهما إلى الدول العربية؟ ويدعم هذا الوضع الاستثنائي وجود حاكم طموح مثل محمد على يصعد إلى قمة السلطة بمساعدة المشايخ والأعيان، الذي كان يخطط للتخلص منهم ومن المماليك لتأثيث مملكة وراثية لعائلته.

         أم أن تجربة التحديث رغم ارتباطها بشروط تاريخية محلية خاصة يمكن الاستفادة منها في عصرنا لأن حاجة العرب مازالت ملحة لنهضة صناعية ثقافية سياسية؟

         قد تكون بعض ملامح التشابه بين هذه الفترة التاريخية التي شهدت بدايات التطور الصناعي الأوروبي، والفترة الحالية التي تشهد تغيرا حضاريا يتمثل في العولمة وثورة الاتصالات والمعلومات، في صف اعتبار التحديث في عصري محمد على وإسماعيل نموذجا إرشاديا مازال قابلا للتطبيق فيما يخص غرس أحدث المنجزات الحضارية في الواقع العربي الراهن. كان التحديث في نهاية القرن التاسع عشر في مصر انتقالا من الوضع الحرفي الفلاحي وتطويره بجلب العلوم والتقنيات الأوروبية الجديدة ونظم الحكم في المدن وبناء الجيش لحماية الاستقلال. والوضع الراهن يشهد انتقال العلم والتقنية الصناعية التقليدية إلى تسارع غير معهود في مجالات حديثة تماما مثل الاتصالات وعلم الوراثة.

         وإذا رأينا في هذا التحديث نموذجا إرشاديا يجب أن ننتبه إلى أهمية وجود سلطة لديها القدرة على تطوير مجمل الأوضاع الاقتصادية والثقافية، وقد تكون في وضعنا الراهن ممثلة لطبقة من الرأسماليين الوطنيين أو لطبقات الشعب صاحبة المصلحة المباشرة في التحديث، حيث تستعرض هذه الدراسة الدور المهم لتكريس محمد على وإسماعيل ثروة مصر المادية والمعنوية على طريق التحديث، وهو أمر مازالت البلدان العربية في حاجة ملحة إليه لدعم التعليم والأبحاث ولضمان تماسك كل قوى الشعوب لبذل أقصى ما تملكه من طاقات لتغيير مصائرها ومواكبة العصر الحديث.

بعثات علمية كبرى

         قبل انطلاق البعثات العلمية الكبرى إلى الغرب، لم يكتف محمد على بتأسيس المدارس والمعاهد العلمية في مصر ليتلقى فيها المصريون العلوم التي تنهض بالمجتمع كله، بل فكّر في أهمية نقل معارف أوروبا وخبرة علمائها ومهندسيها ورجال الحرب والصناعات فيها بشكل مباشر من خلال وجودهم في مصر.

         وكان هدف البعثات الأولى تكوين كوادر من المعلمين المصريين في المدارس العليا، وتدريب قادة للجيش والبحرية، وتأهيل مهندسين قادرين على نشر العمران.

         وبدأت أولى البعثات حوالي عام 1813، وكانت الوفود الأولى من الطلبة مكرسة لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن وتعلم الهندسة توجهت جميعها إلى المدن الإيطالية مثل روما وميلانو وليفورن وفلورنسا. وكان ضمن هؤلاء الطلبة نقولا مسابكي الذي تعلم الطباعة وتولى عند عودته إلى مصر إدارة مطبعة بولاق.

         وتوجهت بعثات أخرى إلى فرنسا وإنجلترا لدراسة بناء السفن والملاحة ومناسيب الماء وصرفه إضافة إلى الميكانيكا.

         بلغ عدد الطلاب الذين تضمنتهم هذه البعثات المبكرة 28 طالبا، وأشهرهم عثمان نور الدين الذي ذهب إلى فرنسا، وكان له شأن كبير في تنظيم البعثات الكبرى التالية وصار أميرالا للأسطول المصري.

         وبدأت البعثات الكبرى من عام 1826، بإرسال 44 طالبا إلى فرنسا، لحقت بهم بعثة كبيرة أخرى من 70 طالبا عام 1844، اختارهم سليمان باشا الفرنساوي من بين تلاميذ المدارس المصرية ولحق بهم غيرهم بعد ذلك. وأصبح عدد طلاب البعثات جديرا بإنشاء مدرسة مصرية في فرنسا، لتعليم الطلاب اللغة الفرنسية بما يناسب المدارس العليا الفرنسية، وإن كانت قد أُغلقت عام 1848 إلا أنه تم فتحها من جديد في عهد إسماعيل.

         وبين عامي 1831 و1847 وصل عدد طلاب البعثات إلى 319 طالبا، ساهموا جميعا في نهضة مصر العلمية والاقتصادية والحربية والسياسية والاجتماعية.

         وجدير بالملاحظة أن محمد على كان يهتم بأعضاء هذه البعثات بنفسه، حيث يتتبع أحوالهم ويكتب لهم الرسائل لتشجيعهم على التحصيل، من ذلك رسالة له في سبتمبر 1829 تستحق أن نورد هنا جملا منها: قدوة الأماثل الكرام الأفندية المقيمين في باريس لتحصيل العلوم والفنون زيد قدرهم، ننهي إليكم أنه قد وصلتنا أخباركم الشهرية، والجداول المكتوب فيها مدة تحصيلكم... فقياسا على قلة شغلكم في هذه المدة عرفنا عدم غيرتكم وتحصيلكم، وهذا الأمر غمنا جدا... فإذا لم تغيروا هذه البطالة بشدة الشغل والاجتهاد والغيرة وجئتم إلى مصر بعد قراءة بعض كتب فظننتم أنكم تعلمتم العلوم والفنون فإن ظنكم باطل... فإن أردتم أن تكتسبوا رضاءنا فكل واحد منكم لا يفوت دقيقة واحدة من غير تحصيل العلوم والفنون< كلمات من يأمل في نقل حضارة وليس مجرد الحصول على شهادات تحصيل معارف. ولا يفوتنا التأثير النفسي لمثل هذه الكلمات من حاكم مصر إلى طلاب مازالوا في بدايات حياتهم العملية. ويدل أيضا على الاهتمام بهؤلاء الطلاب المراكز المهمة التي شغلوها بعد عودتهم من البعثات.

         وإن كانت البعثات قد ركّزت في البداية على العلوم والخبرات الكفيلة ببناء قوة عسكرية لضمان الاستقلال، فإنها تطورت بشكل تلقائي لتدعيم هذه القوة بالصناعات اللازمة سيان كانت عسكرية أو مدنية، فكانت النتيجة النهوض بكافة جوانب التطور التعليمي والثقافي والعلمي والتقني.

         ركزت البعثة الأولى، التي وصل عدد طلابها إلى 44 طالبا وكان إمامها الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، على الإدارة الملكية والحقوق والفنون الحربية والإدارة العسكرية والعلوم السياسية والملاحة والفنون البحرية والهندسة الحربية والمدفعية والطب والجراحة والزراعة. ودرس بعض طلابها أيضا التاريخ الطبيعي والمعادن وهندسة الري والميكانيكا والطباعة والكيمياء.

         واهتمت البعثة الثانية التي أتت بعدها بعامين بالهندسة والرياضة والطبيعيات، وتخصص بعض طلابها في الطبيعيات وآخرون في الفنون الحربية أو العلوم السياسية أو الطب أو الترجمة.

         وبعد عام واحد من البعثة الثانية تغلبت الصبغة الصناعية على دراسات أفراد البعثة، مما يدل على رغبة محمد على في إنشاء صناعات مهمة في مصر. وشملت هذه البعثة عام 1829 ثمانية وخمسين طالبا تم إرسالهم إلى فرنسا والنمسا وإنجلترا. وتخصص معظم أفرادها في عدد من الصناعات الرئيسية، فمن صناعة الصباغة والنسيج والأجواخ وصناعة السفن والفنون البحرية وصب المدافع والقنابل والآلات الهندسية والساعات والأحذية، حتى صناعة الدهانات والآلات الجراحية.

         وتـخـصـصـت البـعـثـة الـرابــعة عام 1832 في الطب وكان عدد طلابها 12 طالبا مـن أوائــل خــريــجـي مدرسة الطب المصرية في أبي زعبل، تم اختيارهم لإتمام دراستهم في باريس لتعيينهم أساتذة في مدرسة الطب عند عودتهم، وساهموا إضافة إلى التدريس في ترجمة وتأليف الكتب الطبية والاضطلاع بالأعمال الصحية في البلاد.

