ملتقيات العربي

ندوة حوار المشارقة والمغاربة

اليوم الثالث الجلسة المسائية الثانية


أبحاث الفترة المسائية الثانية ليوم الإثنين
رئيس الجلسة: أ.د. سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب ـ مصر
قراءة عربية للنهضة الأوربية
د. حسن حنفي

أولا: القراءة المزدوجة بين الأنا والآخر

         كثر الحديث عن فجر النهضة العربية الأولى منذ القرن التاسع عشر وروادها الأوائل سواء الإصلاح الدين عند الأفغاني أو الفكر الليبرالي عند الطهطاوي وخير الدين أو الفكر العلمي العلماني عند شبلي شميل، وما آلت إليه هذه التيارات الثلاثة من انقلاب على ذاتها فأصبحت النهايات غير البدايات، والنتائج غير المقدمات. فشتان ما بين الأفغاني، الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، والجماعات الإسلامية المعاصرة، الخطاب الديني المغلق الذي يقوم على الشعارات المطلقة. وشتان ما بين الطهطاوي وخير الدين والليبرالية الوطنية، (فليكن هذا الوطن مكاناً لسعادتنا أجمعين نبنيه بالحرية والفكر والمصنع)، والليبرالية الغربية الرأسمالية التابعة التي يمثلها رجال الأعمال في عصر الانفتاح. وشتان ما بين شبلي شميل الذي يؤسس العلم الطبيعي والعلم الاجتماعي على أساس من العقل والطبيعة وبين كتاب العلم والإيمان، والعلم في القرآن. كانت نقاط البداية في عصر النهضة ثلاثة: الأولى الدين، لا يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير فهمنا للدين أولا، وهو طريق الإصلاح. والثانية الدولة، لا يتغير شيء في الواقع إن لم نبن الدولة الحديثة أولا، وهو طريق الليبرالية السياسية. والثالثة العلم، لا يتغير شيء في الواقع إن لم نبدأ بالعلم الطبيعي أولا ونفصل بين الدين والدولة، وهو الطريق العلمي العلماني.

         كما عم حكم شائع عند العلمانيين، أن فجر النهضة العربية متأثر بالغرب وتياراته الفكرية. فقد وعى الإصلاح الديني النموذج الليبرالي الغربي بالرغم من هجومه على دارون والاشتراكيين (السوسيالست)، والشيوعيين (الكومونيست)، والعدميين (النهيلست) كما فعل الأفغاني في (الرد على الدهريين). وأعجب محمد عبده بسبنسر وتولستوي وآرائهما في التربية. وروج الطهطاوي في (تلخيص الإبريز) وفي (مناهج الألباب) لمثل التنوير الأوربي، العقل والطبيعة والإنسان والحرية والعدالة الاجتماعية والتقدم. ورأي مقاربة بين مونتسكيو ابن خلدون الغرب، وابن خلدون مونتسكيو الشرق، بين الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة والقانون الطبيعي في (روح القوانين). كما ترجم (الشرطة) ميثاق نابليون ووجده متفقا مع الشريعة. وظل النموذج قائما عند أحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد. وارتبط التيار العلمي العلماني عند شبلي شميل وفرح أنطون ويعقوب صروف وسلامة موسى وزكي نجيب محمود بدراون وسبنسر في العلم الطبيعي ونظرية التطور، وجان جاك روسو في نظرية العقد الاجتماعي، وأراد نفس البداية، فصل الدين عن الدولة وإقامة مجتمع مدني يقوم على العقد الاجتماعي. فالإنسان مواطن في دولة وليس مؤمنا في كنيسة أو رعية في ملكية. والعقل قادر على النظر في الطبيعة، ومعرفة قوانينها.

         والسؤال الآن: هل النهضة الأوربية التي كانت نموذج النهضة العربية، خلق إبداعي على غير منوال أم أنها نتاج الحضارة الإسلامية في فترتها الأولى عندما أبدعت العلوم وقامت على العقل والطبيعة ثم ترجمتها إلى اللاتينية مباشرة أو عبر العبرية وأصبحت أحد روافد النهضة الأوربية؟ هل يمكن إعادة قراءة عصر النهضة الأوربي قراءة عربية، إرجاعا لها لأحد مصادرها الأولى وروافدها المعلن عنها أحيانا والمستورة في أغلب الأحيان؟ هل يمكن أن تصبح الأنا قالبا يوضع فيه الآخر، وإطارا مرجعيا له بدل أن يكون الآخر إطارا نظريا توضع الأنا فيه؟ هل يمكن إعادة كتابة تاريخ النهضة الأوربية بل وتاريخ الوعي الأوربي كله من منظور عربي في هذه الفترة التي يتم فيها التحول من الغرب إلى الشرق، ومن (أفول الغرب) إلى (ريح الشرق)، ومن الاستشراق إلى (الاستغراب)؟

         وهناك حكم شائع آخر عند السلفيين أن سبب انهيار ما يسمى بفجر النهضة العربية هو تبنيها للنموذج الغربي: القطيعة مع الماضي، وفصل الدين عن الدولة، وجعل الدين مجرد علاقة خاصة بين الانسان والله، والحكم بالقانون الوضعي، والاعتماد على العلم، وجعل العقل والطبيعة مصدرين للمعرفة، والإنسان مركز الكون، والتقدم جوهر التاريخ، والتغير قلب الزمان، وإيثار المتحول على الثابت. وهو أيضا حكم جائر لأن الأسس التي قامت عليها النهضة الأوربية ومُثــُل التنوير لا تختلف كثيرا عن مقاصد الشريعة كما حددها الشاطبي، الحياة (النفس)، والعقل، والمبدأ العام الشامل (الدين)، والكرامة (العرض)، والثروة الوطنية (المال). وربما كانت الطبيعة البشرية واحدة، والتجارب البشرية متكررة كما يبدو ذلك من قوانين التاريخ، وقيام الحضارات وسقوطها.

         والسؤال الآن هو: إذا كان ذلك الحكم صحيحا فهل يمكن القيام بنهضة عربية ثانية لها نموذجها الخاص، وتطور الإصلاح إلى نهضة، وتقيله من عثرته، وترسي قواعد فجر نهضة عربية جديد؟ ألا يمكن التعلم من تجربة النهضة العربية الأولى التي قامت على النموذج الغربي أو قراءته في التراث القديم أو الانتقاء من التراث القديم ما يتفق مع النموذج الغربي؟ ألا يمكن إبداع نموذج خاص لفجر نهضة عربية ثانية تعلمت من الأولى بعد أن غامت الرؤية، وانهارت الأيديولوجيات في واقع عربي يزداد تأزما يوما بعد يوم؟ هل يمكن تطوير الإصلاح إلى نهضة شاملة، وينتصر الجديد على القديم، ويصبح الإنسان مركزا للكون، والطبيعة في مواجهة العقل، والمجتمع لحظة في تطور التاريخ؟

ثانيا: التيارات الفكرية في عصر النهضة الأوروبي

         يعتبر عصر النهضة الأوربي حلقة الاتصال الفعلي بين العصر الوسيط والعصور الحديثة كما أننا الآن ننهي عصرنا الوسيط منذ مائتي عام لبداية عصورنا الحديثة. وهو المتوجه نحو المستقبل في حين كان الإصلاح الديني الإسلامي والمسيحي متوجها نحو الماضي لإعادة بنائه طبقا لروح العصر.

         يدرسه الباحثون الأوربيون باعتباره جزءا من التاريخ الأوربي، ثورة على القديم أو إرهاصات للجديد أو إعادة تقييم ونقد كما يحدث حاليا في الدراسات حول الإصلاح الديني والمذهب الإنساني. فإذا كان قد دخل في نطاق التاريخ في التراث الغربي وأمكن تجاوزه فإنه بالنسبة لنا مازال حيا للغاية يمكن أن يعطينا نماذج لما تكون عليه الحضارة في نهاية فترة وبداية أخرى. فنحن تاريخيا مررنا بأواخر القرن الرابع عشر الأوربي، عصر الإحياء، وقد ظهر لدينا في الشعر. وفي بداية الخامس عشر نحاول الدفاع عن كرامة الانسان وحريته، وإقامة نظام ديموقراطي، والشك في الموروث، وتأسيس العلم. نعيش مشاكل عصر النهضة الأوربي. وربما نمر بمرحلته التاريخية دون أن يعني ذلك أي تواز بين المسارين. فلكل حضارة مسارها الخاص. قد يعني عصر النهضة قدرة الوعي الأوربي على اكتشاف الحقائق الإنسانية والطبيعية والدينية بنفسه، اعتمادا على جهد العقل ورؤية الطبيعة. وهو اقتراب غير مباشر من النموذج الإسلامي في تراثنا القديم، وحدة الوحي والعقل والطبيعة والذي تسرب قبيل عصر النهضة إلى الوعي الأوربي بعد نقل التراث الإسلامي من العربية إلى اللاتينية. وبالتالي يمكن القول بما قاله أحد علماء المشرق عندما قرأ مؤلفا مغربيا تلك بضاعتنا ردت إلينا.

         والبحث التاريخي ضروري لمعرفة كيف تسرب التراث الإسلامي في ثنايا عصر النهضة الأوربي. وهو بحث مشروع وضروري من حيث الكم. ومع ذلك فالوصف الكيفي أيضا ضروري عن طريق فعل القراءة دون الأخذ بالشبهات والوقوع في منطق التشابه والاختلاف. وقد قدم كاسيرر في (فلسفة عصر النهضة) نموذجا لدراسته طبقا للبواعث أو المقاصد فيه مثل العقل والحرية والإنسان والعدالة الاجتماعية. وهي مقاصد طبيعية في كل حضارة تتحول من القديم إلى الجديد، ومن الركود إلى النهضة، ومن التوقف إلى الحركة. ومن ثم كان المنهج (الظاهرياتي) أفضل المناهج، يبدأ من التجربة دون الوقوع في حواملها المادية. ويتحد بالموضوع ويحوله إلى قصد. ويدركه بالحدس قبل أن يحلله بالعقل. وتتطابق التجارب في التجربة المشتركة للأفراد والحضارات.

         ويمكن التمييز بين خمسة تيارات في عصر النهضة الأوربي. قد تتداخل فيما بينها أحيانا. فمثلا يوجد لورنزو فالا بين المذهب الإنساني والعلمانية كنظام سياسي. وبيكو دي لاميراندولا بين المذهب الإنساني وتأسيس العلم.

         1 - الأفلاطونية. وقد حاولت إحياء القديم والتحول من أرسطو والعودة إليه من جديد، إلى الأفلاطونية الجديدة وإشراق النفس، وحديث القلب. فقد استمرت الفلسفة الإلهية في القرن الخامس عشر عند الأفلاطونيين مثل نيقولا الكوزي(1). فأحيا الأفلاطونية الصوفية من جديد كمقدمة للإصلاح الديني. والفلسفة الحديثة التي بدت عند ديكارت وكانط أفلاطونية أكثر منها أرسطية، وأوغسطينية أكثر منها توماوية. وهو طريق الصوفية والذي جعله الغزالي في (إحياء علوم الدين) بعد (المنقذ من الضلال) نهاية البداية الأولى، وبداية البداية الثانية. استعمل طريقة اللاهوت السلبي الذي كان مؤثرا إبان عصر النهضة لقدرته على الرفض والتطهير والتخلص من كل مظاهر التجسيم والتشبيه دفاعا عن التنزيه كما فعل المعتزلة من قبل. وقرظ الجهل العالم في مقابل العلم الجاهل كما فعل بترارك. الجهل العالم هو البراءة الأصلية التي تحدث عنها الأصوليون القدماء والفطرة البشرية، والعلم الطبيعي المغروز في النفس، النور الفطري الذي تحدث عنه ديكارت بعد ذلك. استعمل المنطق المدرسي كما استعمل القدماء المنطق الأرسطي. وبحث في طبيعة الله والكون على طريقة الأفلاطونية الجديدة. طبيعة الله سر، والعلم بها نسبي كما قال القدماء في الذات الإلهية (كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك) طبيعة الله مجهولة كما قال القدماء أن الذات الإلهية لا يمكن معرفتها بل مقايستها. وهو رأي المهندسين في الإلهيات. والعالم مجموعة من الأشياء المتناهية، تفيض من الله وتعود إليه كما هو الحال في نظرية الفيض. والعلم بها نسبي كذلك، العلم ببعضها والجهل بالبعض الآخر. والله أعلم.

         أما طبيعة المسيح فهي الوحدة الوجودية بين الله والعالم كما هو الحال في الانسان الكامل عند ابن عربي أو في نظريات الحلول والاتحاد عند الحلاج والجنيد. وهو مركز الكون وليست الأرض. أنكر مبدأ عدم التناقض في المنطق الأرسطي حتى يمكن فهم عقيدة التجسد، والتوحيد بين الله والعالم في شخص المسيح، مثل (الرد على المنطقيين) و( نقض المنطق) لابن تيمية. كذلك أحيا فيتشينو الأفلاطونية(2). ودافع عن خلود الروح. وجمع باراسلوس بين الأفلاطونية والفلسفة العملية مثل جالينوس في الجمع بين الطب والفلسفة مثل الأطباء العرب ابن سينا وابن رشد(3). فالفلسفة إحدى دعائم العلوم الطبيعية. ورفض النظريات الطبيعية الخالصة لجالينوس لأنها منفصلة عن الإلهيات. ويتضح من ذلك كيف كان الطب الإسلامي يمثل نموذجا علميا أرقى من علم الطب الأفلاطوني في عصر النهضة. كما جمع بين الأفلاطونية الجديدة والتجريبية والسحر والخرافة وكان أكبرهم على الإطلاق يعقوب البوهيمي(4). وهو أيضا صوفي إشراقي، خرافي تنجيمي سحري، ثنائي. يقول بأولوية الإرادة الإلهية في كل شئ. أعلن أن حدوسه في الطبيعة الإلهية ونشأة العالم وبنيته، والأسرار الخفية، كلها موجودة في الكتاب المقدس. عرفها عن طريق الإلهام الإلهي. مصطلحاته صعبة. يعتمد على السحر والتنجيم والكيمياء اللاعلمية لنسج صور شعرية للعالم ورموز وأخيلة وانتهى إلى وحدة الوجود. فالله والطبيعة شيء واحد، ولا يوجد شيء خارج الطبيعة. وكل الخلق تجليات لله، كما هو الحال عند ابن عربي. كل شيء يحتوي على تناقضات حتى الله الذي يجمع بين الخير والشر. فالله له إرادتان: الأولى للحب، والثانية للانتقام. هذه الثنائية هي أساس حركة العالم.

