ملتقيات العربي

ندوة مجلة العربي ولغتها العربية نصف قرن من المعرفة والاستنارة بالاشتراك مع اليونسكو

دور المجلات الثقافية في نشر الوعي الفني بمصر

المجلات المصرية والسلطة بين
الصراع ... والاستقلال ... والتبعية

بقلم: عزالدين نجيب

         إن القبيلة المتلاحقة الأجيال والمتعددة الألوان والأطياف من المجلات الثقافية, تتعدد كذلك في التوجهات والغايات , ما بين التنوير والتأصيل والتغيير , لكنها جميعا - بشكل أو بآخر - تدخل في علاقة مع السلطة الحاكمة , بين التبعية الكاملة أو التناقض أو الصراع أو السير علي الصراط المستقيم... إن بالحياد أو التقية , وفي كل الحالات - وفيما عدا المجلات المملوكة للدولة - فإن جميع المجلات الأهلية تضع هذه العلاقة نصب عينيها , أيا كانت غاياتها بين التنوير والتأصيل والتغيير , بما يجعل هذه الغايات نسبية ومتغيرة لدي كل نوع , وفقا للظروف والمتغيرات السياسية والثقافية في العلاقة مع النظم الحاكمة.

         ويسعي النوع الأول إلي التعريف بخبرات الثقافة الإنسانية بروافدها المختلفة , ونقلها إلي القارئ العربي , إن بالعرض والتحليل , أو بالترجمة والتلخيص , ما يحدث تراكما معرفيا , وذاكرة ينطلق منها القارئ مع أنوار العقل إلي عوالم شاسعة , لكن بغير بوصلة تهديه كي يختار من بين آفاق الثقافات المختلفة ما يناسب حاجات الإصلاح في مجتمعه , وبكلمة أخري : بغير موقف فكري تجاه الحياة و الإصلاح , هذا برغم ما تضمه مواد هذا النوع من محاولات للتطبيق علي واقعنا العربي.

         ويهدف النوع الثاني من المجلات الثقافية - وهو التأصيل - إلي اكتشاف جذور موروثنا الفكري وثقافتنا العربية وتعميقها , ومحاولة إسقاطها علي واقع العصر الحديث , كمنطلق لإصلاحه علي هديها , في مواجهة " ثقافة الآخر " ومتغيرات العصر , ويتفاوت أثر هذا النوع بين الدعوة إلي تثبيت وتكريس الماضي أو إعادة إنتاجه ثقافيا , بما يؤدي إلي قطيعة مع روح العصر , وبين إتخاذه بوصلة للسير علي هديها بإنفتاح علي العصر بقوانينه ومتغيراته , بغية الحفاظ علي شخصية الثقافة العربية , بما تحمله من خصوصية تميزها فى مسارها نحو التقدم والنهضة , أو بما يجعل مهمتها تحقيق رسالة ثقافية بمثابة : " فلاحة للنفس الإنسانية , فالثقافة إخراج للإنسان من تناهيه ونزعته المادية إلى النزعة الروحية , والقضاء على النفس الأمارة بالسوء إلى النفس المطمئنة , ومن هنا فان رسالة المجلات الثقافية هى إشاعة الذوق الرفيع والقيم الروحية وترقيق المشاعر ( ... ) فإذا تحققت الثقافة بهذا المعنى فلن يكون هناك غزو ثقافى ... فلا خوف " (3).

         ويسعى النوع الثالث - وهو التغيير - نحو طرح القضايا الجذرية للفكر فى مجالات التطور الانسانى وتطبيقاته العملية فى مختلف دول العالم على مر التاريخ , مستجيبا لقوانين العلم ومناهج الجدل ووحدة التراث الانسانى , ومسلحا بإيمان قوى بأن الثقافة انعكاس لظروف موضوعية متغيره , تتفاعل بداخلها أنسان الفكر والقيم والحراك الاجتماعي والعلاقات الطبقية ومظاهر السلوك الانسانى , بقدر ما هى موقف اختياري للإنسان , قادر على تغيير البنى التحتية للمجتمع , طالما توفرت لديه القناعة بضرورة تغيير الواقع نحو غد أفضل , وقادر كذلك على الدفع نحو وحدة الشعوب العربية لبلوغ أهداف قومية مشتركة تحقق النهضة الشاملة , ومن ثم ... فان المجلات الثقافية من هذا النوع غالبا ما تتبنى تيارات ثورية أو قومية من الفكر الأيديولوجى أو من الأدب والفن المحليين أو العالميين , وتعمل على بثها داخل نسيج الثقافة العربية , بغض النظر عن مدى قدرة هذا النسيج على التواشج معها واستيعابها , وغالبا ما تدب الخلافات بين هذا النوع من المجلات وبين السلطة , وربما تنتهي بإغلاقها , إلا إذا كانت الدعوة إلي التغيير متوافقة مع فكر النظام.