         وكانت البعثة الخامسة عام 1844 هي أكبر بعثة ترسل إلى فرنسا وهي آخر بعثة كبرى، وصل عدد طلابها إلى نحو 83 طالبا وأُطلق عليها >بعثة الأنجال< لأنها تضمنت بعض أنجال وأحفاد محمد على. وتم اختيار أعضائها من نوابغ طلبة المدارس المصرية العالية وضمت أيضا بعض المعلمين والموظفين، مما يكشف سلامة منهج اختيار أعضاء البعثات والتخصصات التي توجهوا إلى دراستها، حيث لم تقتصر على طلاب العلم في مستوى التعليم العالي لإعدادهم لشغل مراكز مهمة في مجالات الإنتاج والخدمات المختلفة، لكنها فتحت الطريق أمام العاملين فعلا في هذه المجالات لربط خبراتهم بأحدث العلوم والإنجازات التقنية. وتخصصت هذه البعثة في العلوم الحربية والطب والطبيعيات، إضافة إلى علوم أخرى.

         وتلى ذلك أربع بعثات أرسلت إحداها إلى النمسا في 1845، اهتمت بالكيمياء الصناعية وطب العيون، وأخرى سنة 1847، لتعلم الحقوق والمحاماة، وبعثة سنة 1847 إلى إنجلترا من 21 نجارا لإتقان بناء السفن، وبعثة أخيرة عام 1847 مكونة من 25 طالبا تم اختيارهم من نوابغ طلبة مدرسة المهندسخانة للتخصص في الميكانيكا ذهب أغلبهم إلى إنجلترا وبعضهم إلى فرنسا.

جنى ثمار البعثات العلمية

         وبلغ عدد طلبة هذه البعثات 319 طالبا. وكان من نتائجها تأسيس مدارس للهندسة والطب والصيدلة والألسن والمعادن والفنون والصنائع والزراعة غير المدارس الحربية المختلفة، وإقامة منشآت الري والزراعة، ومنشآت صناعية أخرى مثل صناعات الغزل والنسيج، ومعامل سبك الحديد وألواح النحاس ومعامل السكر والمطابع، إضافة إلى ترسانات صناعة السفن.

         ونظرة إلى وضع الاقتصاد الحرفي قبل هذه الفترة والتطور الملحوظ في الصناعة والزراعة والإنتاج الحربي، كافية للتدليل على التغير النوعي في بنية المجتمع والاقتصاد ومسار النهضة الشاملة التي شاركت البعثات العلمية والتقنية في تأسيسها.

         ولا شك أن النهضة قامت على التوسع الكبير في إنشاء المدارس وإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، ويعتبر هذا المنحى تحديثا للبنية الأساسية في المجالات الحربية والاقتصادية. وبدأ العمل في مجال التعليم بتأسيس المدارس العليا وإيفاد البعثات، ثم الانتقال إلى التعليم الابتدائي والثانوي، مما أتاح تكوين طبقة من المتعلمين تعليما عاليا تتم الاستعانة بهم في أعمال العمران ونشر التعليم بين طبقات الشعب.

         كان من ثمار البعثات أيضا اتباع المنهج العلمي في التعامل مع المشاكل الصحية، حيث تم إجراء تطعيم ضد الجدري كنوع من الحماية من هذا المرض، وأُقيم في الإسكندرية حجر صحي على السفن الواردة من البلاد الموبوءة، وتم تأليف المجلس الصحي للإشراف على الشؤون الصحية في القطر كله، وتنظيم فرقة من الأطباء الوطنيين للرعاية الصحة وتوفير العلاج المجاني للطبقات الفقيرة.

         وساعد على إمداد المدارس العليا والبعثات بطلاب حازوا على قسط من الثقافة يؤهلهم لتفهم دروس المدارس العليا في مصر وأوروبا، وجود التعليم في الأزهر الذي كان يمد البعثات بالطلبة النابغين.

         وللتدليل على الجانب العملي في تفكير محمد على، الذي أدرك المستوى الفعلي المنخفض للخبرات المحلية، أنه بدأ بتأسيس مدرسة الهندسة (المهندسخانة) في القلعة عام 1816، وكان أول طلابها من أهل البلد والمماليك يتعلمون قواعد الحساب والهندسة وعلم المقادير والقياسات، وتم إحضار آلات هندسية متنوعة لهم من إنجلترا. وكانت الدراسة مجانية ويتم صرف مرتبات شهرية و>كساوي< سنوية للطلبة. ولحقت بها في عام 1834 مدرسة هندسة في بولاق تولى نظارتها ووكالتها خريجان من خريجي البعثات.

         وتم تأسيس مدرسة الطب عام 1827 تبعا لاقتراح من كلوت بك، وكان مقرها في البداية أبو زعبل لوجود المستشفى العسكري بها. واختارت الحكومة للمدرسة مائة تلميذ من طلبة الأزهر. وتولى إدارتها كلوت بك فاختار أساتذة أوروبيين معظمهم من الفرنسيين لتدريس علوم التشريح والجراحة والأمراض الباطنية والمواد الطبية وعلم الصحة والصيدلة والطب الشرعي والطبيعة والكيمياء والنبات. وفي عام 1837 بلغ عدد طلابها 140 طالبا و50 طالبا في مدرسة الصيدلة.

         وتعددت المدارس في مصر في ذلك العصر مثل مدرسة الألسن، مدرسة المعادن، مدرسة الفنون والصنائع، مدرسة الزراعة، مدرسة الطب البيطري، إضافة إلى المدارس الحربية و البحرية. ومع تخرج نوابغ أعضاء البعثات وعودتهم إلى مصر تم إنشاء إدارة ديوان المدارس عام 1837 التي ترأسها مصطفي مختار أحد خريجي البعثة الأولى.

         وتكشف التنمية المتوازية في عدد من المجالات التي لا ترتبط مباشرة بالفنون والصناعات الحربية، عن وعي بالمنهج العلمي الواقعي في التعامل مع تشابك المجالات الحربية والاقتصادية والسياسية، فلا استقلال بدون اعتماد على النفس في فنون الري والصناعة والتعليم. وهذا يفسر الاهتمام البالغ بإنشاء البنية الأساسية في مجال الزراعة، مثل إعادة تشغيل الترع المطمورة وحفر أخرى جديدة في شتى أنحاء مصر، وإنشاء الجسور على شاطئ النيل من جبل السلسلة جنوبا حتى البحر الأبيض المتوسط شمالا لمنع فيضان المياه على ضفتي النيل، إضافة إلى إنشاء جسور أخرى على أفرع النيل. وتم إنشاء قناطر عديدة على الترع لضبط مستويات المياه تيسيرا للانتفاع بالري. وكانت أراضي الوجه البحري تروى بطريق الحياض كري الوجه القبلي فلا يُزرع فيها إلا المحاصيل الشتوية، فتم إنشاء القناطر الخيرية لضمان توفير المياه في معظم السنة. وعهد محمد على بدراسة هذا المشروع قبل تنفيذه إلى جماعة من كبار المهندسين منهم لينان دي بلفون وبدأ التنفيذ في 1834، لكن مهندسا فرنسيا آخر هو موجيل أعد تصميما مختلفا وبدأ التنفيذ بمساعدة مهندسين مصريين تخرجا من البعثات العلمية. وتعتبر هذه القناطر التي تعمل في شمال القاهرة حتى الآن من القناطر الأولى الكبرى التي تقام على نهر واسع.

         وكانت نتيجة الإصلاحات الزراعية واسعة النطاق تغيير عدد من الحاصلات، فبعد أن كانت أهم الحاصلات في مصر: القمح والشعير والفول والعدس والحمص والذرة والترمس والبرسيم وقصب السكر والقنب والكتان والخضر والفواكه، وقليل من القطن، تم التوسع بغرس شجر التوت لتربية دود القز (الحرير). وبعد أن كان القطن من أصناف رديئة تمت زراعة القطن طويل التيلة، تبعا لنصيحة جوميل الذي استقدمه محمد على لتنظيم مصانع النسيج. وأقبلت على طلب القطن المصري مصانع النسيج في فرنسا وإنجلترا، وأصبح أساس الثروة الزراعية في مصر.

صناعات كبرى

         وإذا كانت الصناعات الصغرى قد تدهورت أحوالها في عصر محمد على بسبب الاحتكار، فإن الصناعات الكبرى شهدت نهضة ضخمة بعد إنشاء الفابريقات التي تدار بالآلات. ولم يقتصر الأمر على إنشاء مصانع حربية وبحرية لكن مصر شهدت أيضا ظهور صناعات الغزل والنسيج ومعامل الحديد والنحاس في نفس الوقت.