         2 - المذهب الإنساني. وقد حاول جعل الإنسان بؤرة الكون، غاية في ذاته لتبني العصور الحديثة عليه مشروعها في الذاتية ابتداء من (الأنا أفكر). وجعل الذات محورا للعالم. خرج من ثنايا الفكر الديني، وحول بؤرته من الله إلى الإنسان. وهو ما لم يحدث بعد بشكل صريح في فكرنا المعاصر وإن كان قد وُجـد متخفيا في تراثنا القديم مغتربا في الله في علم أصول الدين، وعقلا خالصا في علوم الحكمة، وتجربة ذوقية في علوم التصوف، وسلوك عملي في علم أصول الفقه.

         ظهرت هذه النزعة أيضا عند بيكو دي لاميراندولا، مدافعا عن المسئولية والكرامة الإنسانية (5). ثم تحولت إلى مذهب عند اراسموس يضع الانسان في مركز العالم، ويعيد بناء العقيدة المسيحية على أساس إنساني خالص(6). ويضع برنامجا لتعليم المسيحي كمواطن عصري مستنير كما حاول البعض وضع دليل للمسلم المستنير، عارض بقوة الفلسفة المدرسية، كما فعل بعض مفكري الإخوان مثل سيد قطب وسعيد رمضان، ووهب حياته للإصلاح الكنسي. فالمسيحية ليست مجرد عقيدة في الخلاص بل هي دين الروح الذي يقوم على الثقة بالعقل الإنساني كما حاول محمد عبده مستئنفا دور المعتزلة في جعل العقل أساس النقل. أيد مارتن لوثر، ودعا الناس إلى الاستماع إليه. وروح البروتستانتية هو روح الإسلام في جعل مصدر الوحي الكتاب وحده، وحرية التفسير، ورفض التوسط بين الانسان والله، والربط بين الدين والوطن، باستثناء الخلاص بالإيمان وحده دون الأعمال. فالخلاص في الإسلام بالعمل ولا يكفي الإيمان وحده. (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). وعارض اللاهوت العقائدي الإصلاحي الذي يدعو إلى العنف والثورة المسلحة على الكنيسة والإقطاع. ونقد تعاليم الكنيسة وبين سطحيتها. وهو الذي أمد المصلحين الدينيين بأسس عقلية مستنيرة فكان بمثابة عقلهم المنظر لوجدانهم الديني.

         3 - الطوباوية. وكانت ترنو إلى عالم أفضل يعيش فيه الإنسان عاقلا حرا وفي مجتمع يسوده العدل والمساواة. فقد تحول المذهب الإنساني تدريجيا إلى مذهب سياسي، منتقلا من الفرد إلى المجتمع، ومن الانسان إلى الجماعة. ويقوم على رفض السلطة الدينية وفصل الكنيسة عن الدولة وتأسيس المجتمع المدني العلماني الحديث.

         دافع لورنزو فاللا عن حرية الإرادة، وبّين أن علم الله المسبق وهي قدرة الله (أبولو) لا ينفي استقلال الإنسان (زيوس) (7). عرض المشكلة دون حلها خوفا وحذرا. وفي الأخلاق كان متعاطفا مع أبيقور دفاعا عن الأخلاق المادية كما هو الحال في التيار العلمي العلماني خاصة عند سلامة موسى. كان أكثر جرأة في الدعوة إلى العلمانية، وفصل الكنيسة عن الدولة، والكشف عن الأسطورة التاريخية ابتداء من تحول قسطنطين إلى المسيحية التي تقوم عليها ادعاءات البابوية، وبالتالي القضاء على الشرعية التاريخية التي أعطتها روما لنفسها.

         وكان أجرؤهم جميعا على تأسيس الحكم المدني الذي يقوم على الاختيار الحر للشعب هو سواريز(8). أعاد صياغة الأرسطية المسيحية، وجمع بين الاسمية والبير الكبير وتوما الاكويني ودنزسكوت لعرض مذهب معرفي متكامل في الميتافيزيقا وعلم النفس والمعرفة والكونيات واللاهوت الطبيعي. واللاهوت العقائدي ليس فلسفة بل هو مستمد من الدين والوحي مباشرة. أما اللاهوت الطبيعي فإنه قادر على إثبات وجود الله وصفاته عن طريق الفعل. لذلك كان سهل الفهم. والروح أساس كل موجود حي، حسي أو عقلي. بها ملكتان: الحس والعقل. والإرادة رغبة عقلية، حرة خيرة. والانسان مسئول عن أفعاله. وهي آراء شبيهة بآراء المعتزلة في التوحيد والعدل. وتتمثل جرأته الفكرية في نظريته السياسية التي عارض بها الحقوق الإلهية للملوك. فالشعب مصدر السلطات، والحاكم ممثل الشعب وليس ممثلا لله كما قال الأصوليون القدماء: الإمامة بيعة واختيار، ووظيفة الحاكم تحقيق العدالة الاجتماعية. وكان لسواريز أبلغ الأثر على ديكارت واسبينوزا وليبنتز وشوبنهور.

         ثم أخذ الفكر السياسي في عصر النهضة طريقين مختلفين: الأول واقعي يصف ما هو كائن كما هو الحال عند ميكيافيللي. والثاني طوباوي يضع ما ينبغي أن يكون كما هو الحال عند توماس مور وكامبانيللا. كان ميكيافيللي منظرا للأيديولوجية الجديدة التي تنتقل من السماء إلى الأرض(9) لا يتطور المجتمع بإرادة الله بل طبقا للقوانين الطبيعية. القوة والمصالح المادية هما القوتان الفاعلتان في التاريخ. ونظرا لتعارض المصالح بين القوى الاجتماعية الشعبية والطبقات الحاكمة لزم تكوين دولة قوية قومية ضد الإقطاع وضد الثورات الشعبية في آن واحد. الغاية تبرر الوسيلة. والغش والخيانة والقسوة أدوات لتحقيق الأهداف السياسية. وهي آراء تقترب أو تبتعد من ابن خلدون.

         أما توماس مور فهو أشهر ممثل للاشتراكية الطوباوية في عصر النهضة(10). نقد الملكية الخاصة والعلاقات السياسية والاجتماعية في انجلترا في عصره. ووضع نظاما تسوده الملكية العامة وعلاقات المساواة. أعطى تصورا لاشتراكية الإنتاج، مرتبطا بالشيوعية وبتنظيم العمل وعدالة التوزيع. الأسرة هي الوحدة الاقتصادية الرئيسية. والإنتاج يدوي، والتنظيم ديموقراطي، والتمتع بإنتاج العمل اليدوي ضروري، وغياب الصراع بين القرية والمدينة يورث السلام. العمل ست ساعات يوميا، وباقي اليوم مع اليوم السابع للعلوم والفنون. ويهدف المجتمع إلى التربية الشاملة للأفراد، وربط التعليم النظري بالعمل. ويتم التحول إلى النظام الجديد بالطرق السلمية. وهي غير المدن الفاضلة التي عرضها الفارابي والتي تحدد طبيعتها بطبيعة الرئيس.

         وكان آخر الفلاسفة الطوباويين في عصر النهضة هو كامبانيللا(11). عارض الفلسفة المدرسية، كما رفض مذهب التأليه الطبيعي. جمع بين روح التحرر الغالب على عصر النهضة وبعض الآراء الصوفية والدينية مع بعض الحماس للسحر والتنجيم من بقايا أفلاطونية العصر. كان يحلم بوحدة البشر وخير الإنسانية ظناً أنه يمكن تحقيق ذلك عن طريق البابوية. وتصور مجتمعا طوباويا اشتراكيا تحت تأثير الأيديولوجية الدينية وتصوره للكنيسة المثالية. وتصوره مجتمعا ثيوقراطيا يحكمه حكماء وقسيسون مثل (ولاية الفقيه) في الثورة الإسلامية في إيران. ومع ذلك تقوم الاشتراكية لديه على حكم العقل والطبيعة.

         4 - الشك المذهبي. تحول إلى نقد للقديم والشك في صحته لإفساح المجال للجديد. وقد أخذ طريقين الأول يجد بديلا عن الشك في الوحي حتى يعود إلى الواقع عن يقين وهو شك مونتاني(12). والثاني شك مطلق لا بديل له وهو الشك المعروف عند شارون(13). الأول مثل شك الغزالي من أجل اليقين، والثاني مثل فرقة السمنية التي لا تعترف إلا بشهادة الحواس. فقد حول مونتاني نظريات الشك اليونانية إلى مستوى الثقافة العامة في عصر النهضة. كما دافع عن اللاهوتي الأسباني ريمون سيبون في تشككه في العقائد اللاهوتية السابقة وفي الفلسفة المدرسية مع شواهد من سكتوس امبريقوس. والعقلانية لديه نوع من السلوك الحيواني يعقل بها الانسان نفسه. وبالرغم من ادعاء الانسان السمو فإنه مغرور أحمق وفان بل وفي مرتبة أقل من الحيوان ولا يعيش في مستوى سعادته، أشبه بالمتوحش النبيل. ولما صعب الحصول على اتفاق حول المعرفة والعلم خلال العصور، واستحالت معرفة العالم وتأسيس العلم جاء الخلاص عن طريق الوحي الإلهي من أجل العودة إلى الواقع والاتصال به. ويوجه مونتاني الشك ضد العقائد الكاثوليكية، وأفكار المسيحيين عن الله. وعلى الانسان أن يعمل من أجل الحصول على السعادة دون انتظارها، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف.

         ويمثل شارون الشك الجذري الذي يبدأ بالشك وينتهي بالشك، ولا يجد بديلا عنه في الدين أو العلم. لا يمكن ضمان أية حقيقة يقينية حتى ولو كان الدين لأن الدين ليس مباطنا في الانسان بل يتكون بالتربية وفي الظروف المحيطة به. أما الأخلاقية فهي الأصل في الانسان ويصبح الدين يقينا إذا ما تأسس على الأخلاق كما هو الحال عند كانط ومسكويه والمعتزلة. على الانسان إذن أن يعيش وفقا لقوانين الأخلاق داخليا وأن يمارس الدين الذي تمثله السلطات خارجيا.

         5 - العلم التجريبي الجديد. وكان يهدف إلى تأسيس علوم الفلك والطب والنفس والطبيعة بعيدا عن الأحكام المسبقة والذي طبع العصور المدنية كلها بطابعه فصار عصر العلم. نشأ العلم بعد أن رفض النقاد والشكاك والفلاسفة كل الموروث القديم، وأصبح الواقع عاريا من كل أساس نظري له. نشأ العلم من أجل إعطاء غطاء نظري بديل ومن أجل السيطرة على الواقع بنظريات أكثر دقة وضبطا من الموروث القديم الذي ثبتت أخطاؤه عند التجريب. فالجهد الإنساني وحده مصدر لكل نظرية وليست المصادر المسبقة من الكنيسة أو من أرسطو. فكان الغالب هو علم الفلك الذي غير التصور القديم للكون من التمركز حول الأرض إلى التمركز حول الشمس، وبصورة أقل علوم الحياة مثل النفس والطب، وتبني النظرة العلمية الأحادية للانسان وليس التصور الثنائي المدرسي القديم.

         أعاد بومبوناتزي قراءة أرسطو على نحو مادي ضد الفلسفة المدرسية(14). ونحن نرد على الدهريين كما فعل الأفغاني ونستنكف من الماديين. وأكد على أهمية الحس. فالنفس صورة للبدن على ما قال أرسطو ثم اسبينوزا. تفني بفنائه. والخلود في الأرض للمادة كما هو الحال عند ابن رشد. والحقيقة حقيقتان كما هو الحال عند حكماء المسلمين، الأولى للعامة، والثانية للخاصة. لذلك يجب الفصل بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية.

         كما عبر تيليزيو عن نفس النزعة المادية(15). درس الطبيعة عن طريق التجارب. فالحواس مصدر رئيسي للمعرفة. عارض منهج القياس والتأمل المعروف في الفلسفة المدرسية. فهو أحد السابقين على فرانسيس بيكون في دعوته إلى المنهج التجريبي. فالتجريب ابن عصر النهضة قبل العصور الحديثة. وتصور الطبيعة تملأ المكان، ورفض الخلاء. فالطبيعة خالدة مثل الله. قوانينها صفاته كما هو الحال عند اسبينوزا. وتبني تصور العالم المتمركز حول الشمس. الحرارة والبرودة في صراع، والمادة بينهما. الحرارة من الشمس والبرودة من الأرض.

         وأسس كوبرنيقس علم الفلك الحديث(16). فالشمس وسط الكون، والأرض كروية تدور حولها. رفض مذهب بطليموس. ودعا إلى نظرية مركزية الشمس عند أرسطخرس المعاصر لإقليدس والتي كانت تدرس في علم الفلك عند المسلمين. واستعمل مذهب فيثاغورس كي يبرهن رياضيا على أن الأرض مستديرة وفي حركة مطردة نحو الشمس. قوبل بمعارضة الكنيسة التي كانت ترى أن الأرض وبالتالي البشر مركز العالم مع أن الخلافة في الأرض معنوية وليست جغرافية.

         وأيد جيوردانو برونو أكبر ممثل لروح عصر النهضة نظريات كوبر نيقس(17). وعبر عن تجارب صوفية تظهر فيها وحدة الوجود ولكن بروح عصر النهضة أي العلم الجديد. الله لديه هو الجوهر الموحد لكل الأشياء والتي تستنبط منه. الله والعالم اسمان لشيء واحد ولواقع واحد هو الماهية المبدعة لكل شئ. فتحولت إلى إمكانيات متحققة متجددة. الله هو الطبيعة الطابعة، والعالم هو الطبيعة المطبوعة بلغة اسبينوزا. صيرورة العالم أبديته، من الله إلى العالم ومن العالم إلى الله. ويصور ذلك العقل الإنساني الذي يبحث عن الواحد في الكثير، والبسيط في المركب، والأبدي في التغير. والروح مثل الله صيرورة في البدن، من الروح إلى البدن ومن البدن إلى الروح. ومع ذلك بقيت لديه بعض التصورات الماهوية الثنائية القديمة عن الله والعالم. فالله لا يمكن وصفه ومفارق في حين أن العالم مرئي يمكن وصفه كما هو الحال عند المتكلمين المسلمين.