         وقد يقال أن مشكلة المجلات الثقافية هى مشكلة المثقفين فى إصرارهم على العلاقة الأبوية مع الدولة , باعتبارها الراعى الوحيد لشئونهم والمسئول عن الإنفاق عليهم , ومن ثم تصبح له شرعية الأمر والنهى والتوجيه لهم , فيما يفترض أن يشب المثقفون عن الطوق , وأن يبحثوا عن آليات جديدة لضمان استقلالهم عن الدولة بما فى ذلك عنصر التمويل التعاونى أو استقطاب الرعاة القادرين على دعمهم غير المشروط , وهو ما نراه فى دول العالم المتقدمة , لكن إذا كان ذلك صحيحا فانه لا يمثل غير نصف حجم الأزمة , ولن يحقق حله خلاصا من الأزمة , أما نصفها الآخر فهو القراء , فان قلة عددهم وتناقصه المستمر يمثل أهم عنصر فى انكماش المجلات الثقافية بل واختفائها فى أغلب الأحيان بعد صدور أعداد قليلة منها . وقد أشرنا من قبل إلى الأسباب الجذرية لأزمة القارىء بين ضعف الحراك السياسى والثقافى العام للمجتمع ونمو مشاكل واهتمامات أخرى أكثر حيوية للمواطن , وأزمة التعليم بمراحله المختلفة التى تنتج أجيالا فاقدة الوعى والتميز والقدرة على الإبداع أو الاختيار .... وأزمة وسائل الإعلام والاتصال التى أصبحت موادها بديلا عن القراءة ... إلى غير ذلك من الأسباب التى لا يسمح المجال هنا لتقصيها وتحليلها.

         ماذا لو تركنا أنفسنا للحلم بمجلة ثقافية نموذجية المستوى ؟ ..... إن علينا أولا أن نحدد عدة أهداف عامة تتجه هذه المجلة نحو تحقيقها , وهى فى تصورى كالتالى:

  1. الدفع نحو بلورة مشروع متكامل للثقافة القومية يربط بين الماضى والحاضر والمستقبل , كما يربط بين مشكلات الواقع ومشكلات الثقافة والفن والفكر , واضعا فى اعتباره مستجدات العصر , وعلى رأسها العولمة.

  2. خلق نموذج عربى فى الإبداع الفنى والأدبى متحرر من التبعية المطلقة للنموذج الغربى ومن نموذج الماضى العربى أو نموذج الواقع المعيش , بل يتطلع نحو إطار تعبيرى يجمع بين هذه النماذج الثلاثة برؤى ذاتية خلاقة , قادرة على التواصل مع ذائقة المتلقى العربى , بدون التنازل عن حرية المبدع فى المغامرة والتجريب والابتكار , حتى ولو تصادم مع القناعات السائدة.

  3. خلق وعى فكرى كاشف ودافع نحو إدراك ذاتنا القومية , ونحو الارتفاع إلى قيم أعلى ومجتمع أفضل , فى مقابل الوعى الكوكبى الزائف الذى تحاول أن تعممه العولمة فى سعيها لفرض هيمنة الرأسمالية والإمبريالية على العالم كخيار وحيد.

  4. بعث فكرة طه حسين فى الثلاثينيات , حول ضرورة البحث عن جوهر الثقافة المصرية والعربية فى العقلين الشرقى والغربى , باستعادة ما أسهمت به ثقافتنا وما استقر من تراثنا القديم فى صميم الثقافة البحر أوسطية , لنكون من جديد شركاء فى صنع ثقافة العالم ولسنا مجرد مستهلكين , وهو يجعلنا قادرين على التصدى لهيمنة العولمة وللنموذج الأمريكي , والحيلولة دون تحقيق أهدافه بتنميط الثقافة والبشر.