         من أول الصناعات التي أنشأها محمد على فابريقة الغزل والنسيج في الخرنفش عام 1816، حيث استدعى لها فنيين من فلورنسا تخصصوا في غزل خيوط الحرير لصناعة القطيفة والساتان الخفيف. وتم نقل الأنوال إلى فابريقة أخرى ووضعت محلها مغازل القطن وماكينات صنع الأقمشة القطنية. ثم أنشأت الحكومة بعد ذلك في بولاق فابريقة )مالطة( نسبة إلى العدد الكبير من العمال المالطيين الذين كانوا يعملون فيها، وأُعدت لغزل القطن ونسج أقمشة مختلفة الأنواع. وكان فيها ورشة لإصلاح آلاتها وآلات مصانع الوجهين البحري والقبلي، إضافة إلى ورشة للنجارة وورشتين للخراطة. وكان بالقرب من الفابريقة 80 ورشة حدادة لصنع مراسي المراكب، ومعمل لسبك الحديد.

         وبالقرب من هذه الفابريقة كان هناك مصنعان آخران لغزل القطن هما فابريقة إبراهيم أغا وفابريقة السبتية. وعلى شاطئ النيل بين بولاق وشبرا تم إنشاء مبيضة لتبييض الأقمشة التي تصنع في الفابريقات بالأساليب العلمية الحديثة في حينها. وفي حي السيدة زينب تم إنشاء معمل لصنع أمشاط الغزل، إضافة إلى فابريقة نسيج.

         وكانت هناك مصانع للجوخ والحرير والحبال ونسيج الصوف والطرابيش، إضافة إلى مصانع الغزل والنسيج في الوجه البحري ومصانع الغزل في الوجه القبلي.

         كانت نتيجة التوسع في صناعة الغزل والنسيج أن بدأ تصدير جزء من القطن المغزول إلى إيطاليا وألمانيا، وتصدير أقمشة إلى سوريا والأناضول، وقلت الواردات من الأقمشة الأجنبية.

         لكن العيب الرئيسي في صناعة الغزل والنسيج تمثلت في نظام الاحتكار، الذي لا يتفق مع التقدم الصناعي، لذلك تم إغلاق معظم المصانع التي أنشأها محمد على لأن إداراتها كانت في أيدي موظفي الحكومة. ولم يكن الموظفون أمناء ولا أكفاء لإدارة هذه الصناعات ولا غيورين على عملهم فيها، فأدى سوء الإدارة في معظم المصانع وضعف الرقابة على الموظفين إلى اضمحلالها. وكم يشبه ذلك فساد البيروقراطية الراهن الذي يعوق كل جوانب التطور. وكانت الحكومة تستورد الفحم والآلات من أوروبا فزادت النفقات وقلت الإيرادات بمرور الزمن مما سبب في وجود خسائر كبيرة. وأدى إنقاص الجيش والبحرية في أواخر عهد محمد على إلى تعطيل المصانع المرتبطة بالصناعات الحربية.

         وشهد عصر محمد على أيضا تأسيس مصانع نسيج الكتان وسبك الحديد وصناعة ألواح النحاس ومعامل السكر في الوجه القبلي، هذا غير مصانع الصابون ودبغ الجلود في رشيد ومصنع للزجاج والصيني وآخر للشمع.

نهضة الصناعات البحرية

         كان الدافع وراء الاهتمام البالغ بالفنون البحرية تخطيط محمد على لخوض حروب تحتاج إلى نقل جيوش عن طريق البحر. وبدأ تنفيذ النهضة البحرية بتجديد دار الصناعة (الترسانة) في بولاق أوائل عام 1810، حيث أمكن إنشاء 18 سفينة كاملة العدة خلال 10 أشهر لتنطلق في البحر الأحمر وفي النيل وفي البحر المتوسط.

         بعد أن تأكد محمد على من أهمية الأساطيل البحرية، بدأ إنشاء قوة بحرية في البحر المتوسط بإنشاء أسطول جديد بأيد مصرية حتى لا تكون مصر عالة على البلدان الأوروبية. وفكّر في إنشاء ترسانة كبرى في الإسكندرية مستعينا بمهندس فرنسي هو سريزي المهندس البحري من طولون، وكان ذا خبرة في بناء السفن والأحواض والترسانات وجاء إلى مصر عام 1829. وكانت الترسانة القديمة في الإسكندرية هي نواة الترسانة الجديدة التي ترأسها الحاج عمر من أهالي الإسكندرية وكان مهندسا بارعا في فن بناء السفن. وتم بناء الترسانة عام 1831، ووجد سريزي من ذكاء المصريين وحسن استعدادهم وحذقهم الصناعات عوامل صالحة لبناء الترسانة وإنشاء السفن الحربية وسفن النقل، فتولى تدريبهم. وأصبحت الترسانة، التي بلغ عدد العاملين فيها 8000 عامل، معهدا لتعليم المصريين بناء السفن وترميمها وتجهيزها بما يلزمها من آلات، حتى استغنت مصر عن شراء السفن من الخارج. وتم إنشاء معسكر لتعليم البحارة من الجنود الأعمال البحرية، ومدرسة بحرية لتخريج الضباط البحريين، وكان يتم اختيار بعضهم لإرسالهم إلى فرنسا وإنجلترا لإتمام علومهم وممارسة الفنون البحرية على متن السفن الحربية الأوروبية.

         وأدى خريجو المدرسة والبعثات البحرية خدمات جليلة للبحرية المصرية، فتم تعيين بعضهم قباطين للسفن الحربية لقيادتها وتدريب بحارتها وترجم بعضهم مؤلفات عدة عن البحرية.

         وفي زيارة للمارشال مارمون لترسانة الإسكندرية عام 1834 يقول واصفا كفاءة العمال: إن العربي له حظ عظيم من المقدرة على التقليد تبلغ درجة النبوغ وهو متصف بالاستقامة والنشاط والغيرة مع المرونة والطاعة. وبهذه الصفات يمكن الوصول إلى تحقيق كل ما يريده الإنسان. وبفضل هذه المزايا صار العمال الذين خرجوا من صفوف الفلاحين أخصائيين في الفروع والفنون التي توفروا عليها، كلّ فيما خصص له. ولم يقتصر الأمر على تدريبهم على أعمال الخشابين والنجارين والحدادين بل تخصص منهم كثيرون في أعمال بلغت غاية الدقة، فنجحوا في صنع آلات بحرية كالبوصلات والنظارات.

         وهكذا تتكامل دوائر مشروع النهضة بالاستعانة بالأجانب وتدريب الكوادر الوطنية وإتاحة الفرصة لها لاكتساب خبرة مباشرة في العمل ومن خلال البعثات، لتقود العمل في مجالات التحديث.

         وكانت نتيجة النهضة الصناعية انتعاش تجارة مصر الخارجية مما أتاح للحكومة أرباحا هائلة لأنها كانت تحتكر التجارة الخارجية كلها. وساعد على التجارة الخارجية إنشاء أسطولين في البحرين الأحمر والأبيض، إضافة إلى إصلاح ميناء الإسكندرية.

         بدأ التحديث في عصر محمد علي مرحلة الانهيار بعد أن تصدت دول أوروبا بشكل مباشر لهذه النهضة تحت ستار خشيتها من أن ينطلق محمد علي من مصر بانيا إمبراطورية قد لا يسهل التغلب عليها، فاتفقت إنجلترا والنمسا وروسيا وبروسيا (ألمانيا) على تهديد محمد علي إذا لم يقبل شروط الصلح التي وضعتها تركيا. وفي عام 1841 أملى الحلفاء شروطهم التي أسموها معاهدة لندن على محمد علي، وأنذروه بأنه في حالة الرفض سيرمون الإسكندرية بالقنابل. واضطر محمد علي إلى التوقيع على المعاهدة التي منحته حق حكم مصر والسودان هو وذريته لكنها حددت جيشه إلى 18 ألفا وحظرت عليه بناء سفن بحرية.