         وبالتالي قد لا تؤدي معرفة العالم إلى معرفة مميزة بالله.

         وقد تمت آخر صياغة للعلم الجديد في عصر النهضة عند كبلر وجاليليو. فقد استبعد كبلر المبادئ الرياضية من علم الفلك حتى لا يطغى التحليل الرياضي على الملاحظة التجريبية(18). ومع ذلك أثبت صحة وصف فيثاغورس لحركة الأفلاك المطردة في مدارات دائرية. ولها قوانين ثلاثة شرحها نيوتن، وتبين دوران الأفلاك دورانا بيضاويا، والشمس أحد مراكزها. حركتها ليست هندسية. بل يتحدد وقت دورانها حول الشمس نسبيا مع بعدها عنها. وواضح أن علم الفلك الذي أبدعه المسلمون القدماء والذي اشتهر في عصر النهضة الأوربي هو الذي كان وراء الفكر العلمي الحديث في عصر النهضة.

         كما بدأ جاليليو بملاحظات تلسكوبية على السماء مما دفعه إلى الشك في مركزية الأرض التي قبلتها الفلسفة المدرسية والفلسفة الطبيعية الأرسطية والكنيسة(19). دافع عن مركزية الشمس التي تتفق مع تجارب العلم الحديث. ودافع عن الفصل بين اللاهوت والعلم لأنهما مختلفان موضوعا ومنهجا وغاية حتى لا يتعارضان ويتصادمان. وبذلك وضع جاليليو أساس استقلال العلم الحديث عن اللاهوت. كما أسس علم الرياضيات. فكتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضة. ولذلك وصفه هوسرل عن حق بأنه هو الذي حول الطبيعة إلى رياضة. اعتمد أيضا على المنهج التجريبي القائم على الملاحظة والمشاهدة. وميز بين الصفات الأولية للأشياء والصفات الثانوية كما فعل لوك فيما بعد. واكتشف قانون الأجسام الساقطة، وأسس الميكانيكا التقليدية والحركة الكامنة.

ثالثا: هل يمكن قراءة عربية جذرية لعصر النهضة الأوربي؟

         والسؤال الآن. ماذا أخذ فجر النهضة العربية الأولى من عصر النهضة الأوربي وماذا ترك؟ وماذا أخذ عصر النهضة الأوربي من الحضارة الإسلامية في ازدهارها الأول بعد ترجمتها في الفلسفة المدرسية المتأخرة وماذا ترك؟

         لقد استطاع عصر النهضة الأوربي أن يعلن عن نهاية مرحلة وبداية أخرى في الوعي الأوربي، نهاية مرحلة المصادر، وبداية مرحلة التكوين الجديد. لقد استطاع إحداث قطيعة بين الماضي والحاضر، والتحول من الماضي إلى المستقبل. ونقد الموروث حتى يمكن التحرر منه كمصدر للعلم وكقيمة في السلوك. انتصر المحدثون فيه على القدماء. وتم التحول من سلطة أرسطو وشراحه المسلمين إلى سلطة العقل، والانتقال من سلطة الكتاب المغلق (المقدس) إلى كتاب الطبيعة المفتوح، ومن التمركز حول الله إلى التمركز حول الانسان، ومن البحث عن خلود الروح إلى البحث في طبيعة البدن وتكوين الجسم. فتم اكتشاف علم وظائف الأعضاء وعلوم الأحياء والتشريح والطب الحديث. وبالتالي أمكن للوعي الأوربي إبداع الجديد بعد أن تم تقويض القديم. أصبح الواقع عاريا من أية نظرية. وسقط الوئام النظري بين الأنا والطبيعة مما دفع الوعي الأوربي ليجد وئاما نظريا جديدا يستطيع به أن يفهم العالم، ويؤسس العلم الجديد بدلا من أرسطو، ويبني الدولة الجديدة بدلا من الكنيسة(20).

         أما عصر النهضة العربية فقد آثر قراءة انتقائية لعصر النهضة الأوربي تتفق مع الموروث القديم دون أن تتخلص منه. واكتفى بالتلميع للقديم نفضا للتراب والصدأ عنه. وظل الله مركزا للعالم فلم تنجح محاولات الدفاع عن حقوق الانسان لأن الانسان ربما ظل غائبا كبعدا مستقلا في تراثنا القديم. وظل العلم هو العلم الشرعي وليس العلم الطبيعي. واكتفي بالفخر بعلوم القدماء الرياضية والطبيعية وفي نفس الوقت نقل علوم المحدثين من الغرب. وظل الغطاء النظري القديم قائما: الله موجود، والعالم مخلوق، والنفس خالدة. ومن ثم محت التساؤلات الثلاثة التي منها تنشأ الفلسفة كما تساءل كانط: ماذا يجب علي أن أعرف؟ ماذا يجب عليّ أن أعمل؟ ماذا يجب عليّ أن آمل؟ وظل التفكير في النفس وتميزها عن البدن مستمرا مع أن النفس طيبة والبدن هو الأزمة، أزمة الغذاء والكساء والسكن والمواصلات. ظل القديم مسيطرا على الجديد بالرغم من محاولات الشعر الجديد. وكان أقصى طموح للإصلاح الملكية المقيدة بالدستور دون تقويض جذري للنظم الثيوقراطية والملكية والإقطاعية بالرغم من ثوارث العرب الحديثة وكتاباتهم في (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد). ظل الإيمان بالقديم قائما. وكل من شك فيه ثم تكفيره حتى ولو كان في الشعر العربي وقضيته الانتحال أو في الحوامل الزمانية والمكانية واللغوية والإنسانية للوحي في فهم النص الديني استدراكا على (أسباب النزول) و(الناسخ والمنسوخ).

         انتقى عصر النهضة العربية الأول الإشراق والعلم اللدني استئنافا للغزالي والتصوف القديم. واستمر في الثنائية القديمة بين الخالق والمخلوق، الله والعالم، النفس والبدن، الخير والشر، الذكر والأنثى، دون الوصول إلى نظرية أحادية للعالم تكون أقرب إلى التوحيد من الثنائية المانوية الفارسية القديمة. واستمر الفيض القديم. فالطبيعة فيض من الله. فساد التصوف، وتغلب على العلم، استمراراً للقدماء. واستمرت السلطة الدينية تحتكر التفسير وأصول العقيدة وتتهم المخالفين بالكفر والخروج والزندقة. وكلما ضعف النظام السياسي قويت السلطة الدينية. واستعملتها السلطة السياسية لمزيد من السيطرة على رقاب الناس خشية من الثورات السياسية والاجتماعية. ومازالت ترفع شعارات الحكم الديني مثل (الحاكمية لله)، (الإسلام هو الحل)، (تطبيق الشريعة الإسلامية) والتشكك في الحكم المدني، والقانون الوضعي مع أن الشريعة الإسلامية شريعة وضعية كما قرر الشاطبي في (الموافقات)، لها أسسها في أوضاع الناس وحياة البشر. ومازال بعض الفقهاء يقولون بمركزية الأرض ودوران الشمس حولها.

         فهل يمكن لعصر نهضة عربي جديد أن يكون أكثر جذرية في قراءة عصر النهضة الأوربي بل ويتجاوزه إلى آفاق جديدة للنهضة؟ هل يمكن إقامة لاهوت الأرض من أجل تحرير الأرض المحتلة في فلسطين وكما ربط القرآن بين السماء والأرض في (إله السموات والأرض)، (رب السموات والأرض)، (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)؟ هل يمكن إقامة لاهوت الحرية من أجل الدفاع عن حرية المواطن. كما قال عمر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟، وأن تصبح الشهادة (أشهد أن لا إله إلا الله) إعلانا للحرية، فالشهادة إعلان وليست صمتا. وفعل الشهادة فعلان، نفي وإثبات، سلب وإيجاب، الأول للتحرر من آلهة العصر المزيفة مثل الشهرة والمال والجاه والجنس، والثاني لإثبات المبدأ الواحد الذي يتساوى أمامه جميع البشر؟ هل يمكن إقامة لاهوت للعدالة الاجتماعية فأغنى أغنياء العالم منا وأفقر فقراء العالم فينا؟ هل يمكن إقامة لاهوت للوحدة خاصة وأن التوحيد اسم فعل أي حركة ونشاط في مواجهة التجزئة والتشرذم والطائفية والعرقية؟ هل يمكن إقامة لاهوت للتنمية المستقلة بدلا من لاهوت التبعية، تبعية الأرض للسماء؟ هل يمكن إقامة لاهوت للهوية ضد مخاطر التغريب والتميع في الآخر؟ هل يمكن إقامة لاهوت لحشد الجماهير إحساسا بالرسالة والأمانة والمسئولية بدلا من اللامبالاة والفتور؟

         هذه التساؤلات هي القادرة على قراءة أكثر جذرية لعصر النهضة الأوربي وتجاوزه إلى عصر نهضة عربية ثانية لا تكبو، وتكون قادرة على وضع مسار التاريخ من الإصلاح إلى النهضة، ثم من النهضة إلى الثورة، الثورة الدائمة عبر الثقافة والتاريخ وليس الانقلاب العسكري الوقتي لصالح قائده مهما حاول تغييره إلى نظام سياسي، وليس النخبة الحاكمة من الطبقة العليا حتى ولو قادت النضال الوطني وأرست قواعد تجربة الحكم الليبرالية. وتبدأ الثورة الثقافية من المثقفين الوطنيين وعلما الأمة وفقهاء الشعب بإعادة بناء الموروث الثقافي القديم بحيث يكون قادرا على مواجهة تحديات العصر. فقبل الاستيلاء على (الباستيل) تم تنوير عقول جماهير باريس بكتابات المفكرين الأحرار وليس (الضباط الأحرار). ويعتبر (لاهوت التحرير) نموذجا لهذه الثورة الثقافية من خلال الثقافات التقليدية التي مازالت هي الغالبة على شعوب العالم الثالث.

(1) نيقولا الكوزي (1400 - 1464) كاردينال ألماني. عمله الرئيسي (الجهل العالم) 1440، (التوافق الكاثوليكي)، في الافتراض.

(2) مارسيليو فيتشينو (1433 - 1499) رئيس الأكاديمية الأفلاطونية في فلورنسا. قام بأول ترجمة معترف بها في 1484 لمحاورات أفلاطون. كما قام بعدة شروح عليها وعلى تاسوعات أفلوطين حظيت بقبول كبير وذاع صيتها. ولم يحظ باهتمام كبير بعد انقضاء عصره بالرغم من أنه من أعمق الأفلاطونيين. وهناك الآن إعادة اهتمام بمؤلفاته وفي مقدمتها (اللاهوت الأفلاطوني لخلود الأرواح) 1482.

(3) باراسلوس (1493 - 1541)، طبيب وفيلسوف ألماني ولد في هوخنهايم. وله (التيه)، (المعجزات الكبرى)، (الأعمال المعجزة)، (في طبيعة الأشياء).

(4) يعقوب البوهيمي (1575 - 1624)، فيلسوف من سيليزيا معروف بلقب الفيلسوف الألماني. مؤلفاته الرئيسية (الفجر أو الشفق في السر الأعظم) وقد تمت إدانته، (الخروج)، (أربعون سؤالا في النفس)، (من أجل اختيار الفضل الإلهي). وكانت موضع إعجاب كبير في القرن السابع عشر. وكان له أبلغ الأثر على هامان وهيجل وشلنج في العصور الحديثة.

(5) بيكو دي لاميراندولا (1463 - 1494) فيلسوف إيطالي. وكانت له علاقات شخصية وعلمية مع أكاديمية فلورنسا. درس القبالة، وكانت دراسته رائدة في هذا المجال، وهو العالم المسيحي الأورثوذكسي الاتجاه. عارض الكنيسة في تسعمائة مسألة كما فعل مارتن لوثر في خمس وتسعين مسألة مما دعا البابا إلى تحريم آرائه. كان أول من كتب (بلاغ في كرامة الإنسان).

(6) اراسموس (1466 - 1536) لغوي لاهوتي هولندي، انتظم في سلك الرهبنة الأوغسطينية. درس في باريس وعلّم بها كما علم في انجلترا. وهناك نشر (ثناء على الجنون). وله أيضا (الندوة).

(7) لورنزو فاللا (1405 - 1457) إنساني إيطالي دافع عن حرية الاختيار كحق طبيعي للإنسان. وكتب في ذلك (حوار حول الإرادة الحرة).

(8) سواريز (1548 - 1617) فيلسوف أسباني. له (منازعات ميتافيزيقية).

(9) ميكيافيللي (1469 - 1527) مفكر إيطالي اشتهر بكتابه (الأمير) الذي ترجم أيام محمد على أثناء بناء الدولة المصرية. وله (خطاب في الكتب العشرة الأولى لتيتوس ليفيوس، المبادئ)

(10) توماس مور (1478 - 1535) إنساني عقلاني من عائلة برجوازية. كان مستشارا للملك ثم اعدم لرفضه الاعتراف به كرئيس للكنيسة. وفي السجن وصف رحلة إلى اليوتوبيا، المكان الذي لا وجود له في (العمل الخصب والجميل لأفضل دولة للصالح العام وللجزيرة الجديدة التي تسمى يوتوبيا) ويعرف بصيغة مختصرة (يوتوبيا). وهو أهم كتاب في الفكر الاجتماعي حتى القرن الثامن عشر.

(11) كامبانيللا (1568 - 1639) فيلسوف إيطالي طوباوي، التحق بالدومنيكان في سن الخامسة عشرة، وشارك تيليزيو في آرائه الطبيعية. قدم إلى محاكم التفتيش بسبب آرائه المتحررة. حاول قيادة ثورة في 1599 لتحرير إيطاليا من الحكم الأسباني ولكن تم اكتشاف المؤامرة. وبعد تعذيبه أودع السجن سبعة وعشرين عاما. وفيه كتب في 1602 (مدينة الشمس) يتصور فيه مجتمعا طوباويا ونشر عام 1623. وقد لعب كتابه دورا مهما في تطور الأفكار الاجتماعية التقدمية. وساهم في صياغة الاشتراكيات الطوباوية في العصور الحديثة.