  5. خلق عقلية نقدية قادرة على فرز طوفان المعرفة الذى يصب ليل نهار فى عقول الجمهور عبر قنوات الاتصال والفضائيات وتكنولوجيا المعلومات بتأثيرها المتعاظم , وعلى مناقشة هذه المادة المعرفية و الاختيار من بينها علي ضوء بوصلة تحدد ما ينفع وما لا ينفع الناس في هذه المنطقة , وهنا لا ينبغي أن تكتفي المجلة بالترجمة والعرض والنقل للأفكار والاتجاهات , بل ينبغي وضعها موضع النقد والتحليل والاستخلاص , وبعبارة أخري ... فإن مهمتها هي طرح القضايا وتحليل الرؤي وتقويم الأزمات.

  6. التواصل المستمر مع منابع الحضارات التاريخية وقيمها الإنسانية والروحية والجمالية , وتعميق علاقة القارئ بها جميعا , وذلك تأكيدا لذاتيته الثقافية , مع ربط هذه المنابع بالقيم الإنسانية المطلقة , متجاوزة حدود الزمان والمكان.

  7. النظر إلي المواد الثقافية المتخصصة في الفنون والآداب بالفلسفة والعلوم ...إلخ علي أنها وحدة متكاملة وليست جزرا منعزلة عن بعضها البعض , أو عن المجتمع في واقعه المتغير أو في صورته المأمولة , مع تأكيد العلاقة الجدلية والتاريخية بين كافة جوانب المعرفة والفنون , حيث يربط بينها عامل الفكر , وتتشابك في تكوين الفرد والجماعة , ومن ثم فإن الثقافة المتخصصة تصب في المركب الثقافي العام , والعكس صحيح أيضا.

  8. العمل علي وصل القطيعة المزمنة في عالمنا العربي بين الفن والجمهور , والتي يعود جذرها إلي ميلاد الفن الحديث من رحم الثقافة الأوربية ونموه في كنفها علي امتداد ما يقرب من قرن , ما جعله يكبر مع الزمن كجزع شجرة مائل نحو الغرب , يصعب علي الجماهير استيعابه وتذوقه , من هنا ازدادت الفجوة بين الجانبين عمقا مع الزمن , دون أن تقابلها جهود جادة من النقاد والفنانين والمثقفين كأزمة تستوجب الحل , وهذا أحد الأسباب الهامة لانصراف الجمهور عن متابعة ما ينشر من مادة نقدية , بتراكيب لغوية عسيرة علي الفهم والذوق في المجلات والمطبوعات.

  9. ويستدعي ذلك خلق لغة ميسرة للتواصل بين المتخصصين والجمهور , تساعد علي بناء تفاهم مشترك , بعيدا عن التقعر اللغوي والاستعلاء علي القارئ بالمصطلحات والتراكيب المعقدة.

  10. كما يستدعي ذلك تأسيس قاعدة معرفية مبسطة حول الفنون المختلفة , بما يسمح باستقطاب قاعدة أوسع من القراء من شتي الأذواق والمستويات الثقافية , وبما يساعدها مستقبلا علي استيعاب جرعات ثقافية وفنية أكثر تخصصا وعمقا , ومن المهم أن يعتمد هذا التوجه علي الصورة , باعتبار أنها تمثل ثقافة العصر الحديث , وليست مجرد وسائط ثقافية , وثقافة الصورة تتنوع بين الفنون التشكيلية وفنون السينما والتليفزيون والفيديو والفوتوغرافيا والسينوغرافيا ونتائج الكمبيوتر من صور إعلانية و إخراج صحفي وتوليف بين شتي العمور المخزنة في ذاكرته , مما يستدعي استجلاء الروابط الجمالية والمعرفية فيما بينها.

    ويبقي السؤال الأصعب وهو : كيف يمكن تحقيق هذا الحلم ؟

             أرى أن الحل الممكن هو الجمع بين أكثر من طرف من هذه الأطراف , وذلك بدعم الدولة لإحدى الجهات الأهلية كى تقومن بإصدار المجلة على مسئوليتها , ولدينا نموذج عملى ناجح بالفعل , يتمثل فى مجلة " ضاد " الأدبية الشهرية التى يصدرها بصفة شهرية منذ عام 2005 اتحاد الكتاب فى مصر بدعم من وزارة الثقافة , ويرأس تحريرها الكاتب محمد سلماوى رئيس الاتحاد , واعتقد أنها تجربة جديرة بالدراسة , لأن تلك المجلة تحقق نسبة معقولة من الغايات التى ذكرتها , أو لنقل أنها تطمح لتحقيقها.