مواصلة النهضة في عصر إسماعيل

         انقضى عصر محمد على وإبراهيم بعد توطيد دعائم الدولة المصرية المستقلة وإرسال البعثات العلمية ووضع البنية الأساسية للتعليم والنهضة العلمية والاقتصادية. لكن عهد عباس الأول (1849 / 1854) يعتبر عهد انتكاس، حيث توقفت حركة التقدم. ورغم النهضة الوطنية في عهد سعيد (1854 / 1863) شهدت مصر بدايات التدخل الأجنبي في شؤونها الداخلية، بعد أن أقر حفر قناة السويس بواسطة شركة أوروبية، وبداية عهد القروض الأجنبية التي أدت إلى كثير من الكوارث.

         ثم جاء عصر إسماعيل (1863/1879) خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ليشهد مرحلة جديدة من النهضة رغم الأخطاء التي أدت إلى التدخل الأجنبي في شؤون مصر المالية والسياسية.

         اهتم إسماعيل بإعادة تنظيم الجيش وإنهاض البحرية وإقامة العمران في مختلف المجالات، وبعث النهضة العلمية والفكرية بإنشاء المدارس والمعاهد وتأسيس الجمعيات العلمية وتشجيع التأليف والصحافة ورعاية العلوم والآداب والفنون.

         وواصل إسماعيل إرسال البعثات إلى البلدان الغربية المتقدمة من جديد، وبدأ يوفد الطلبة منذ عام 1863 الذين بلغ عددهم 172 طالبا، واستمر جني ثمار البعثات العلمية على هيئة مزيد من تطوير التعليم ومزيد من العمران.

         تولى إسماعيل الحكم ومعظم المدارس التي أنشأها محمد علي مقفلة، لم يكن قد تبقى منها سوى مدرسة الطب والصيدلة ومدرسة الولادة ومدرسة حربية وأخرى ثانوية ومدرسة ابتدائية ومدرسة البحرية في الإسكندرية. وبدأت نهضة جديدة في عصره في مجالات التعليم فبالإضافة إلى تأسيس مدارس حربية أسس عدة مدارس عليا منها مدرسة الري والعمارة (المهندسخانة) في العباسية عام 1866، مدرسة الحقوق عام 1868، مدرسة دار العلوم 1872 لتخريج أساتذة لغة عربية للمدارس الابتدائية والثانوية تم اختيار طلابها من المتفوقين من تلاميذ الأزهر.

         وارتقت مدرسة الطب في عصر إسماعيل، الذي شهد أيضا إنشاء مدارس للبنات وعدد من المدارس الصناعية والمدارس الخاصة والمدارس الأوروبية. وكان قائد النهضة التعليمية في عصر إسماعيل على باشا مبارك (1824/1893)، الذي أسس دار العلوم عام 1872 ودار الكتب عام 1870 ومعملا للكيمياء والطبيعة في درب الجماميز لتوسيع مدارك التلاميذ في العلوم الطبيعية واطلاعهم على تجاربها والمران على استعمال الآلات الرياضية والطبيعية.

         وأعاد إسماعيل عهد البعثات العلمية إلى مدارس أوروبا ابتداء من عام 1863، وأنشأ مدرسة لأعضاء البعثة في باريس بدل المدرسة التي أنشأها محمد على لهذا الغرض وأُغلقت في أواخر عهده، لكن المدرسة التي أنشأها إسماعيل أُغلقت بعد نشوب الحرب السبعينية.

         كان لأفراد البعثات التي أرسلها إسماعيل إلى أوروبا أثرهم على المجتمع المصري بعد عودتهم، فقد تأثروا بالبيئة الأوروبية أكثر من المبعوثين الذين أرسلهم محمد علي، لأنهم كانوا شبابا في نحو العشرين من العمر، بينما كانت بعثات محمد على أكبر سنا بكثير. وكانت أهم الدول التي استقبلت بعثات إسماعيل فرنسا وإنجلترا وإيطاليا. وازداد عدد أفراد البعثات ازديادا مطردا في السنوات الأولى من حكم إسماعيل، ثم أخذ العدد في النقصان بعد الارتباك المالي الذي حدث في السنوات الأخيرة من حكمه.

         وكان ضمن ثمار البعثات العلمية والتحديث في عصر إسماعيل إنشاء عدد من الجمعيات العلمية مثل الجمعية الجغرافية الخديوية عام 1875 الذي كان أول رئيس لها العالم الألماني جورج شونفرت، وجمعية (المعارف المصرية) لتشجيع البحث العلمي، وتم أيضا إنشاء المتحف المصري. وظهرت الصحف العلمية والأدبية والحربية مثل مجلة (اليعسوب) الطبية عام 1865 ومجلة (روضة المدارس) عام 1870 لإحياء الآداب العربية ونشر المعارف الحديثة وترأسها رفاعة رافع الطهطاوي إمام البعثة الأولى في عصر محمد علي.

         وتقدمت الطباعة في عصر إسماعيل حيث أصبحت مطبعة بولاق من أكبر المطابع.

         واتسم عصر إسماعيل بالنهضة العلمية والأدبية بسبب انتشار التعليم في المدارس والمعاهد وظهور طائفة من العلماء والأدباء ممن تخرجوا في المدارس والبعثات، ونشاط حركة التأليف والترجمة والنشر. وظهرت طائفة من العلماء المؤلفين والمعربين فأنتجوا كتبا في الطب والرياضيات والتاريخ والفقه والتشريع. وتولى أرقى المناصب الحكومية متخرجون من المدارس والمعاهد والبعثات، فكان من ثمار النهضة الارتقاء في عدد من المجالات مثل التعليم والري والهندسة والإدارة والقضاء والصحة والجيش والأسطول.

         ولم يفتقد إسماعيل أيضا أهدافا خاصة في عملية التطوير كما كان شأن محمد على المالك الأوحد لمصر، فمع التطور الصناعي كان إسماعيل مهتما بتنمية ثروته الخاصة، فقد كان يملك وحده مصنعين للنسيج بالقرب من القاهرة و22 مصنعا للسكر تبلغ طاقتها الإنتاجية 150 ألف طن سكر سنويا، و4 مصانع للأسلحة ودارين لصناعة بناء السفن.(19)

مراجع البحث:

1 - الحرف والصناعات في عهد محمد على / د. صلاح أحمد هريدي/عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.
2 - عصر محمد على / عبد الرحمن الرافعي/ دار المعارف.
3 - عصر إسماعيل / عبد الرحمن الرافعي / دار المعارف.
4 - عصر محمد على .. دراسة وثائقية / د. عبد المنعم إبراهيم الجميعي / الهيئة المصرية العامة للكتاب.
5 - عصر محمد على ونهضة مصر في القرن التاسع عشر / د. عبد الحميد البطريق / الهيئة المصرية العامة للكتاب.
6 - محمد على ... مؤسس مصر الحديثة / جي فارجيت / ترجمة: محمد رفعت عواد / المجلس الأعلى للثقافة.
7 - مستقبل الثقافة العربية / سلسلة أبحاث المؤتمرات /2/ المجلس الأعلى للثقافة (11 إلى 14 مايو 1997)
8 - محمد على وأوروبا / رينيه وجورج قطاوي / ترجمه عن الفرنسية د. ألفريد يلوز / الجمعية الملكية للدراسات التاريخية / دار المعارف في مصر 1952.
9 - مصر في القرن التاسع عشر / إدوارد جوان / ترجمة محمد مسعود 1921.




أبحاث الفترة الصباحية الأولى ليوم الإثنين
رئيس الجلسة: أ.د. عبدالله الغنيم مدير مركز البحوث والدراسات الكويتية
أوضاع المسلمين في صقلية النورمانية
من خلال رحلة ابن جبير
د. نواف عبدالعزيز الجحمة

         تشكل كتب الرحلات الإسلامية بصفة عامة والرحلة الحجية المغربية بصفة خاصة، باعتبارهما مصدرين أساسيين لدراسة بعض المجتمعات الإسلامية خصوصًا من الزاويتين الاجتماعية والاقتصادية. هذا وأن روايات الحجاج المسلمين العربية أرقى في مستواها بكثير من مثيلاتها لدى المسيحيين كما أن قيمتها العلمية أكبر(1)

         وتعتبر (رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك) لابن جبير (2) واحدة من أهم المصادر التي ألقت الضوء على بعض الصور من علاقات المسلمين بالصليبيين تحت نفوذ الحكم الصقلي النورماني في الربع الأخير من القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي. هذا الكتاب هو أشبه بمذكرات يومية سجل ابن جبير فيها ملاحظاته أثناء رحلته التي بدأها في شوال سنة 578هـ، وانتهى منها بعودته إلى الأندلس 22 من المحرم سنة 581هـ. وهذه المشاهدات تعد بحق وثيقة تاريخية صادقة وبالغة الأهمية تعين الباحث على تلمس الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في الشرق الأدنى بصفة عامة، وأحوال المسلمين لمناطق نفوذ الصليبيين في جزيرة صقلية النورمانية بصفة خاصة.