(12) مونتاني (1553 - 1592) فيلسوف انساني وكاتب فرنسي. له (محاولات)، (دفاع عن ريمون سيبون).

(13) شارون (1541 - 1603) فيلسوف فرنسي بدأ كمحام ثم أصبح قسيسا، وهو مع مونتاني مؤسس مذهب الشك الحديث. له كتاب (في الحكمة) وجد فيه اللاهوتيون ذريعة لاتهامه بالإلحاد.

(14) بومبوناتزي (1462 - 1524) فيلسوف عصر النهضة الإيطالي. وله كتاب (في خلود النفس). وقد حرق كتابه علنا.

(15) تيليزيو (1508 - 1588) فيلسوف طبيعي إيطالي. كتب (في طبيعة الأشياء والمبادئ المتجاورة).

(16) كوبرنيقس (1473 - 1543) مؤسس علم الفلك الحديث. ولد في بولندا، ودرس في جامعة كراكو الفلاسفة اليونان. وأكمل دراسته للرياضيات والفلك والطب واللاهوت في جامعة بادو التي كانت العلوم الإسلامية تدرس فيها. ثم استقر في فراونبرج في بروسيا. ودفن في الكاتدرائية مع القسيس والمؤمنين. وله(دورات الأفلاك السماوية).

(17) جيوردانو برونو (1548 - 1600) ممثل روح عصر النهضة. وهو فيلسوف إيطالي، وراهب دومنيكاني. حرق بسبب آرائه المعارضة لآراء الكنيسة. أشهر أعماله (في العلة والسبب الواحد)، (في لانهائية الكون والعالم)، (طرد الحيوان المنتصر)، (عشاء الرماد)، (الغضب البطولي)، (في الموناد). وقد أثرت أعماله في الحركة العلمية والسحرية في القرن السابع عشر ثم تم نسيانه. وفي القرن التاسع عشر ارتبط اسمه بالحركات المعادية للكهنوت.

(18) كبلر (1571 - 1630) عالم فلك ألماني درس في توبنجن، وعلم الرياضيات في جراتز ولينز.

(19) جاليليو (1564 - 1642) عالم فلك وطبيعة رياضي إيطالي، مؤسس الميكانيكا الحديثة. دخل معركة مع الكنيسة في 1633، واضطرته الكنيسة إلى التراجع، ووضع تحت الإقامة الجبرية طوال حياته. وكان له أكبر الأثر في القرن السابع عشر وهو على مشارفه في القدرة على تنظير الطبيعة وتحويلها إلى رياضيات شاملة. أهم أعماله (خطاب إلى الدوقة الكبرى كريستينا) يرد فيه جاليليو على منتقديه في عصره مدافعا عن نفسه، (المحاول)،(محاورة في نظامي العالم الأساسين)، (خطاب في العلوم الجديدة).

(20) انظر كتابنا : مقدمة في علم الاستغراب، الدار الفنية، القاهرة 1991، ص 235 - 245.




أبحاث الفترة المسائية الثانية ليوم الإثنين
رئيس الجلسة: أ.د. سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب ـ مصر
الرحلة العربية الفاشلة باتجاه الغرب
حسونة المصباحي

         في أذهان العرب القدماء، كان الغرب يرمز إلى ذلك المكان القصيّ الكثيف العتمة. لذا هم جعلوه في لغتهم مرادفا للوحشة والمنفى في درجاته القصوى والذي بدّدته (الغربة) وهي حالة الإنسان الذي يجبر على مغادرة وطنه ليعيش في مكان ناءٍ، تنكره نفسه، وفيه لا يعرف لا للطمأنينة ولا للسعادة سبيلا. لكأنه لم ينف فقط من وطنه، وإنما من الحياة أيضا فإذا به قاب قوسين أو أدنى من ظهر القمر.

         وربما لهذا السبب أظهر العرب منذ قديم الزّمان نفورًا من الغرب، وخلال الفتوحات الإسلامية الكبرى، أوغل المسلمون شرقا، غير أنهم كرهوا أن يتوجّهوا غربا. وعندما فعلوا ذلك، توقفوا في الأندلس وفي صقلية اللتين تتبعان بلادهم في الطبيعة والمناخ. ولم يكن سبب ذلك عائدا فقط إلى عدم توفّر القدرة العسكرية لمثل تلك المغامرة، وإنما لأنهم ربما كانوا يخشون أن تبتلعهم عتمة الغرب التي تبتلع الشمس كل يوم وحتى عندما استقر أمر المسلمين وعظم نفوذهم وأحكموا سيطرتهم على مساحات هائلة في الأرض، فإن النفور من الاتجاه غربا ظل قائم الذات. حتّى الرحالة والمغامرون الكبار الذين وصلوا إلى تخوم الصين ومجاهل إفريقيا السوداء، لم يجرأوا على ذلك. وعند أهل العلم والفلسفة والتصوف، كان الغرب في أذهانهم على الصورة التي ذكرنا. فها هو ابن عربي يترك بلاد الأندلس إلى مراكش. وهناك يرى في المنام عرش الله، ويسمع صوتا يأمره بالاتجاه نحو الشرق حيث )النور والحكمة(. وها هو يمضي فلا يعود إلى موطنه بعد ذلك أبدا. وعندما شعر ابن خلدون الذي أمضى جزءا كبيرا من حياته بين المغرب والأندلس، أن الانهيار وشيك، اتجه شرقا باحثا عمّا يمكن أن يصلح ما فسد من أمر المسلمين، ويعيد لهم هيبتهم وعزّهم. وكان لا يزال يبحث عن ذلك حين باغته الموت عام 1406 وهو في القاهرة. وفي كتب الرحلات نحن لا نظفر إلا بكتاب واحد يتحدث عن رحلة إلى الغرب، وتحديدا إلى روسيا تمت عام 921. مؤلف هذا الكتاب الصغير هو ابن فضلان وهو قاض من بغداد أرسله أمير المؤمنين المقتدر بالله ضمن وفد إلى ملك بلاد الروس يدعى المش بن يلطوار طلب أن يتعرف على شرائع الإسلام. ويصور لنا ابن فضلان أطوار الرحلة الشاقة الطويلة بدقة متناهية راسما صورة مرعبة عن الأقاليم التي مرّ بها وعن الأقوام الذين اعترضوا سبيل قافلته.فالعتمة دائمة، والبرد شديد حتى أنه إذا خرج من الحمّام إلى البيت، جمدت لحيته فأصبحت قطعة واحدة من الثلج. وكلما أوغل غربا، ازداد إحساسه بأنه أشرف على التلف فيمن معه، وهو حريص كل الحرص على أن يذكّرنا دائما بأنه في (بلاد الكفار)، وأنه ظل رغم كل الأحوال التي واجهها، متمسكا بتعاليم دينه آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، متبرما من شرور الناس الذين يراهم في طريقهم داعيا أن ينقذهم الإسلام ذات يوم من الشقاء الذي هم فيه.

         في كتب الرحالة العرب الآخرين، وجميعهم اتجهوا شرقا، نحن نشعر أن صاحب الرحلة يحاول دائما، حتى وهو يواجه أعتى المخاطر، وأشرس المصاعب كي يمتحننا. وما يصوره من بشر ووقائع وأحداث ومخاطر طبيعية هو بمنزلة (الدعوة) لأن نرحل معه على حدّ تعبير بودلير. أما عند ابن فضلان فإن الأمر يختلف اختلافا كليا، إنه يدقق في الوصف، ويحرص على الوقوف حتى على التفاصيل الصغيرة فقط لكي يقنعنا بعدم ضرورة الذهاب إلى هناك. وإلحاحه على تذكيرنا دائما بأنه ظل متمسّكا بالدين حتى وهو يرى النساء يسبحن في النهر عاريات هو إشارة واضحة على أنه لم يقبل الذهاب إلى هناك إلا لغرض واحد ألا وهو نشر تعاليم دينه والتأكد من صحة إيمانه وهو يقطع تلك المسائل الضخمة.

         بعد أن دمّر المغول بغداد ذلك عام 1258، وأحرقوا مكتباتها الثمينة وقصورها الفاخرة، وحدائقها الجميلة، عاش العرب مشرقا ومغربا قرونا من الانحطاط والجهالة والعزلة كانوا خلالها منقطعين انقطاعا كليا عما يحدث في العالم ولم يستيقظوا إلا على دويّ مدافع نابليون بونابرت أثناء غزوه لعصر عام 1798، والبعثات العلمية والطلابية التي لحقت ذلك بعد عقدين تقريبا، ثم تكاثفت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتي أفضت إلى ما يسمّيه العرب حتى اليوم بـ (عصر النهضة) لم تثمر عن أي عمل إبداعيّ متمحور حول (الرحلة الغربية) وكتاب (تخليص الإبريز) لرفاعة الطهطاوي والذي كتب في عصر فلوبير وبودلير يبدو لنا في أسلوبه ولغته قريبا من مقامات عصور الانحطاط، وعليه يطغى ذلك الانبهار الذي يفقد الإنسان قدرته على أن يكون دقيقا وموضوعيا ومفيدا. إن باريس في هذا الكتاب تتجلّى لنا كما لو أنها مدينة خيالية في القصص الشرقية الخارقة وليست تلك التي كشف لنا بودلير وبلزاك وآخرون شرورها وقسوتها وعهرها وتفسّخها. وسوف يمرّ وقت طويل على صدور (تخليص الإبريز) لكي تظهر أول أعمال إبداعية تروي الجانب المأساوي في الرحلة العربية باتجاه الغرب. من بين هذه الأعمال يمكن أن نذكر (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم و(أديب) لطه حسين و(الحيّ اللاتيني) لسهيل إدريس و(موسم الهجرة للشمال) للطيب صالح في هذه الأعمال الأربعة نحن نتحسس ذلك النفور من الغرب الذي كان سائدا لدى العرب القدماء.

         فبعد الانبهار الأول كما هو الحال عند الطهطاوي يعود الغرب في ذهن المثقف العربي إلى صورته الأولى فإذا به من جديد مرادف للعتمة والوحشية والعنف في درجاته القصوى. وإذا به قلعة باردة مخيفة فيها يفقد الإنسان الشرقي توازنه وصوابه وإنسانيته أيضا. وهذا ما يبرز بالخصوص في (أديب) لطه حسين و(موسم الهجرة للشمال) للطيب صالح.

         ثمة سمات مشتركة بين (أديب) بطل رواية طه حسين، و(مصطفى سعيد) بطل رواية الطيب صالح. فالإثنان يبديان مبكرًا الرغبة في السفر إلى الغرب قصد طلب العلم. والإثنان يتمتعان بذكاء مفرط وقدرات هائلة على الاستيعاب والفهم. والإثنان يتمكنان بسرعة فائقة من التماهي مع الغرب ومع ثقافته حتى أنهما يصبحان غربيين تقريبا. والاثنان ينغمسان في حياة اللهو والملذات ويُسْرفان فيها إلى أن يفضي بهما ذلك إلى نهاية فاجعة: يغرق أديب في الجنون. أما مصطفى سعيد فيموت منتحرا في النيل أثناء فيضانه، ومع ذلك ثمة فروقات بين البطلين سوف تتجلى لنا أثناء استعراضنا لمسيرة كل واحد منهما.

         منذ البداية يبرز لنا أديب شخصية ثائرة على التقاليد وعلى جامعة الأزهر حيث كان يدرس، وهو دائم السخرية من شيوخها المعمّمين ومن أساليبها الدراسية، لذا هو يبذل كل الجهودات الممكنة لكي يغادر إلى أوربا، وها هو سيسافر إلى فرنسا بعد أن يطلق زوجته ليس كرها لها وضجرا من الحياة معها وإنما لأنه يعلم جيّدا من خلال ما قرأ من كتب ومن قصص عن أوربا أنه (لا يستطيع أن يقاوم الحياة هناك وآثارها في نفسه كما ينبغي للرجل الوفيّ لزوجته أن يقاومها). ولأنه سوف (ينغمس في الإثم) فهو يريد أن يتحمل وحده وزر هذا الإثم.

         في السفينة التي تحمله إلى مرسيليا، تنتاب أديب الهواجس والمخاوف، ويستبد به حنين جارف إلى ماضيه ووطنه وزوجته حتى نخال أنه سيقطع رحلته ويعود إلى القاهرة. فهو يحاول أن يتصور هذا البلد الذي هو مقبل عليه فلا يرى غير البلد الذي هو منصرف عنه. وهو يسعى إلى أن يتمثل جامعة السربون فلا يرى إلا الجامعة العصري، وهو يجهد نفسه لكي يجسّد في ذهنه صورة للمرأة الباريسية غير أن صورة حميدة زوجته تظل قائمة أمامه كهيئتها يوم غادرها تاركا إياها منخرطة في بكاء متصل عميق.

         وبينما كانت الباخرة تقترب من ميناء مرسيليا، تتراءى له الحياة الأوربية، بحراً آخر لا آخر لعمقه، مملوءا باللذة والألم، مفعما بالخير والشر، فتتضاعف هواجسه ومخاوفه، ويشتد تشاؤمه ذلك أنه يحسّ أنه سوف يلاقي هناك (شرّا كثيرا وإخفاقا شنيعا) غير أن هذا سرعان ما يتبدّد. وها هو بعد أن يتذوق كأسا من النبيذ الفرنسي يشعر أنه أصبح (إنسانا يحسّ ويعقل ويذوق لذة الجمال ويعرف كيف يستمتع بسحر العيون). وها هو يعجب من نفسه كيف (انتقل من طور إلى طور) وكيف (تغيّر من حال إلى حال). والآن هو لا (يقدر أن يقف ولا أن يتأخر)، وإنما هو كالشيء الذي (قذفت به قوة عنيفة من قمة الجبل فهو يتدحرج عن السّفح لا يستطيع أن يمسك نفسه ولن يستطيع أن يمسك نفسه حتى يبلغ الحضيض فتمسكه الأرض السهلة المستوية).

         وبعد أن يسرف في اللهو والعبث والمجون، يستعيد أديب حماسه لطلب العلم والمعرفة، فيقبل على دروسه إقبالاً نهمًا، ويتمكن في وقت قصير من إدراك ما فاته. غير أن الحنين إلى حياة اللهو والمجون يعاوده من جديد، فيهمل دروسه، وينخرط فيها غير عابئ بشيء، وفي رسالة بعث بها إلى صديق له، يكتب قائلاً: (لقد صدق موسيه حين شبه قلب الرجل النقي بالإناء العميق، إذا استقر الدنس في قاعه فليس إلى تطهيره من سبيل، ولو مر به ماء البحر كله، إن قلبي هو هذا الإناء، وقد استقر في قاعه الدنس. ولقد حاولت تطهيره ما استطعت إلى ذلك سبيلا، بالتفكّر والتدبّر، بالقراءة والدرس، بالجدّ والنشاط، بهذه المثل العليا التي كنت اتخذتها وأجدّ في السعي إليها، وأوفق أحيانًا في هذا السعي بما حاولت في إرضاء الأساتذة، وبما حاولت في إرضاء مراقب البعثة، وبما حاولت من إرضاء الجامعة، وبما بلغت في هذا كله، ولكني مع ذلك لم أستطع أن أمحو في قرارة نفسي هذا الدنس الذي استقرّ فيها فلزمها لزوما، واتصل بها اتصالاً لا انقطاع له).

         ويمضي أديب في بارس شتاء 1917 المرعب والذي كابد الناس خلاله فترة البرد والجوع، وأيضا أحوال أول قصف للطيران، ويقف نصيرا للحضارة، رافضًا القوة الوحشية، عازمًا على ألا يبرح باريس (مهما تكن الظروف). وهو يكتب الى صديقه قائلا: (وتعلم أني سأفي بهذا العهد مهما يكلفني ذلك وأن أنتظر بي إلى الموت وأيّ شيء يكون الموت في سبيل باريس!). وفي هذه الأثناء يعيش أديب قصة حب فاشلة مع امرأة تدعى إلين، فتضطرب نفسه ويصاب بالبارانويا. وهاهو يحسّ (إن الصحف الفرنسية كلها مجمعة على مقته وبغضه والكيد له)، وإن كل ما تذكره هذه الصحف عن ألبانيا العدوة، (موجّه إليه ومنصبّ عليه انصبابًا). ويظل مرضه هذا يتعاظم ويشتد إلى أن يطبق عليه ليل الجنون.

         وإذا ما كان أديب قد دخل أوربا وهو يتمتع بالكثير من الذكاء والخبرة، فإن مصطفى سعيد بطل (موسم الهجرة إلى الشمال)، انطلق إليها وهو دون العشرين، وعكس أديب هو لا يلتفت إلى الوراء ولا يهتم بماضيه إلا بعد فشل مغامرته الغريبة. إنه يمضي إلى الأمام كـ(السّهم) بلا أي حنين ولا أي ندم على ما فات. وكان أديب يعاني من معلومات البارانويا التي سوف تؤدي إلى الجنون المطلق حين دخل مصطفى سعيد لندن ليجدها خارجة من الحرب ومن وطأة العصر الفيكتوري).

         ومنذ الأسابيع الأولى عرف حانات تشلسي وأندية هامبستد، ومنتديات بلومزبري، وفيها كان يقرأ الشعر ويتحدث في الدين والفلسفة وينقد الرسم ويقول كلاما عن روحانيات الشرق ويفعل أشياء أخرى ولا هدف له إلا إدخال امرأة في فراشه، ثم يمضي إلى صيد آخر. كل ضحاياه من النساء سوف يكونن من ذلك الصنف من النساء اللائي يمتلكن حنينًا إلى الشرق وإلى المناخات الاستوائية، والشموس القاسية أو الآفاق الأرجوانية أما مصطفى سعيد فيظل ذلك (الجنوب الذي يحن إلى الشمال والصقيع) والشرق بالنسبة له هو غرفة تفوح منها رائحة الصندل المحروق والند وسجاد سندسي دافئ وسرير رحب مخداته من ريش النعام، وأضواء كهربائية صغيرة حمراء وزرقاء وبنفسجية، موضوعة في زوايا معيّنة، وحمام به عطور شرقية نفّاذة، ومرايا كبيرة على الجدران حتى إذا ما ضاجع، بدا له وكأنه يضاجع حريمًا كاملاً، ورغم هذا الإسراف في حياة اللهو والمجون، فإن مصطفى سعيد يحرز أعلى الدرجات العلمية، ويتحول إلى شخصية من الشخصيات المرموقة التي تحظى بتقدير أسمى شخصيات المجتمع اللندني.

         لأعوام عدة ظل مصطفى سعيد يعيش مع نظريات كينز وغيره بالنهار، وبالليل سيواصل الحرب بالقوس والسيف والرمح والنشاب ضد النساء إلى أن تعددت ضحاياه. فقد انتحرت ثلاث من عشيقاته بسببه. أما الرابعة جين مورس فقد ظلت تعذّبه إلى أن فقد السيطرة على نفسه، فغرس سكينا في صدرها بينما كان هي تصرخ: (أحبك يا حبيبي).

         بعد سنوات أنهاها في السجن لقتله جين مورس، عاد مصطفى سعيد إلى بلاده، السودان، ليعيش في قرية صغيرة على ضفاف النيل مجهول الهوية، ولكي يدفن ماضيه، ويبعد عنه شبح مغامرته التي انتهت بفشل ذريع، لبس لباس أهل تلك القرية، وتزوج امرأة أميّة، وعاش عيشة عادية، بسيطة، ليس فيها ما يشير بأي حال من الأحوال إلى الأعوام الطويلة التي أمضاها في لندن، غير أن ذكريات تلك السنوات ظلت تعذّبه إلى أن أصبح غير قادر على احتمالها، فألقى نفسه في النيل.

         ينتسب مؤلفا العملين المذكورين إلى جيلين مختلفين، فطه حسين الذي ولد عام 1889 كان أحد أقطاب النهضة الفكرية والثقافية التي عرفتها مصر والعالم العربي في النصف الأول من هذا القرن. أما الطيب صالح المولود عام 1929 فهو أحد ألمع أبناء ذلك الجيل الذي كان له طه حسين معلمًا ومرشدًا. مع ذلك توصل المؤلفان من خلال عمليهما إلى النتيجة نفسها ألا وهي فشل المثقف العربي في رحلته الغربية، وإذا ما نحن تمعّنا في مسيرة كل من طه حسين والطيب صالح، فإنه بإمكاننا أن نجازف بالقول بأن هذا الفشل ليس مقتصرًا على الشخصيتين اللتين ابتدعاها، أي (أديب) و(مصطفى سعيد) وإنما هو يخصّهما أيضا. فقد عاد طه حسين من باريس مطلع العشرينيات معجبًا ومفتونًا بالعقلانية الغربية، وبالتقدم الذي أحرزته أوربا على جميع الأصعدة والمستويات. وكان كتابه الشهير (في الأدب الجاهلي) الذي حوكم بسببه بتهمة (التعدّي على القرآن والدين) وأيضًا كتابه الآخر (مستقبل الثقافة في مصر) الذي أنكر فيه أن يكون الإسلام هو العنصر الأساسي في الثقافة المصرية، أحد نتائج هذا التأثر بالثقافة الغربية وبمكوناتها وبالجانب التنويري فيها. لكن في أواخر حياة طه حسين، بدا وكأن ذلك الحماس للعقلانية وللتنوير قد بدأ ينطفئ ويضمحل. فقد تنكّر للشعر الجديد معتبرًا إياه (بدعة) وكما لو أنه أراد أن يكفّر عن ذنب قديم، فإنه ختم حياته بكتاب عن حياة الرسول محمد ونشأة الإسلام.

         ومَن يقرأ رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) البديعة لا يمكن أن يغفل عن شيء وهو أن الطيب صالح ليس قادرًا بأي حال من الأحوال على ابتكار شخصية مصطفى سعيد لو أنه لم يعش حياة مشابهة لحياته، ومغامرات قريبة من مغامراته، ثم إن الرواية تدل دلالة قاطعة على أن الطيب صالح تمكن من أن ينفذ إلى خفايا الحياة الغربية، وأن يحصل على ثقافة فلسفية وأدبية عميقة من خلال مطالعاته للكتّاب الغربيين القدماء والمحدثين على حد السّواء. ومع ذلك نحن نعاين أن الطيب صالح قد ابتعد كليا خلال العشرين سنة الماضية عن نمط حياته القديم، وأصبح زاهدًا، ميّالاً إلى التعبّد مثل مصطفى سعيد لما عاد إلى تلك القرية السودانية على ضفاف النيل ساعيًا أن يدفن فيها مغامراته الصاخبة في بلاد الغرب. والآن يحبّ الطيب صالح أن يقول لكل من يسأله عن السبب الذي جعله ينقطع عن كتابة الرواية بأن (الكسل هو العائق الوحيد) والحقيقة أن هذا مكر من جانبه (بمفهوم جيمس جويس لكلمة مكر) ذلك أن الكسل لا يمكن أن يعطل لوحده طاقة إبداعية هائلة مثل طاقته.

         ويتراءى لنا أن العلة الحقيقية الكامنة وراء كل هذا هو أن كتابة الرواية وابتكار شخصيات شيطانية مثل مصطفى سعيد ربما يكونان قد أصبحا بالنسبة للطيب صالح من الآثام التي يجب تجنّبها. لذا هو أصبح يقتصر على كتابة مقالات قصيرة منها تفوح رائحة تزهّده وتوبته.

         خلال العشرين سنة الماضية، وبسبب الحروب وانعدام الديمقراطية وحرية التعبير، تكاتفت هجرة المثقفين باتجاه المغرب، غير أنه لم يظهر حتى هذه الساعة أي عمل إبداعي يمكن أن نستشف من خلاله ما يدل على أن الرحلة العربية باتجاه الغرب قد وُسمت بطابع آخر غير طابع الفشل.





أبحاث الفترة المسائية الثانية ليوم الإثنين
رئيس الجلسة: أ.د. سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب ـ مصر
تجربتي الشخصية في الغرب
صلاح نيازي

         قبل كتابة هذه المداخلة، بيومٍ واحد، مرّتْ مصادفتان قد تكونان ذواتيْ دلالتين على ما نحن في صدده. الأولى: نقاش دار في إحدى الفضائيّات العربية بين شخصين عربييْن. أحدهما محليّ يتنفّط بلاغةً وسجعاً. الآخر أستاذ جامعيّ ببلدٍ اوروبي يُعنى بالنشرات العلمية وإحصاءاتها. يحكم على الأمور بنتائجها وهي الحكم الفصْل في نظره، أي لا دخل للعاطفة فيما يستنبط.

         إذا أردنا أن نقارن بين الشخصين، وليس المقصود المفاضلة هنا، فالأوّل ربّما ينتمي إلى سوق عكاظ، وسجع الكهان، والخطب ( الشقشقية). الثاني ينتمي إلى أنابيق مختبريّة، وجداول، وخطوط بيانية. الشخصان المشار إليهما أعلاه فلسطينيان.

         المناقش الانفعالي، يتقن اللغة نحواً وصرفاً، ولا تخلو قفلات جمله من إيقاعٍ ديني، يجعلها أقرب ما تكون إلى التمسرح. ياسر عرفات في رأي هذا المناقش، رمز، لذا فهو كالسرّ المقدّس لا يجوز المساس به، حتى لو انقلبت فلسطين عاليها سافلها. أو كالعَلمَ الوطني لا يجوز تغيير فصاله أو ألوانه. المناقش الثاني كطبيب يقرأ نتائجَ الأشعةِ السينية وفي ضوء ما يرى يشخّص العلل.

         من تلك التشخيصات التي ذكرها، أنْ ليس لياسر عرفات من رؤية سياسيةٍ مدروسة، وإنما هي ارتجال فتخبّط، فارتجال فتخبّط. يوافق ثمّ ينسحب، وينسحب ثمّ يعود ويوافق. كانت أطروحات هذا المناقش، موثّقة بالأسانيد والتواريخ.

         مع ذلك لا أدري ما الذي عناه الأستاذ الجامعي، على وجه الدقّة، حين ذكر بانّ ياسر عرفات عقلية ارتجالية؟ هل قصد عقليةً شفاهيّة؟

         هذا بالضبط ما أريد التوقف عنده وعند المصطلح الثاني النقيض له: العقليّة التدوينية.

         أيْ هل نحن أمّة شفاهية؟ هل الغرب أمة تدوينية؟ ولكنْ قبل ذلك، لنذكر المصادفةَ الثانية التي مرّتْ قبل كتابة هذه المداخلة، وفيها قرأتُ مقالةً في الإنترنت منقولةً عن صحيفة خليجية وفيها يدحض كاتبُها العفيف الأخضر بعض إطروحات محمّد عابد الجابري، واصفاً إيّاه بأنّه (يكتب عن العقل ولا يكتب به). ما يهمّنا في هذا المقال، نقطتان. الأولى: أنّ الإنسانَ العربي إذا زار الغرب سينظر إليه) على أنّه شئ مخالف له، ولما ألفه وما يشبهه.. .سيستغرب عندما يرى الأوروبيين يجاهرون بالمعاصي) يذكر كاتب المقال كذلك، (أنّ هذا الإنسان العربي لو كان سليم العقل وذا فضول معرفي فسيزور المؤسسات العلمية والثقافية والصناعية وهناك سيلتقي بعقلٍ كوني يتعرف فيه عقله على نفسه وسيشعر أنّ هذا العقل النظري لا يختلف عن العقل النظري في بلده إلاّ في درجة التطوّر......)

         النقطة الثانية التي تستحقّ التنويه بها في هذا المقال، هي أن الإنسان قد يكون عقلانيا مرة ولا عقلانياً مرة أخرى. يقول صاحب المقال : الغزالي الذي كتب مقاصدَ الفلاسفة عقلاني، والغزالي الذي كتب التهافت لا عقلاني. والغزالي الذي قال ما يلي هاذٍ: ( ويجوز للجبل أن ينقلب حصاناً بإذن الله تعالى) القسطاط ( وقد أعود إلى بيتي وأجد أن كتاباً من كتبي قد تحول إلى حصان فأكل وراث وبال) ( المنقذ ) وتوضأت للظهر ببغداد وصليت العصر بمكة ( الإحياء ).

         على أيّة حال، لا يحتاج المرء إلى العيش في الغرب، أو الاطلاع على الأدب الغربي، حتى يعرف أنّ الغزالي كان يهرف حين جاز عنده أن ينقلب الجبل حصاناً، أو )يعود إلى بيته فيجد أحد كتبه وقد تحوّل إلى حصان فأكل وراث وبال).