         وقد أولى المستشرقون عناية خاصة بالرحلة، وتم تحقيقها لأول مرة سنة 1852 من طرف وليام رايت WILLIAM WRIGHT (3) من هذا المنطلق سنحاول الوقوف على ذلك في هذا العرض الذي نهدف منه توضيح بعض ما جاء في الرحلة من نصوص حول أوضاع المسلمين تحت الحكم الصقلي النورماني، وذلك على مستويين اثنين:

         - في المستوى الأول سنحاول رصد وتتبع صور حالة الرضى بالعيش تحت الإدارة الصقلية (رؤية الآخر، والتعايش معه).

         - بينما سنجنح في المستوى الثاني إلى مناقشة الصيغ والكيفيات التي تم بها عرض صور حالة الاضطهاد الديني وحتمية الخوف من المصير (الهجرة والإكراه).

         1 - حالة الرضى بالعيش تحت الإدارة الصقلية: (رؤية الآخر، التعايش)

         يبدو أن روح التسامح الديني التي أظهرها النورمان (4) سارت جنبًا إلى جنب مع الحماس الديني والعسكري منذ البداية. فمنذ أن استقر أمر الجزيرة لرجار الأول، جرى على سياسة التعايش بين المسلمين والصليبيين. يقول المؤرخ المعاصر (ملاترا) - من إن رجار لما فتح بلرم(1072م ) (بالرمو) وعد المسلمين بألا يؤذيهم بشيء، وأن لا يكره أحدا على تبديل دينه (5 ).

         ويقول الأدريسي عن الكونت رجار: ((ولما صار أمرها اليه.. نشر سيرة العدل في أهلها، وأقرهم على أديانهم وشرائعهم، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم، ثم أقام على ذلك مدة حياته..))(6).

         المستفاد أن المسلمين من أهل مدن صقلية الذين استسلموا بعد القتال وقعوا مع رجار الأول اتفاقيات حددت وضعهم وضماناتهم الدينية والاقتصادية، وبالتالي نال مسلمي مدينة بلرم شروطًا مرضية جدًا، ولكن هذه الاتفاقيات لم تنسحب على قسمي أهل البوادي والقرى في الجزيرة التي سقطت في أيدي النورمان دون مقاومة تذكر، ولم توقع اتفاقيات من شأنها أن تضمن حقوقها. ونحن إذا أغفلنا تدني وضع مسلمي البوادي إلى مرتبة رقيق بعد أن كانوا أحرارًا - نستطيع أن نقول إن أهل المدن كانوا أكثر حياة واستقرارا، لأن الملك كان يحميهم بنفوذه وقوانينه. وكان المسلمون من ناحيتهم يقبلون على الملك ويظهرون له الوفاء حتى يضمنوا لأنفسهم تقدمًا في دولته، وحتى يحميهم من أحزاب معادية كانت تنظر إليهم نظرة الحقد والريبة. ومن ثم فلا غرابة ما يصفه لنا فلقندو من أن النساء المسلمات في بلرم خرجن حين توفى غليالم الأول (وليام) يلبسن الثياب الخشنة، وقد نشرن شعورهن وملأن الفضاء بعويلهن، ورددن المراثي الشجية على نغمات الطنبور(7).

         مهما يكن. فقد استكانت النفوس في عهد غليالم الثاني (وليام) وساد عهده الهدوء والاستقرار، فقد كان محبوبًا من رعاياه النصارى، ولذلك أطلقوا عليه لقب (الطيب) يبدو أن فترة حكمه فترة هدوء وسلام لكل الفئات المجتمعية في الداخل، وتتجلى لنا أوضاع المسلمين في صقلية في عهد وليام الثاني واضحة والفضل عائد إلى الرحالة ابن جبير الذي قام بزيارة جزيرة صقيلة في سنة 580هـ/1185م خلال حكم وليام الثاني، وروايته تلقى ضوءًا مهمًا على حالة رضى الجماعة الإسلامية في تلك المرحلة من تاريخ الجزيرة.

         ففي وصف صورة الملك النورماني وليام الثاني يقول: وشأن هذا الملك عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين واتخاذ الفتيان المجابيب، وكلهم أو أكثرهم كما تم إيمانه متمسك بشريعة الإسلام... وله جملة من العبيد السود المسلمين وعليهم قائد منهم. ووزراؤه وحجابه الفتيان، وله منهم جملة كبيرة من أهل دولته.

         ومن عجيب شأن المتحدث به أنه يقرأ ويكتب العربية، وعلامته على ما أعلمنا به أحد خدمته المختصين به: الحمد لله حق حمده. وكانت علامته أبيه: الحمد لله شكرًا لأنعمه (8).

         قد وجد ابن جبير أن حزب القصر من المسلمين في بلرم مقربون إلى وليام الثاني، وأنه كثير الثقة، فلذلك استعملهم في كثير من الوظائف الإدارية والمالية، وهذا إن دل فإنما يدل على العداء المستتر بين حزب القصر برعاية الملكة مارجريت النافارية وولدها الملك وليام الثاني وحزب النبلاء وهم الأرستقراطيون المالكون للإقطاعات في بلرم وما جاورها من المدن الأخرى في الجزيرة. لذا، كان لأولئك الفتيان المسلمين الحظوة لدى الملك، إذ كانوا عيون دولته وأهل عمالته ومحل ثقته، فهم يصومون ويتصدقون ويفتكون الأسرى ويعد ابن جبير هذا صنع من الله عز وجل لمسلمي هذه الجزيرة وسر من أسرار اعتناء الله عز وجل بهم على حد تعبيره(9).

         كما يلقي لنا ابن جبير بعض الضوء على بقاء التراث العربي الإسلامي في بلاطه وفي الحياة الصقلية عامة، فهو يذكر أن علامة وليام الثاني بالعربية (الحمد لله حق حمده)، وأنه يتكلم بالعربية ويتشبه في الانغماس في نعيم الملك وترتيب قوانينه ووضع أساليبه وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهة الملك وإظهار زينته بملوك المسلمين.

         أما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلهن.. وأن الإفرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة، تعيدها الجواري المذكورات مسلمة، وهن على تكتم من ملكهن في ذلك كله (10).

         وحتى في خارج القصر، كانت النصرانيات في بلرم يقلدن المسلمات يقول في وصفه: وزي النصرانيات في هذه المدينة زي نساء المسلمين: فصيحات الألسن، ملتحفات، منتقبات، خرجن في هذا العيد المذكور (عيد ميلاد المسيح) وقد لبسن ثياب الحرير المذهب، والتحفن اللحف الرائقة، وانتقبن بالنقب الملونة... حاملات جميع زينة نساء المسلمين من التحلي والتخضب والتعطر(11).

         كما يمتدح ابن جبير وليام الثاني لاستفادته من خبرات المسلمين، فقد اتخذت دولته نوعا من أنواع الدواوين الإسلامية وهو ما يعرف بـ (ديوان الطراز) والتقى ابن جبير مع واحد من أولئك الطرازين يسمى يحيى ابن فتيان الطراز(12). وهنا نلحظ أن وليام الثاني قد تأثر بالصبغة الإسلامية في الأبهة الملوكية للحكام المسلمين في المشرق العربي.

         ولم ينس ابن جبير أن يسجل اللطف الذي قابله به النصارى ومبادرتهم له ولرفقائه بالسلام ومؤانستهم، ومحضهم النصح إذا اقتضى ذلك، وإغضائهم على تظاهر المسلمين عند تأديتهم بعض الشعائر الدينية في شهر رمضان وعيد الفطر. حتى يتراءى لابن جبير ان من سياستهم ولين مقصدهم مع المسلمين، ما يوقع الفتنة في نفوس أهل الجهل على حد تعبيره(13).

         ويلاحظ ابن جبير في مدينة بلرم أن للمسلمين رسم باق من الإيمان، فهم يعمرون أكثر مساجدهم ويقيمون الصلاة بأذان مسموعة، ولهم أرباض (أحياء سكنية) قد انفردوا فيها بسكناهم مع النصارى، والأسواق معمورة بهم، وهم التجار فيها... وأما المساجد فكثيرة لا تحصى، وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن (14).

         وبالجملة، فإن عامة المسلمين كانوا ينظرون إلى إخوانهم المسلمين الموظفين في خدمة النورمان بأنهم غرباء عنهم، وأنه لا يشعرون بالاطمئنان على أموالهم ونسائهم وأبنائهم(15) .