         لا ندري، ( أو في الأقل كاتب هذه المقالة لا يدري) تحت أيّة ظروف نفسية أو صحية كتب الغزالي هذا الأدب اللامعقول حقّاً، وما سياقه العام. لا تعدل هذه اللامعقولية إلاّ لامعقولية مَنْ يأخذ عيّنةً كهذه فيتهم عقليّةَ أمّةٍ بكاملها بالتخلف والغيبية.

         بالإضافة إلى ذلك، لنتمعّنْ بكلمة (المعاصي)التي ذكرها الكاتب في بداية المقالة: (إنّ الزائر العربي حينما يزور أوربا سيستغرب عندما يرى الأوربيين يجاهرون بالمعاصي) عن أية معاصٍ يتحدث الكاتب؟ المعصية - قبل كلّ شئ - كلمةٌ دينيّةٌ تحريمية من وجهةِ نظرٍ شرقية، أمّا من وجهةِ نظرٍ غربية فلم يعُدْ لها ولا للكلمات الدينية الأخرى أيّ زخمٍ في التعاملات اليومية. بطل سحرُها منذ عهود وحلّتْ محلّها اللغةُ العلميةُ أو كادت. أكثر من ذلك كيف تكون معاصي وهي إمّا مجازة بالقانون نصّاً، أو أنّ تحريمَها غيرُ منصوصٍ عليه. على هذا فما اعتبره الكاتب معاصي، يعتبره القانون الغربي (حرية فردية). الشئ بالشئ يُذكر، يشيع الآن أن مردّ التصرفات وحتى الشاذة منها إنما يعود إلى الصفات الجينية في الإنسان، وليس إلى رغباته أو ميوله. هذا بحدّ ذاته برهانٌ آخر على ما للعلم من هيمنة على عقول الناس بأوربا.

         كتبتُ مرّةً مقالةً عن صورة أحد العسكريين العراقيين وسط جثثِ قتلى. كان واضعاً بسطاله العسكري على صدر جثة مدمّاة، وهو في نفس الوقت يكرع قنينة شراب كإشارةٍ على ما يشعر به من أمان.

         فوجئتُ بعد مدّة، برسالة من أستاذ جامعي كان أستاذاً لي، ومثقفاً ثقافة أوربية كانت موضع إعجابنا. لم نلتقِ منذ سنين طويلة. لامني على المقالة لأنها حسب قناعته تعرّض حياتي للخطر، مضيفاً استغرابه من شجاعتي، ربّما لأنّه لم يعهدْ بي إلاّ الجبن.

         حين أنهيتُ الرسالة شعرت بغربة حقيقية بيننا. حتى اللغة الواحدة التي تجمعنا، باتت تفرقنا الآن. رسالة مشحونة بالتلغيز ومعنية بالتعمية، فلا يقول مثلاً : ألا تخاف من السلطة ببغداد، وإنما يلفّ ويدور ثمّ يذكر النشامى بدلاً عن ذلك.

         لم أكنْ شجاعاً قطّ حين وصفت ذلك العسكري بأنه متوحش. ولكن ربّما نتيجة العيش بعيداً عن الأجواء البوليسية، نسيتُ مفهوميْ الشجاعة والجبن بمواضعاتهما المحلية. فاستبدلتهما بمفهومي: الصواب والخطأ. بكلماتٍ أخرى، علّمتني البيئة الجديدة أن أزِنَ الأفكار بمقدار صوابها أو خطئها. لذا لا وجود للشجاعة في حالة كهذه. ولكن بعد سنين في الغربة امتحنتُ من جديد مفهومي الصواب والخطأ. أدركت أنّ المصطلحين نسبيّان أوّلاً، وأنْ ليس هناك من صواب 100% ولا خطأ100% ثانياً. بناء على ذلك ابتدأتْ في حياتي مرحلة جديدة. أي: هل ما أقوله مقنع أم لا؟ إذن هل وصفي لتلك الشخصية العسكرية ووصمي إياها بالتوحّش وصفٌ مقنعٌ أم لا؟

         هذا كلّ ما في الأمر. لم أنطلقْ من موقفٍ سياسي، لاسيّما أنّ نفرتي من ذلك المشهد تنطبق على كل عسكري بتلك الوضعية وفي كل زمان ومكان. ألا يمكن اعتبار هذا العسكري وقيمِهِ من مخلّفات سيادة العضلة والمخلب والناب؟

* * *

         (للحيوان مساحة أوسع في قاموسنا المتداول، مما فيه من الألفاظ النباتية والبحرية والحرفية مجتمعة). حاول العبّاسيون ترويض الحيوان اللغوي وعاداته الوحشية. زادوا من تآلفهم مع النباتات والفلسفة والفقه والأسفار. حاولوا أكثر من ذلك. غلّبوا العقل في الحَيَوان نفسه على طبيعته الخام. فظهر كليلة ودمنة كأذكى وعاء للتصرّف الإنساني في الحيوان. مملكة تسودها الفطنة والعظة ولا ينتصر فيها إلاّ الدهاء والتجربة. لكن كيف ولماذا عاد الحَيَوان إلى قاموسنا العصري؟ لدرجة أصبح معها الإنسان امتداداً للحَيَوانات المفترسة. يقال بالعراق: (لا تتحرش به لأنه سيأكلك) ، أو يهددك فيقول: (والله آكلك) أو (أشرب دمك). يتضمن الأكل هنا، حقداً افتراسياً، وأدهى من ذلك غياباً للقانون، وتعطيلاً كليّاً للعقل، أي غلبة العضلة.

         ... بالمقابل صناعة الشجرة تحضّر إذ هي امتداد لشرايين الإنسان. ولأنها استقرار وتجذّر فهي تتطلب معارف جمّة في الفصول والتربة - رطوبة وماء - تحتّم سنّ القوانين في الجيرة والمقايضة والتعايش بين فئات المجتمع... فقط حينما يرعى الإنسان الشجرة قوتاً، ويتظللها معرفة، تمتدّ جذورُه هو. وهل جذور الإنسان إلاّ : ترقيم البيوت وأسماء الشوارع والمعابد والمستشفيات والمعاهد ودور اللهو والنوادي الرياضيّة). (الاغتراب والبطل القومي- ص44)

* * *

         في حالة استقرارٍ كهذه تنشأ تدريجيّاً، العقلية التدوينية حيث يصبح القانون مرجعاً، يمكن مناقشته، وبالتالي تطويره. عندها ينحسر العرف الذي يمثل العقلية الشفاهية في البلدان المتخلفة. بمعنى آخر ليس للأعراف من مرجع سوى الذاكرة وكبار السنّ في المجتمع. أما القانون فيحتاج إلى قاضٍ متخصص ومحكمة وشهود، وبالإمكان تمييز الحكم.

         على هذا، ما من اختلافٍ أكثرَ وضوحاً وأشدّ خطورة، كالاختلاف بين العقلية التدوينية والعقلية الشفاهية. ليس المعنيّ بالتدوين، القراءة والكتابة، وليس المعني بالشفاهية : الأميّة.

         يمكن القول، وبلا تردد، إنني حينما انتقلت عام 1963 من بغداد إلى لندن إنّما انتقلتُ من مدينةٍ شفاهيةٍ إلى مدينة تدوينيةٍ بكلّ ما في الكلمة من معنى. وما التصادم الحضاري في هذه الحالة، إلاّ تصادم هاتين العقليتين. مازالت أعاني من التوفيق بينهما حتى بعد أربعين عاماً. لا ريب ، ثمة أسباب عديدة تعاورت فيما بينها، منذ العصور الوسطى فجعلت العقليةَ الإنجليزيةَ تدوينية، حتى لو كان حديثاً بين أفراد عائلة واحدة. يتحدثون بمحبة ولكن كغرباء لا يتجاوزون حدّاً لقانون، ولا يتساهلون به، بسبب طول العشرة، أو صلة الرحم. باختصار، يتحدثون وكأنهم يدوّنون عقداً مُلْزِماً، لذا يحسبون كلّ حساب لأيّ تمادٍ خوفاً من الزلل. المفردات القانونية منتشرة حتى في الأحاديث اليومية على حساب الألفاظ الدينية. حلّ مثَلاً مصطلح : (المخالفة القانونية) محل مصطلح: (الخطيئة) في المفاهيم الدينية السابقة.

         أجّرتُ في بداية حياتي بلندن غرفة في بيت عائلة إنجليزية. سيّدةُ البيت وسيّدُه، فوق السبعين. يجهلان الثقافة بوصفها أسماءَ كتبٍ وشعراء وموسيقيين، ورسامين، إلاّ أنّهما شديدا الدقّة حينما يتعلّق الأمر بالنظام والقانون. البيت كلّه قائم على النظام والقانون والاحترام. يتخاطبان بـ (من فضلك) و(شكراً)، وفي الخارج يطيعان القانون وإن تأفّفا منه. تصرّفهما بأجمعه خاضع إلى النظام والقانون، ويتحاججان به. لم أسمعْ منهما ما نردده دائماً: حلال أو حرام، حقّ أو باطل.

         أصبح القانون في هذا البلد، ضميراً يحتكمون إليه... رحتُ أتصيّد العبارات القانونية في أفواه الناس.) (غصن مطعّم في شجرة غريبة،ص -76 -77 )

         أردت أن أعرفَ من صديقٍ إنجليزي لي، عمّا يجده فيّ من عاداتٍ أو عيوبٍ لافتةٍ للنظر.

         - عيوب، يا لله ، يمكنك أن تقول: اختلاف البيئتيْن. أنتَ منحدر من بيئة وأنا منحدر من بيئة أخرى. هذا كلُّ ما في الأمر. لقد نشأنا منذ عصر النهضة على التدوين. أصبحت عقلياتنا تدوينية. جاءت الثورةُ الصناعية إلى بريطانيا في القرن التاسعَ عشرَ، فترسّخ التدوين أكثر.

         - هل تعني أنّ عقلياتنا شفاهية؟

         - يمكن لك أن تقول إنها غير تدوينية، كما يجب. شهدتِ الفترةُ العباسية أكبرَ العقول التدوينية في تأريخكم العربي. لا أعني بالتدوين، الكتابة طبعاً. لكنها لم تستمرّ مع الأسف، نتيجة الحروب والاضطرابات الداخلية.

* * *

         الأوروبيون منذ عصر النهضة اكتشفوا أهمية تفاصيل الأشياء. شعراؤنا يتغنون بالغابة والبستان، ولايعنون بتفاصيل حديقة البيت، وهم يفحصون كل نبتة على حدة: طولها، عرضها، خلاياها، أنساغها، لحاءها، استنباتها، تطويرها، أفضل بيئة لها. نحن نتحدث عن الصحراء، وهم يضعون قبصة تحت المجهر، يفحصون عناصرها وصفاتها. نحن نتحدث عن البحار، ونتلذذ بأشرعتنا الضائعة استدراراً للعطف، وهم يطوّرون البوصلة ويرسمون جغرافية البحر. يدرسون الرياح ويتنبأون بهبوبها. كان بعض العلماء في العصر العباسي أوّل مَنْ دشّن التفاصيل، في تحليل الشعر والنثر، في ضبط معاني الكلمات، في تمحيص التراث، في دراسة الأمراض الحيوانية والنباتية، وكانوا السباقين في دراسة الإنسان تشريحاً، وفي كتابة النوتة الموسيقية. لكنّهم واجهوا عنتاً وصلفاً من قبل العلماء من ذوي العقليات الشفاهية... إلاّ أنّ الاضطرابات بين المتنافسين على السلطة، مهّد لدخول المغول، فقضوا في الواقع على الأخضر واليابس. وما الأخضر إلاّ العقلية التدوينية) (غصن مطعم في شجرة غريبة، ص85 )

* * *

         كما تجتمع الأحجام الكبيرة، والمسافات البعيدة، في بؤرةٍ داخل المجهر، كذلك أصبح الشاعر الأوربي، يحوم داخل رقعةٍ معينة. يكاد ما يسمعه، يراه ويلمسه ويشمّه. عوّض عن المسافات البعيدة الامتدادية، بالنفاذ في الأعماق، يكثّف صوره بخلفيات ثقافية أو دينية أو فلسفية. أليوت مثلاً يسمع صوت المفتاح في الباب، ويتساءل عن الشخص الثالث الذي يسير إلى جانبك، وكوب الشاي أمام العاشق بروفروك. السياب لا يسمع نخيل العراق وهويشرب المطر، إلاّ إذا كان بعيداً بالكويت.، ولا يكتب عن أطفاله إلاّ إذا تحركت الطائرة.

* * *

         مدينة لندن، كأية مدينةٍ أوروبيةٍ راقيةٍ، تُدِلّكَ على نفسِها. تكاد تقرأها كما تقرأ كتاباً. تجنّبك:(ذلّ السؤال ولو من أين الطريق) لأنها مدوّنة أمام ناظريك وبوضوح.

         أسماء الشوارع تدوين. أرقام البيوت تدوين. إشارات المرور تدوين. وكذلك أرقام الحافلات والمناطق التي تمرّ بها، وعناوين المكاتب والمحال التجارية والتواليتات العامة، كلّها تدوين. اختلاف السيارة الخصوصية عن سيارة الأجرة عن الحافلة عن سيارة الشرطة عن سيارة الإسعاف تدوين. تصعد إلى الحافلة وثمّة لوحة تنبئك عن عدد الركاب جلوساً، وعدد الركاب وقوفاً، وأين تضع حقيبتك وعلى أيٍّ تقع المسؤولية في حالة فقدانها، أيُّ المقاعد مخصصة لكبار السنّ. هذه كلها بمنزلة عقد بينك وبين سائق الحافلة. إذا زاد عدد الركّاب واحداً على العدد المسموح به، فسائق الحافلة لا يتحرّك قانوناً. ثمة قطعة تحذِّرك من الغرامة في حالة عدم شراء التذكرة، وما مقدار الغرامة، وثانية تنبهك ماذا تفعل في حالة الطوارئ. كلّ وصلٍ تتسلّمه مع كل سلعة تشتريها عقد، وبالتالي فهو تدوين.

         كان المسلمون الأوائل، ولا سيّما الأصوليون منهم، يسخرون من التدوين، ويعتبرون الأحاديث النبويّة المدوّنة تصحيفاً. الأفضل بنظرهم، ما رُوِيَ مشافهة.