         أما في مدينة ثرمة (Threma) فقد وجد بن جبير أن للمسلمين ربضا كبيرا، لهم فيه المساجد، وكان في قصر سعد وهو على فرسخ من مدينة بلرم قبور كثيرة لصلحاء المسلمين من أهل الزهادة والورع، وهذا القصر موصوف بالفضل والبركة مقصود من كل مكان. ويذكر لنا ابن جبير أنه يوجد في أعلى قصر سعد مسجد من أحسن مساجد الدنيا بها، فبتنا في هذا المسجد أحسن مبيت وأطيبه، وسمعنا الأذان وكنا قد طال عهدنا بسماعه (16).

         يبدو أن أحوال المسلمين في بلرم وثرمة أثناء فترة حكم وليام الثاني التي سادها السلام والتسامح كانت مرضية ولم تكن آمنة تمامًا. ذلك إذا ضعف الملك عن حمايتهم تتربص بهم الدوائر من غلاة النصارى، والملاك الاقطاعيين. هذا حالهم في الحواضر والمدن على حد تصورنا.

         أما في البوادي والأرياف فلم يكونوا إلا أرقاء ورهائن في يد الملك يهدد بهم حكام المسلمين الموحدين نموذجا.

         ويبدو، أن النورمان آمنوا بالواقع وخضعوا لاعتبارات الموقع الجغرافي، والحقائق السياسية الخارجية، والحالة الحضارية الداخلية الأمر الذي جعل التوازن بين المصالح والفئات المتضاربة أمرًا لا غنى عنه.

         إذن، يتضح مما سبق أن وصف ابن جبير كان يهم منطقة محددة هي تلك التي يتحدث عنها في زمن محدد هو الذي صور فيه ما رأى إن كان تدوينه لما شاهد تدوينًا آنيًا(17). وأنه من غير الصحيح تعميم هذه المشاهدات على مناطق أخرى حتى في نفس الفترة.

         2 - حالة الاضطهاد الديني وحتمية الخوف من المصير: (الهجرة والإكراه)

         إن المتتبع للنصوص التي وردت بهذا الصدد يلاحظ أن مناطق الموانئ والقرى والمزارع تضررت أكثر من غيرها بحركة الهجرة التي حدثت إبان الهجمة النورمانية على الجزيرة، بل لقد استمرت هذه الهجرات إلى حدود الربع الأخير من القرن السادس الهجري. وهذا ما يدعونا للتفكير مليًا في أحوال المسلمين الاجتماعية في مناطق نفوذ الإدارة الصقلية، وفي الترقب المستمر الذي كان يشعر به هؤلاء إزاء أسيادهم حتى العقدين الأخيرين من القرن السادس الهجري.

         فعلى الرغم من حالة التعايش والتسامح المؤقت بين الطرفين، إلا أنه لا يصح تعميم ما ذكر مع الواقع التاريخي الذي يأخذ اعتبار السياق والزمان والمكان، وفي فترة كتلك التي تغطيها أحداث الرحلة خاصة ما تعلق منها بالقرى والبوادي التي سقطت في أيدي النورمان دون مقاومة تذكر ولم توقع اتفاقيات من شأنها أن تضمن حقوقها. من أجل ذلك تدني وضع مسلمي هذه المناطق إلى مرتبة رقيق أو أقنان أرض للسادة الإقطاعيين.

         من ذلك ما أورده ابن جبير عن المسلمين في مسينة، إذ يقول إنه ليس فيها من المسلمين إلا نفر يسير من ذوي المهن، ولذلك يستوحش بها المسلم الغريب(18).

         كما يتحدث أنه لولا حضور الملك الصقلي فيها لانتهب جميع ما في المركب الذي أقله انتهابًا، وربما كان يستعبد جميع ما فيه من المسلمين، لأن العادة جرت لهم بذلك(19).

         ويتضمن مؤلفه كذلك نصًا مفيدًا يساعد المهتم على فهم الوضع القيدي للمسلمين التابعين لمناطق نفوذ البارونات النورمان واللمبارد- يقول فيه:

         وضربوا عليهم إتاوة في فصلين من العام يؤدونها، وحالوا بينهم وبين سعة في الأرض كانوا يجدونها...(20)

         إشارة تجسد تدني وضعية المسلمين في هذه المناطق وتضيق الكامل للممتلكات من الأراضي التي آلت ملكيتها تباعًا إلى الكنيسة ورجال الدين والنبلاء الإقطاعيين والمزارعين النصارى، يبدو أن الفلاحين المسلمين فقدوا كل حرية وأصبحوا رقيق أرض أو عبيدًا.

         هذا ويتفق المؤرخ هوجو فلقندو على ما ذكره ابن جبير، فهو يذكر أن رجال الجرائد (عبيد الأرض) في صقلية كانوا مسلمين أو يونانا يقول: وليس في صقلية من يدفع الجزية السنوية إلا المسلمون واليونان وهم وحدهم الذين يلحقهم اسم الأرقاء (رجال الجرائد) (21).

         وتثبت وثيقة عربية من القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي أن العرف التجاري كان يسمح بأن يباع الحر عبدًآ، فقد أذن لجماعة من البحّارة المسلمين أن يحملوا ذهبًا من جفلوذ إلى مسينة خاصًا بسيد اسمه وليم، ويرهنوا ممتلكاتهم ضمانًا عنه، وكان فيهم حاج يدعى عثمان رهن نفسه من الصراف، لأنه لم يكن يملك شيئًا آخر حتى إذا استطاع أن يدفع ما عليه أصبح حرّا(22).

         ومن القضايا الاضطهادية التي لفتت انتباه ابن جبير كذلك اختيار كتمان الإسلام كوسيلة للبقاء، إذ يقدم لنا في هذا الصدد ما يعكس حالة الاضطهاد الديني، وتأتي أهمية شهادته من أنه كان شاهد عيان. ومما سجله أنه لقى من المسلمين بمسينة فتى اسمه عبدالمسيح من وجوههم وكبرائهم، فاحتفل في كرامتنا وبرنا، وباح لنا بسرّه المكنون بعد مراقبة منه مجلسه أزال له كل من كان حوله ممن يتهمه من خدامه محافظة على نفسه... وقال لنا: أنتم مدلون بإظهار الإسلام، ونحن كاتمون إيماننا، خائفون على أنفسنا، متمسّكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرّا، معتقلون في مملكة كافر بالله، قد وضع في أعناقنا ربقة الرق، فغايتنا التبرّك بلقاء أمثالكم من الحجاج.... (23).

         هذا ويضيف ابن جبير أن (من عجيب شأن هؤلاء الفتيان أنهم يحضرون عند مولاهم فيحين وقت الصلاة فيخرجون أفذاذًا من مجلسه فيقضون صلاتهم، وربما يكونون بموضع تلحقه عين ملكهم فسترهم الله، فلايزالون بأعمالهم وبنصائحهم الباطنة للمسلمين في جهاد دائم....)(24).

         ولا ننسى أيضًا أنه حينما كان ابن جبير ببلرم ترك لنا وصفًا يحاكي حالة الاضطهاد والوضع النفسي للمسلمين فيها، فقد كانت صلاة الجمعة محظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة دعاؤهم فيها للخليفة العباسي... وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار ولا أمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم ولا أبنائهم(25).

         من هذا نخلص أن عقدة الاضطهاد والاكراه مستمرة حتى في الحاضرة الصقلية، فكما نلحظ بأن صلاة الجمعة محظورة عليهم، والخطبة في العيدين في الحاضرة بلرم كانت الدعوة فيها للخليفة العباسي الناصر لدين الله وقتئذ، وكان ضعيفًا نائيًا في بغداد، ولم تكن للخليفة الموحدي أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي الأقرب إليهم في المغرب، وإن دل هذا فإنما يدل على العداء والتربص الخفي بين الموحدين والصقليين، خصوصاً بعد أن بسطوا سيطرتهم على مدن ساحل أفريقيا عام 555هـ/1160م. وكان لهذا العامل الأخير تأثير كبير على وضع المسلمين في الجزيرة، وذلك بأن جرّدوا من السلاح في بلرم. ولما تم تجريدهم من السلاح وقعوا فريسة سهلة لسخط اليارونات النورمان واللمبارد في سنة 1161م.