         لم تظهر العقلية التدوينية لدى العرب والمسلمين، إلاّ في العصر العبّاسي ولأسبابٍ موضوعية كما ذكرنا أعلاه.

         تمتّعت بغداد حينها بالمقومات الملازمة تقريباً لكل حاضرة متمدنةً. كان لا بدّ من تنظيم العلاقات الاجتماعية والمعيشية بين الفرد والفرد، وبين الجار والجار، والمحلة والمحلة. لا بدّ من تنظيم علاقة السلطة بالأفراد وبالعكس. القانون وحدَهُ قادر على ذلك. لذا بلغ الفقه الإسلامي أوجَهُ في هذه المرحلة. أصبح أقوى من الأعراف المتوارثة. بكلماتٍ أخرى تغلّبتِ العقليةُ التدوينية على العقلية الشفاهيّة، ربّما لأوّل مرّة. لا عجب أنْ ظهر مؤلفون تجريبيون في شتّى فنون القول، كالبيروني والجاحظ والطبيب الرازي،وأبي حيّان التوحيدي وابن الدبيثي..كانوا، في الجملة يتحدثون عن تجربة فيبتكرون، يسعوْن إلى التثبّت من الحقائق بأنفسهم. وفي ضوء ما يتوصلون إليه يمتحنون ما انحدر إليهم من معلومات.

         غير أن التدوين، كما عرفه العصر العباسي انتهى مع سقوط بغداد على أيدي جحافل المغول. عادت العقليةُ الشفاهيةُ من جديد، مع هيمنة الإمبراطورية العثمانية، واستمرّت حتى مجئ الاستعمار البريطاني.

         كان الاستعمار البريطاني منشغلاً، كل الانشغال، بجني الأرباح وخلق الطبقة المتوسطة حتى تكون له في المستقبل، قاعدةً استهلاكيةً أوسع. وحينما كانوا يتدبرون الأمريْن معاً، كانت إدارتهم المدنية وكذلك العسكرية، تسيّر أمور البلد، بعقلياتٍ تدوينية لأنهم لم يعرفوا غيرها. أي لم يكنْ من بنود هيمنة الإنجليز على العراق مثلاً نقله من العقلية الشفاهية إلى العقلية التدوينية، وإنما جاء ذلك عرضاً.

         هكذا بفضل الدستور، رغم تعطيله بأحكام عرفيةٍ أحياناً أو خرقه، أحياناً أخرى، وبفضل البرلمان رغم تزويره العلني، وبفضل الجامعات والمطابع والبعثات كان العراق يسعى حثيثاً لاستكمال عقليته التدوينية، والتخلص في الوقت نفسه من العقلية الشفاهية.

         حين وقعت ثورة 1958 بالعراق تفجّرتْ شتى الصراعات بين فئات المجتمع، بلغتْ درجاتٍ بعيدةً في الاحتراب والقتل، كما تفعل الوحوش ببعضها البعض. يذهب السياسيون مذاهب شتى في تعليل ذلك. للاقتصاديين أسباب أخرى غير تلك. وقد يجد علماء النفس خللاً ما، أو مسّاً من الجنون مؤقتاً تتعرض له معظم شعوب الأرض بين فترة وثانية. قد يكونون على صواب وإنْ جزئياً. إلاّ أنّ تلك الصراعات، تحت أيّ لبوس ظهرتْ، إنما كانتْ صراعاً بين جبهتيْن، بين العقلية التدوينية والعقلية الشفاهية، أو هكذا استقطبتا.

         حُسِمتْ المعركة بانتصار العقلية الشفاهية، لا سيّما بعد اندحار رئيس الوزراء عبد الرحمن البزّاز وهو أستاذٌ للقانون أصلاً. تجسدت العقلية الشفاهية آنذاك بالقوة العسكرية الانقلاباتية. بهذا الأسلوب عاد من جديد مجدُ العضلة، وأشعارها الحماسية، وشرعت البيانات والافتتاحيات تُكتَبُ بقبضةٍ من حديد.

         قال طاهر يحيى التكريتي، مرّة، وكان رئيساً للوزراء، لوفدٍ زاره لحثّه على إجراء بعض الإصلاحات : (إسمعوا جئت إلى هنا بدبابة، ولا أخرج إلاّ بدبّابة) لم تبلغ العقلية الشفاهية أعلى أوجٍ لها في تاريخ العراق، إلاّ حين استولى صدام حسين على الحكم. أشار في إحدى المرّات إلى فمه متسائلاً باستنكار: ما هو القانون؟ ما يخرج من فمي هو القانون.

         الغريب إنّ الملك (لير) قال نفسَ المعنى بكلماتٍ مختلفة قليلاً، ولكن بعد أن بلغ به الجنون مبلغاً عظيماً. على أية حال لا تدري كيف تتصرف مع عقليةٍ شفويةٍ كعقلية صدام، لأنه من ناحية كعيدي أمين، الذائع الصيت تسيرّه احلامه، ولأنه من ناحية ثانية، كعيون (ميدوزا) ما إن يحدِّج في العيون حتى يسمّر المتآمرين في أماكنهم. بات القتل بالشبهة عنده قانوناً غير قابل للنقض أو الاستئناف. يمكن القول إنّ صدّام ورث عن الصحراء شفويتها، وهي طبيعة فيها. فظروف الأعراب تقتضي التنقّل الدائم فلا تسمح لأية عقلية تدوينية بالترعرع.

         لكن لماذا كلّ هذا التوكيد على الصحراء العربية، دون سواها من الصحارى؟ سؤال لا شكّ وجيه، وفي محلّه. أوّلاً؛ الصحراء العربية ليست امتداداً ميتاً أو خالياً أو عقيماً كبقية الصحارى أو معظمها.

         إنها مأهولة منذ قديم الزمان ولا تزال. وهي ليست خاملة، كما تبدو لأوّل وهلة. فقد كانت ولا تزال ذات قوّةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ يُعتدّ بها، ولطالما أسقطتْ أو ساهمت في إسقاط دول وحضارات كالحضارة السومرية . ثمّ إنها كانت قوة اقتصادية، بفضل طرقها التجارية التي تربط شماليّ الجزيرة العربية بجنوبيّها، والخليج العربي بالبحر الأحمر. كانت ولا تزال غنية بمواردها الطبيعية. غنية كذلك بشِعْرها على وجه التحديد. ازدادت أهمية شعرها القديم مرتيْن. الأولى في العصر العباسي، لأهميته الفنية والمعجمية، ولأن اللغويين ومؤرخي الأدب اتخذوه معياراً أكيداً لنحوهم، ولما يجب أن يكون عليه الشعر الجيّد الأصيل. الثانية في عصر نهضتنا الحديثة حينما جهد محمود سامي البارودي لربط الماضي بالحاضر.

         ولأنّ الصحراء معنية بالكر والفرّ، وبالتحايل الشديد للنجاة من الغوائل والبشر على حدّ سواء، فقد شاعت العضلة في أشعارها، والمآثر البطولية الدموية في أخبارها. فرغم أنّ عنترة بن شدّاد، احتار في مطلع معلّقته: (هل غادر الشعراء من متردمِ)، في الإتيان بشئ جديد ذلك أنّ الشعراء الذين سبقوه طرقوا كلّ فكرة، إلاّ أنه لم يحترْ، أولم يشكَّ في قوّته القتالية التي تفوق طاقة هزابر.

         ولأنّ عنترة ابنَ الصحراء، فإنه لم يقرنْ طاقته الذهنية بقدرته الجسمانية. يبدو أنّ المتنبي من الأوائل الذين افتخروا بهما معاً:

الليل والخيل والبيداء تعرفني والرمح والسيف والقرطاس والقلم

         أكثر من ذلك، ربما كان المتنبي أوّل من بشّر بمرحلةٍ جديدة ينتصر فيها العقل على العضلة:

الرأيُ قبل شجاعة الشجعانِ هو أوّلٌ وهي المحلّ الثاني

         على الرغم من أنّ الشجاعة العضلية انحسرت إلى المقام الثاني بتقدم التحضّر إلاّ أنّ قاموسها لا يزال متفشياً حتى في أدبنا المعاصر وبنفس صُوَرِهِ وخيالاته السابقة كما سنرى. وهذه إحدى نكباتنا الأدبية.

         المسألة أخطر من ذلك بكثير. فالشجاعة العضليّة تحتاج وبالضرورة إلى درجة عالية جدّاً من الاعتداد بالنفس تؤدي بدورها إلى أعلى درجات الثقة بالقدرات الجسمانية الخارقة على حساب الضعف الإنساني النبيل الذي لا يظهر لدى الشاعر الصحراوي ومقلديه إلاّ أمام النساء (وهنّ أضعف خلق الله إنسانا). بكلمات أخرى لا بدّ للمحارب الصحراوي من تحميس نفسه واستنفار عضلاته من جهة، وإدخال الذعر في نفوس أعدائه. من حيث التحميس يصف تحمّله الذي يفوق تحمّل أيّ حَيَوان في قطع الفيافي والتنوفات. أمّا من حيث إخافة الأعداء فيبدأ بحربٍ نفسيةٍ شعواء حتى قبل بدء المعركة. فبالإضافة إلى المشرفيات والقواضب والسيوف الهندية واليمانية

         وتكسير الجماجم، وذبح الأوردة فإنه يستخدم أصلب الكلمات تدميريّة، ويتبنى أكثر الكلمات إتلافاً. وهي الكلمات نفسها التي ما زلنا نستعملها تقريباً في بياناتنا العسكرية وتعليقاتنا السياسية وبعض نقاشاتنا السخيفة في الفضائيّات.

         قلنا إنّ العضلة شرعت منذ عصر النهضة بالضمور تقريباً، أيْ منذ تماسّنا بالعقلية التدوينية الأوربية، إلاّ أنّ مدلولاتها وصفاتها لم تضمر. وجدتْ لها موصوفات جديدة فالتصقت بها. أي أنّ الثقة بالعضلة، انتقلتْ إلى الثقة بطاقة الفرد الذهنية حتى في الحالات التجريدية. وهذا عين ما فعله بعض المتصوفة من قبل، حينما صوّروا فِكَرَهم الذهنية بأكثر الكلمات ماديّة ومحسوسية.

         صحيح أنّ الافتخار بالقبيلة تحوَّلَ بكل موروثاته اللامحمودة إلى الافتخار بالمذهب الطائفي أو الحزب، إلاّ أنّ ما يدعو إلى الحزن حقّاً، هو أن يتحوّل الاعتداد بالقدرة الجسمانية، وهو ما اقتضته أخلاق الصحراء، إلى الاعتداد المشين بالنفس. إنّ الغرور والاستعلاء، كما هو معروف، إذا اجتمعا، بلغا أعلى درجات التأفّف والامتلاء بالذات. قال المتنبي:

سيعلم الجمع ممن ضمّ مجلسُنا بأنني خير مَنْ تسعى به قدمُ

         وقال الجواهري:

أقول لنفسـي إذا ضمّـها وأترابهـا محفل يُزدهى
تساميْ فإنّكِ خير النفوس إذا قيس كلٌ على ما انطوى

         اختلف الأسلوب وتوحدت الفكرة.

         الثقة بالموهبة التي نسلتها بالأصل الثقة بالعضلة، ولّدتْ هي بدورها داءيْن هما شرُّ آفتين في أدبنا العربي، وهل هما إلاّ الغرور واليقينية. يبدو ما من أمةٍ ابتلت كأمّتنا بغرورِ شعرائها. القصيدة خريدة، والشاعر نفسه فلتة. انتقلت العدوى إلى كتّاب النثر، ولِمَ لا؟ قال أبو عليّ القالي في مقدمة كتابه (الأمالي)، بعد أن رأى (العلم أنفس بضاعة:

         وشغلت نفسي بحفظه، حتى حويتُ خطيره، وأحرزتُ رفيعه، ورويتُ جليله، وعرفت دقيقه، وعقلت شارده، ورويت نادره، وعلمت غامضه إلخ (الأمالي-ص21).

         لا نعدم أنْ نرى مثل هذه الازدهاءات، في مساجلات عباس العقاد وعبد الرحمن الرافعي وطه حسين ومارون عبّود وإيليا ابي ماضي والبياتي. الشئ الآخر الذي ورثناه عن الصحراء: اليقينية وهي داء لا يقلّ خطورة عن الغرور، لأنها تجرّ إلى المهالك. تتجسّد اليقينية لدى السياسي بالتفاؤل التام بالغد. يرى في كلّ إحباط بداية نعيم عميم. وتتمظهر في الأسلوب الأدبي، بصيغ قاطعة جازمة. من ذلك مثلاً، صيغ القسم، لا لإثبات حق، أو إزهاق باطل، أو إثبات براءة وإنّما للتهديد والوعيد. ثُمّ هل هناك دليلٌ أكثرُ يقينيةً من استهلال الجمل بحرف التوكيد: إنّ، وإلصاق نون التوكيد بالفعل، ولام التوكيد. هذه الصيغ اليقينية من مخلفات مراحل سحيقة مرّت بها اللغة العربية، شأنها شان كلّ لغة قبل أن تتطوّر إلى لغة علمية متواضعة.. للعلم فقط، يبدو أن (الفعل المطلق) أخذ يلفظ أنفاسه ولم يَعُدْ يُرى إلاّ نادراً.

         ربما مرّت اللغة في بداية نشوئها، بمرحلة التسليع والعقود والمقايضة وهي لغة خالية من الاستعارات والمجازات، ثمّ المرحلة الدينية حيث المصطلحات الفقهية، والتصورات الدنيوية والأخروية، فتصطبغ الكلمات اليومية بصباغاتها. ثم المرحلة الأدبية، حيث تشيع هذه المرّة مدلولات اجتماعية وفلسفية جديدة، ومفهومات سياسية بمعزل عن معانيها الدينية السابقة. هذه اللغة تتذرع عادةً بالمجاز، لتحقيق غاياتها.

         يبدو أنّ الغلبة الآن للغة العلمية، لغة البساطة والتواضع.

         مما يبعث على الأمل، ظهور قواميس مترجمة إلى اللغة العربية مخصصة للمصطلحات الطبية والعلمية والفنية والهندسية ، وثمة قاموس تجاري وقاموس عسكري وقاموس قانوني وكلّها تدلل على تدشينِ عهدٍ لغويٍّ جديد، أي تسرّب فشيوع العقلية التدوينية.