         ولم تكن ترتاح نفوس النصارى في اطرانبش من جزيرة صقلية من التظاهر الصاخب بالأعياد الدينية للمسلمين، فتلك الطبول والبوقات كانت تزعق في أسماع أهل النصارى بأصوات التحدي، وتدوي بالكراهية المتبادلة التي تغطى بالاغضاء والتورية.

         يقول ابن جبير: وخرج أهل البلد إلى مصلاهم مع صاحب أحكامهم وانصرفوا بالطبول والبوقات، فعجبنا من ذلك ومن إغضاء النصارى لهم عليه(26).

         ومن حسن الطالع أن طال مقام ابن جبير في اطرانبش مضطرًا، وذلك لتعذّر الابحار منها بسبب الأنواء وسوء الأحوال الطقسية، وقد مكنه ذلك أن قدم لنا صورًا ومشاهدات بالغة الأهمية تفيد عن حالة حتمية الخوف من المصير القادم في جزيرة صقلية. يقول: وأهل النظر في العواقب منهم يخافون أن يتفق على جميعهم ما اتفق على أهل جزيرة أقريطش (كريت) من المسلمين في المدة السابقة، فإنه لم تزل الملكة الطاغية من النصارى والاستدراج الشيء بعد الشيء حالاً بعد حال حتى اضطروا إلى التنصّر عن آخرهم، وفر منهم من قضى الله بنجاته.... (27).

         وقد ترجم هذا الوضع النفسي إلى هجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام، إذ ارتبطت في أغلبها بالأوضاع المزرية التي كان يتخبّط فيها المسلمون في تلك الناحية. وكانت أطرانبش (في الطرف الغربي من الجزيرة) - الميناء الرئيسي لهجرة المسلمين إلى الأندلس وشمال أفريقيا(28 ).

         وبخصوص أسباب هذه الهجرات وظروفها، انفرد ابن جبير بذكر معلومات قيمة، تلقي الضوء على أحوال المسلمين في مدينة أطرانبش من جزيرة صقلية، بل تحدثت عن هجرات فردية من مختلف الشرائح الاجتماعية في الجزيرة، فهو يتحدث عن فقيه اسمه ابن أبي زرعة، ضغطته العمال بالمطالبة حتى فراق دين الاسلام والانغماس في دين النصرانية ومهر في حفظ الإنجيل، ومطالعه سير الروم، وحفظ قوانين شريعتهم، فعاد في جملة القسيسين الذين يستفتون في الأحكام النصرانية، ربما طرأ حكم إسلامي فيستفتى فيه أيضًا لما سبق من معرفته بالأحكام الشرعية(29 ).ومع ذلك

         فأعلمنا أنه يكتم أيمانه، فلعله داخل تحت الاستثناء في قوله: (الا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)(30).

         ويمكن القول أن من أسباب هجرة العلماء، تكمن إما في عدم رضاهم بالعيش في دار الحرب، وفي عجزهم عن إظهار دينهم (حالة ابن أبي زرعة)، أو في عدم توافر مراكز علمية فيها مساحة من الحرية في إلقاء الدروس الدينية وإبداء الاجتهادات من فتاوي ونوازل شرعية.

         كذلك يتحدث ابن جبير عن اجتماعه بزعيم مسلمي صقلية القائد أبي القاسم بن حمود، المعروف بابن الحجر، وقدم قدِم إلى أطرانبش أثناء مقام ابن جبير فيها، وكان هذه المدة تحت هجران من هذا الطاغية (وليام الثاني) ألزمه داره بمطالبة توجهت عليه من أعدائه افتروا فيها أحاديث مزوّرة نسبوه فيها إلى مخاطبة الموحدين... وتوالت عليه مصادرات أغرمته نيفًا على الثلاثين ألف دينار مؤمنية... فاتفق في هذه الأيام رضى الطاغية عنه، وأمره بالنفوذ لهم أشغاله السلطانية... وصدرت عنه عند وصوله إلى هذه البلدة (أطرانبش) رغبة في الاجتماع بنا، فاجتمعنا به فأظهر لنا من باطن حاله وبواطن أحوال هذه الجزيرة مع أعدائهم ما يبكي العيون دمًا، ويذيب القلوب ألمًا، فمن ذلك أنه قال: كنت أود لو أباع أنا وأهل بيتي، فلعل البيع يخلصنا مما نحن فيه، ويؤدي بنا إلى الحصول في بلاد المسلمين...

         (ومن عظم هذا الرجل الحمودي في نفوس النصارى أبادهم الله أنهم يزعمون أنه لو تنصّر لما بقى في الجزيرة مسلم إلا وفعل فعله اتباعًا له واقتداء به...)(31).

         مما يؤكد على ما ذكره ابن جبير أن الشاعر المصري ابن قلاقس كان قد حلّ ضيفًا على أبا القاسم بن الحجر (563هـ/1168م)، وقد امتدحه بقصائد وألف له كتابًا (الزهر الباسم في أوصاف أبا القاسم)، وكان زعيم المسلمين حينئذ في الجزيرة، والذي يعرفه أنه كان يلقّب بالقائد، وأنه كان من الأغنياء ذوي الاقطاعات الواسعة(32).

         يبدو أن المنصب الذي يحتله أبو القاسم في الإدارة الصقلية له رونقه الخاص، فهو يخيل إلينا أنه كان صاحب ديوان الإنشاء، ولعل الأصح أنه كان رئيسًا على كل الدوائر الإسلامية من ديوان إنشاء وطراز وسلطة إدارية وغيرها(33).

         أما مسألة تهمة مخاطبة الموحدين، ففيها دراية ونظر، لأن الهروي يقول أنه اجتمع به في صقلية فأعطاه أبو القاسم كتابًا إلى السلطان الموحدي يحث فيه على أخذ الجزيرة (34). ولعل هذا التدبير قد استغله أعداؤه فوشوا به إلى الملك فشقى بالمصادرة حتى بقى دون مال. على حد قول ابن جبير. ولم يقتصر الأمر على التصدي لفقيه أو زعيم كما رأينا، بل تعداه إلى حد تعرض الأسر المسلمة المحافظة للتفسّخ والانحلال من جراء المغريات نحو التنصّر، فضلاً عن الضغوط التي كان يتعرض لها المسلمون لهذا الغرض. من ذلك ما أورده ابن جبير بقوله: (ومن أعظم ما منى به أهل الجزيرة أن الرجل ربما غضب على ابنه أو على زوجه....فتلحق المغضوب عليه آنفة تؤدية إلى التطارح في الكنيسة فيتنصّر ويتعمّد... فهم الدهر في مداراة الأهل والولد خوف هذه الحال)(35).

         كل ذلك جعل أهل النظر من المسلمين يخشون أن يحل بهم ما حل بمسلمي جزيرة أقريطش (كريت) بعد استيلاء الروم عليها من أيدي المسلمين سنة 961م(36).

         ويذكر ابن جبير أن ملكة أقريطش (كريت) النصرانية لم تزل تستدرج المسلمين شيء بعد شيء حتى اضطروا إلى التنصّر عن آخرهم، وفرّ منهم من قضى الله بنجاته على حد قوله(37).

         ولا ننسى أن فئة من أعيان المسلمين في صقلية ترى أن الحل الوحيد لمشاكلها هو الهجرة إلى بلاد المسلمين، وكان يُرى أن من الأجدر تزويج الفتيات من زائرين ومسافرين من بلدان إسلامية أخرى، وذلك بغية في أن يجنبهن ما قد يحصل من الفتن، ورغبة في التخلص إلى بلاد المسلمين بأنفسهم إذا زالت الغمة عنهم(38).

         يبدو أن الهجرة من صقلية لم تكن سهلة، ولا كانت السلطات الصقلية تسمح بها، إلا إذا كانت في ظروف طبعت بالكتمان والسرية التامة خوفًا على أنفسهم من النصارى، فلا غرابة في أن يتطلع المستضعفون من المسلمين إلى عون ونجدة الموحدين كما تطلع مسلمو الأندلس إلى نجدة المرابطين قبل ذلك بقرن من الزمان.

         ومن كل ما سبق نصل إلى النتيجة التالية وهي أن المسلمين كانوا في الجزيرة معرضين للاضطهاد والخوف من البطش في أغلب الأحايين، كما يذهب إلى ذلك ابن جبير في مواضع عدة، وهذا ما يفسر لنا كل هذه الشكاوى والهجرات الفردية من مختلف الفئات الاجتماعية، فأيّا كانت هذه الأسباب دينية أو سياسية، فالنتيجة هي تبدد السكان المسلمون الباقون في الجزيرة إما للهجرة إلى الخارج إلى بلاد المسلمين، وإما للتنصير، وحينئذ تكون الخريطة العرقية والسكانية للجزيرة قد طرأ عليها تغير كبير، ولا أمل في تبديله، على حساب المسلمين(39).