         من نافلة القول، إنّ كلّ سلعة وافدة إلينا، تأتي بقيمها المعرفية،ولكنّ الأهم قيمها الحضارية. لا بدّ لكلّ قيمةٍ، سواء أكانت معرفية أم حضارية، من لغة خاصّة وأي تلكؤ بالأخذ بها يعطل عملية تطور العقلية التدوينية.

         ما أهمية أن تكون ساعة يدك غالية الثمن، إذا كنت لا تلتزم بموعد؟ مع ذلك فربّما الأهم هو فحص القيم الحضارية للتوقيت في النصوص الأدبية والموسيقية. في مسرح بيكت أو في موسيقى بيتهوفن. بكلمات أخرى، التعرف على تقنيات التزمين التي يستخدمها الأديب الأوربي. ربما يتفوق الأدب الأوربي بتقنياته، إذا افترضنا تساوي الموهبة والثقافة لدى الأديب العربي والأديب الغربي.

         من أغرب ما قرأت، ما رواه محمد حسين الأعرجي في كتابه عن الجواهري. قرأ (الجواهري) ذات يوم بعضاً من مسرحيات شيكسبير (طبعة جامعة الدول العربية) فداخ إلى الدرجة التي رأيته يسألني مُتعجباً:

         يعني أبو هاشم صدق أنا شاعر العرب الأكبر؟ لعد هذي الأمة شكد متخلفة؟ هو هذا أدب واللي نكتبه أدب، صدك ولك؟ كأنّه يقول: أصحيح أنني أنا شاعر العرب الأكبر؟ إذاً كم متخلفة هذه الأمّة التي تسميني كذلك؟ أهذا الذي كتبه شيكسبير أدب، وما أكتبه أنا أدب أيضاً؟

         فقلت له:

         - أبا فرات أنت شاعر وجداني، وشيكسبير شاعر مسرحي، ولا مجال للمقارنة. فوالله ما زاد على أن قال: - أقْنِعْ نفسك يا أبا هاشم.

* * *

         قد يكون من المفيد حقّاً أخْذُ عيّناتٍ من افتتاحيات بعض الصحف العربية وتعليقاتها السياسية، ومقارنتها بعيّنات مماثلة من الصحف الأنجليزية، عندئذٍ تسهل قراءة الاختلاف بين العقليتين، أوّلاً من حيثُ طريقة معالجة الموضوع، وثانياً من حيث عدد الكلمات العضلية، وثالثاً من حيث الصيغ اليقينية التي تشيع في الكتابات العربية لدرجة لا شبيه لها في نظيرتها الإنجليزية.

         كاتب الافتتاحية في الصحف الإنجليزية يجهد لأن تكون كتابته قانونية بالدرجة الأولى ولتحقيق ذلك يلجأ إلى ثلاثة أساليب، وهمّه الأوّل والأخير عدم فقدان ثقة القارئ :

         1 - خلوّ التعابير من العاطفة أو الميوعة أوكل ما يوحي بأيّة ميول شخصية.

         2 - يجب أن تكون المعلومات الواردة في الافتتاحية موثّقة، حتى لا تكون هدفاً للطعن. قد يجرّ الخطأ في بعض الأحيان رئيس التحرير إلى المحاكم.

         3 - استعمال الجمل الاعتراضية clause Parenthetical وهي ماتتميز بها الكتابة الإنجليزية عموماً، وبها تتميّز عن الكتابة العربية. دخلت الجمل الاعتراضية حتى في الكتابات الإبداعية، وهذا ما فعله هنري جيمس، وجيمس جويس، وسي. بي. سنو. وهي تقوم مقام الكوابح للحدّ من الاندفاع من أيّ نوعٍ كان. بكلمات أخرى تبطئة الانسياق غير المتروّى فيه وراء التلذذ بتدفق الأفكار. أكثر من ذلك تشير الجمل الاعتراضية إلى المراحل التي تمرّ بها التجربة أو الفكرة. أيْ أن الكاتب لا يعطيك النتيجة التي توصّل إليها، دفعة واحدة، وإنما يقودك خطوة خطوة لتتعرف معه على كيفية نضج الفكرة واكتمالها.

         الجمل الاعتراضية تواضع جمّ، ومنطق علمي.

         بالمقابل تخلو افتتاحيات الصحف العربية من الجمل الاعتراضية، ربما لأنّ كاتبَها متيقنٌ مما يطرح من آراء. ولكنْ كثيراً ما نجد، بدلاً عن ذلك، صوراً مستلفة من الصحراء، وألفاظاً عضلية. ونظراً لضيق الوقت سنكتفي بمثالين أدبيين معاصرين ونرى كيف شاعت الصحراء فيهما.

         قال محمد مهدي الجواهري في قصيدة (بائعة السمك في براغ):

فلاحتْ لنا حلوةُ المجتلى تَلفّتُ كالرشأ النافرِ
تشدُّ الحزام على بانةٍ وتفترُّ عن قمرٍ زاهرِ
من( الجيك) حسبكَ من فتنةٍ تضيق بها رقية الساحرِ

         هل هذه أوصاف لبائعة سمك (جيكية) أم أنها تصوّرات ذهنية جمعها الجواهري فسيفسائياً من بطون الكتب؟ هل يصوّر علاقةً بين بائع وزبون، أمْ بين غزالةٍ نافرةٍ وصيّاد؟ هل يصوّر حانوتاً أمْ صحراء؟ يقول راوية القصيدة: (دلفنا لحانوت سمّاكةٍ)، غير أنّ المسافات التي توحي بها الأبيات أعلاه، شاسعة وفارغة، شساعة وفراغ الصحراء. كلمة (لاحتْ) تدلّ بلاغياً على ظهور شئ بعيد ينتظره الراوية بترقّب. وكلمتا : (تلفّت) و (النافر) تدلاّن على الخوف والحذر، وهما صفتان أساسيتان، في كلّ غزالة بريّة لا تستطيع الدفاع عن نفسها إلا بسرعتها وهروبها. كيف نبرر إسقاط صبيةٍ نافرةٍ بدوية، على بائعةِ سمكٍ جيكية، خاضعة لشروطِ عملٍ وعلاقات مهنية محض؟

         الجواهري، بلا شكّ، مكتبة شعرية، ولكنّ حفظَ الشعر لمجرّد الحفظ، له مخاطره، أقلُّها يجعل عملية الإبداع مقننة تتناده فيها الصور ذهنياً، كما يجعل تدفّق الكلمات عادة اتوماتيكية، وبذلك تصبح الذاكرة أهمَّ من التجربة، والقاموس أهمَّ من الحوار والمعايشة. العادات ألدُّ أعداء الموهبة. أخطر من ذلك إن تحوّل الشاعر من دودةِ قزّ إلى بائعِ قماش). (الغتراب والطل القومي-ص12-13)

         المثال الآخر عن شيوع المفردات الصحراوية في الشعر الحديث بلا مبرّر، نأخذه من أحد شعراء التفعيلة المعاصرين، وفيه يصف رحلته من بغداد إلى بيروت. عنوان القصيدة: (الطريق إلى بيروت):

مشينا إليكِ مسافة أجيال
ويوم وصلناك كنتِ بعيدهْ
وكان بأعيننا لا يزال اشتياق إليك
وكنّا
هرمنا
فأرجلنا المتعبات تساقطن جزءاً فجزءا
وأنّ غبار الطريق أضلّ سرانا سنينا
وأنّ دُمِينا
وجال بنا ألفُ دربٍ ودرب ...

         (بلند الحيدري - الأعمال الكاملة - ص 599)

         المقطع أعلاه على هلهلته، يفيدنا فقط في إثبات ما ذهبنا إليه من شيوع القاموس الصحراوي حتى في شعرنا الحديث.

         (مسافة أجيال) أعطبتْ عروض بحر المتقارب المتهادي، وأصابته بما يُشبه مرض الربو. وجملة: (لا أزال) في الشطر الثالث يمكن الاستغناء عنها وزناً أوّلاً، ثمّ إنّها توحي بانقطاع الاشتياق.

         على أية حال من استقراء مصطلحات القصيدة نفهم أنّ الرحلة التي قام بها راوية القصيدة ليست جويّة وليستْ بواسطة سيّارة ولا حتى بواسطة ناقة أو حمار وحشي. إذنْ نحن من البداية أمام افتعال ظاهر.

         أراد راوية القصيدة أن يوحي بقوله: (مسافة أجيال)، ببعد المسافة بين بغداد وبيروت، ولكنها ليست بعيدة إلا إذا قُطِعتْ مشياً على الأقدام. وحين ذكر في الشطر الذي يليه: (ويوم وصلناك كنتِ بعيدة) إنّما عامل بيروت معاملة سراب، إذ إنك ما إنْ تقترب منه حتى يبتعد. أمّا قوله: (الأرجل المتعبات) فتوحي فعلاً أنّ راوية القصيدة إنّما قطع المسافة مشياً على الأقدام. بالإضافة إلى ذلك تدلّ (غبار الطريق) على أنّ تلك المسافة كانت صحراويّة. ثمّ ألا تدلّ: (وانّا دُمِينا) على أنّهم كانوا حفاة، وأنّ قوله: يجول بنا ألف دربٍ ودرب)، يشبه ضياع بني إسرائيل في التيه؟

         إذا قرأنا في المثل أعلاه قصوراً في قول الشعر، فإنّه يكشف في الوقت نفسه عن لا مكنة الشاعر من طرائق إحياء المشاهد التاريخية القديمة في مواقعها الجغرافية الأولى، وهذا لا يتسنّى إلاّ إذا كان الشاعر مثقفاً، اطلاعاً وهضماً واستنتاجاً.

         لِنقارنْ، تعميماً للفائدة، النصّ أعلاه، بقصيدة رحلة المجوس Journey of the Magi a :تي. أس. إليوت وهما، مع الفارق، متماثلان من حيث توظيف التاريخ في الحلّ والترحال.

         حتى بمرورٍ عابرٍ - كما يبدو - على قصيدة إليوت، يتكشف لنا ما معنى الغنى والفقر في النظم، وما أهمية التقنية في صناعته وما أهية أن يكون الشاعر مثقفاً. يزداد ثراء قصيدة (رحلة المجوس) مع كلّ قراءة جديدة. ومع كلّ قراءة جديدة تتشكّل القصيدة بأبعادٍ أعمق، وتتنغّم بإيقاعاتٍ محكمةِ الدوزنة والعزف.

         حشد إليوت لقصيدته، فصول السنة، وضاعفها بفصولٍ روحية، مما زاد في كثافتها وعمقها، لأنها، في هذه الحالة، يمكن قراءتها على مستويين.وأغنى الشعر ما بُنيَ على مستوييْن فأكثر.

         تبدأ القصيدة بفصل الشتاء. وحتى يعمّق الشاعر الشتاءَ الزمني ويعطيه بعداً روحيّاً، أضاف إليه مضموناً فلسفيّاً. حتى لتكاد تشعر بعد قراءة المقطع الأوّل، أنّ الشتاء يعني كذلك برودة الموت التي شرعتْ تدبّ في أوصال الإمبراطورية الرومانية، من جراء مولد ذلك الطفل الموعود الذي سيقضي عليها. ومن تحصيل الحاصل سيقضي على الإمبراطور نفسه. من هنا هلعُ الإمبراطور وتطيّرُهُ من هذا المولد المشئوم. لا بدّ له من قتله. هكذا بات الشتاء وهو نذير الموت، يدب في كينونة الإمبراطور من الداخل.لا ننسى أن الأبصال تسبتُ في الشتاء لتولدَ في الفصل التالي. الشتاء، بهذا المنظور، موتٌ وحياة في آن واحد.

         وحتى تكون هذه الرحلة المبطنة بالدين والفلسفة، مُرّةً وممضّة، جعلها الشاعر طويلة و>في أسوأ أوقات السنة). ربّما يرمز الشتاء هنا كذلك، إلى الشيخوخة التي تعانيها الامبراطورية.

         يحشد إليوت بعد ذلك الجِمال المتقرّحة الأخفاف، والباركة في الثلج الذائب، يحشد الفتيات الحريريات اللواتي يجلبن (الشربت)، يحشد المدن العدوانية والقرى القذرة التي تطلب أجوراً فاحشة، لذا لا بدّ من السفر ليلاً. النوم متقطع. (سيوظف الشاعر تقطّع النوم لأغراضٍ فنية، بعد قليل) وحتى تكون ثمّة أهمية استثنائية لما سيقوله الشاعر عن عبثية الرحلة حين يقول:

         وأصوات تنشد في آذاننا قائلة
كلّ هذا حماقة

         مهّد إليوت، لتلك الأهمية أوّلاً بتعتيم حاسة البصر بانتشار الليل، فنابت حاسة السمع عنها، و لأنّ النوم متقطع، فإن الخدر يُضخِّم الأصوات.

         قصيدة (رحلة المجوس) تُقرأ على عدة وجوه. تشاهدها مرّة كفيلم سينمائي ذي لقطات محكمة التوقيت ومرة تتمعن بها كأنها لوحةُ رسمٍ، متشبعة ألوانها بحالات نفسية متباينة، ومرة تستمع إليها كحركات موسيقية. مرّة تراها مقبرة وأخرى تراها حديقة، وفي نهاية المطاف تتيقن أنها حديقة في مقبرة. أليستْ الحياة كذلك؟

         على أية حال، إن مولد ذلك الطفل (وهو رمزُ مولدِ كلّ عهدٍ جديد)، هو موت للإمبراطور(الذي هو رمزٌ لكلّ عهدٍ قديمٍ شاخ)، وهكذا نجد أنفسنا أمام أغربِ معادلةٍ حيث المولد موت والموت مولد. أول مَنْ أدرك هذه المعادلة هو الإمبراطور نفسه، حيث قال في آخر القصيدة:

         (سأكون سعيداً لموتٍ آخر)

         وما الموت الآخر إلاّ قتل الطفل - المسيح. بهذا القتل فقط يتمكن الإمبراطور من دحر تلك المعادلة الرياضية.

         نستطيع أن نقرأ مأساة الإمبراطور كذلك في تعبيره : (سأكون سعيداً) بدلاً من صيغة الجمع المعتادة :(سنكون سعداء) التي هي خاصّة بالملوك، وهي نفس الصيغة المفردة التي لجأ إليها مكبث حينما أحدقت به الأخطار)