         وقد صدق بعيدو النظر من المسلمين في ما يخبئه المستقبل لهم، فبعد خمس سنوات من زيارة ابن جبير وقعت أعمال شغب في سنة 1189م، كان العنصر المسلم من السكان هدفًا واضحًا، حيث كان مايزال لبعض المسلمين ممتلكات واسعة ومناصب ذات نفوذ في جهاز الدولة. يقول ماك سميث:إن هؤلاء المواطنين المختلفين (المسلمين) عن بقية سكان الجزيرة، كان من المرجح أن يصبحوا كبش الفداء في أي لحظة تحدث فيها أزمة سياسية أو اقتصادية (40).

         يبدو أن الوضع ازداد سوءًا على إثر المذابح والثورة في سنة 585هـ/89-1190م، وذلك بعد وفاة وليام الثاني الذي كانت حمايته للمسلمين تزيد من كره الصليبيين لهم.

         من أجل ذلك أصبح بقاء الإسلام في صقلية أمرًا صعبًا، لأن من تبقى أُكره على التنصر أو الرحيل عن الجزيرة فهذا حالهم في المدن في أواخر العهد النورماني، فما بالك بالمناطق الأخرى في الجزيرة.

الخاتمة

         بعد استعراضنا لعناصر ومكونات الصورة التي أنتجها ابن جبير في رحلته عن أوضاع المسلمين في صقلية النورمانية خلال الربع الأخير من القرن السادس الهجري، والوقوف عند بعض مضامينها وأوجه مقاصدها. يجدر بنا أن نسجل الخلاصات التالية:

         1 - رسم ابن جبير الخطاطة الأولى لصورة أوضاع المسلمين في جزيرة صقلية، ويمكن تقسيم هذه الصورة إلى شطرين أولهما تقريرًا إيجابيًا إلى حدّ ما، بينما يتضمن الثاني تقريرًا سلبيًا يشبه ما تداولته أقلام المؤرخين المسلمين عن حالة الاضطهاد والبطش التي كانوا يعيشون إحدى مراحلها. وبالاستناد إلى روايات ابن جبير، يمكن القول أن المسلمين في المدن كانوا يتمتعون بشيء من الحرية، ولا يحق لهم التوسع في ممتلكاتهم. أما فلاحي الأرياف فقدوا كل حرية وأصبحوا رقيق أرض أو عبيدًا أو جندًا في الجيش والأسطول النورماني.

         2 - إن حالة الرضا المؤقتة التي تحدّث عنها تشكّل استثناء، حيث بينت الدراسة عدم إمكان إسقاطها على حاضرة المملكة الصقلية (بلارمه) في فترات مغايرة، فما بالك بالمناطق الأخرى لـ(مسنية وأطرابنش)، مما يجعل كل تعميم في هذا الشأن بعيد كل البعد عن الواقع التاريخي.

         3 - يمكن اعتبار نصوص ابن جبير وثيقة هامة للغاية، ولكنها لا تشكّل رؤية متكاملة إلا إذا تم اعتماد الباحث كذلك على كتابات المؤرخين الافرنجة الذين عاصروا بدورهم هذه الفترة.

         4 - إن صورة أوضاع المسلمين في صقلية التي تشكلت في عقلية ابن جبير كانت محكومة في منطلقاتها من خلفية فكرية وثقافية، فهو العالم والمحدث، وبالتالي فإن نظرته توحي للمتمعن في أن أوضاع المسلمين تحت النفوذ الإسباني النصراني كانت متردّية.

بيبلوغرافيا

          (1) أحمد النفيس، الفكر الجغرافي عند المسلمين، ترجمه فتحي عثمان، دار القلم، الكويت 1978، ص39.
(2) أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، الشاطبي البلنسي، ولد في بلنسية سنة 539هـ. وكانت وفاته بالإسكندرية، حيث أقام هنالك محدثًا، في سنة 614هـ.
(3) Wright (w.) Travels of Ibn Jobir, len 2581. سأعيد طبع الرحلة سنة 1907. وحقق المستشرق أماري Amari الجزء الخاص بصقلية من الرحلة وأفاد منها المستشرق Crolla في بحثه عن جزيرة صقلية. وقد حقق حسين نصار رحلة ابن جبير وطبعت في مصر على النسخة الأوربية سنة 1955، وأعيد طبعها في لبنان سنة 1981.
(4) النورمان كما يستدل من اسمهم (North men, Vikings) هم من أهل شمال أوربا - اسكندناوة - واستقر بعضهم في شمال فرنسا حيث استقلوا بإمارة عرفت إلى الآن باسمهم وهي نورماندي، والنورمانيون فرنسا مرتزقة عملت في صفوف الجماعات المتحاربة في جنوب إيطاليا، وقد برزوا في ميدان التنظيم العسكري، وقد نجحوا في توطيد أقدامهم في جنوب إيطاليا (بولية وقلّورية) ضد الروم البيزنطيين ومن ثم وجهوا اهتمامهم إلى صقلية، وكان قدوم النورمان منذ استيلائهم على مسينة عام 1061، بغرض الفتح والاستقرار وانتزاع السيادة على الجزيرة من أيدي المسلمين. د.أمين توفيق الطيبي، دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية، بنغازي، ليبيا، ط.1، 1990، ص19، 20.
(5) مورينو، مارتينو ماريو، المسلمون في صقلية، بيروت، 1968، ص190.
(6) أماري، م، المكتبة العربية الصقلية، ليسبك، 1875، ص26.
(7) Amari, Michle, Storia dei Musul mani di Sicilia, 3vols. Seconda ediziene, Catania 1933 - 1939, P.502.
(8) ابن ابن جبير، الرحلة، دار الشرق العربي، بيروت، ب. ت. ، ص254.
(9) المصدر نفسه، ص255.
(10) المصدر نفسه، ص254.
(11) المصدر نفسه، ص261.
(12) المصدر نفسه، ص254.
(13) المصدر نفسه، ص257.
(14) المصدر نفسه، ص260.
(15) المصدر نفسه، ص260.
(16) المصدر نفسه، ص258.
(17) هناك من يذكر أن ابن جبير كتب أخبار الرحلة فيما يقرب من سنة 583هـ بعد أن شاع خبر فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين. عبدالمجيد بهيني، أوضاع المسلمين تحت الإدارة الصليبية من خلال رحلة ابن جبير، أعماله ندوة المغرب - المشرق: العلاقات والصورة، جامعة القاضي عيّاض - كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني هلال، 1999، ص175.
(18) ابن جبير، الرحلة، ص253.
(19) المصدر نفسه، ص252.
(20) المصدر نفسه، ص253.
(21) Amari, 3, P.952.
(22) إحسان عباس، العرب في صقلية، دار المعارف، مصر، 1959م، ص143.
(23) ابن جبير، الرحلة، ص255.
(24) المصدر نفسه، ص255.
(25) المصدر نفسه، ص260.
(26) المصدر نفسه، ص263.
(27) المصدر نفسه، ص268.
(28) المصدر نفسه، ص263.
(29) المصدر نفسه، ص266،267.
(30) سورة النحل، الآية 106.
(31) ابن جبير، الرحلة، ص267.
(32) ابن قلاقس، الاعز نصر الله بن فتوح، ترسل ابن قلاقس:34 من نسخة خطية رقم 17، أدب بالمكتبة التيمورية، إحسان عباس، العرب في صقلية ص 289.
(33) إحسان عباس، العرب في صقلية، ص192.
(34) الهروى، الإشارات إلى معرفة الزيارات، المكتبة الملحق الثاني، ص2.
(35) ابن جبير، الرحلة، ص268.
(36) أمين توفيق الطيبي، دراسات في تاريخ صقلية الاسلامية، اقراء للطباعة، بنغازي، 1995، ص36-37.
(37) ابن جبير، الرحلة، ص268.
(38) المصدر نفسه، ص 268-692.
(39) عزيز أحمد، تاريخ صقلية الاسلامية، نقله إلى العربية وقدم له أمين توفيق الطيبي، الدار العربية للكتاب، 1980، ص48.
(40) ماك سميث، تاريخ صقلية في القرون الوسطى (بالانجليزية)، ص 45،46، عزيز أحمد، تاريخ صقلية الاسلامية، ص85.