ملتقيات العربي

ندوة مجلة العربي ولغتها العربية نصف قرن من المعرفة والاستنارة بالاشتراك مع اليونسكو

تجربة ودور مشروع كتاب في جريدة

أزمة القراءة ومستقبل الهويّة العربية
في مطلع الألف الثالث الميلادي

د. شوقي عبدالأمير

هل اللغة العربيّة أصل العرب أم العكس؟

         بالإطلاع على تعريف "العربي" لدى القواميس القديمة نفاجَأ بالإجماع الذي تقدمه القواميس في تعريفها للـ"عربي" في أنه مَنْ يُحسِنُ اللغة العربيّة.. ومن هنا فإن العُروبة هي الفَصاحة.. وهي إذن مفهومٌ يبدأ باللغة لكي ينتقل إلى الدلالة القوميّة العرقيّة ثم الدينيّة. والإعرابُ كما نعلم جميعاً هو إستقامةُ الجملة وإتضاح دلالتها دون لُبس أما العُجمة فهي عدم الوضوح والالتباس.

         هذا المفهوم يكاد يكون خاصاً باللغة العربيّة، إذ لا يوجد ما يقابل هذا التعريف في اللغات الأوربيّة. بما معناه أن اللغة العربية شكلت حاضناً وعنصراً جامعاً للقبائل العربية بشكل لم تستطع اللغة اللاتينية تقديمه للقبائل الأوربية في القرون الوسطى.

         ولا يجب أن ننسى أنه لا يوجد شعب في العالم اليوم يقرأُ أبناؤه الصغار في المدارس الابتدائية قصائدَ ونصوصَ مكتوبة بلغةٍ عُمرها أكثر من ألفي عام.. فليست ظاهرة طبيعيّة أو شيئاً مألوفاً اليوم أن يحفظ طلاب المدارس الابتدائية والمتوسطة في بلداننا معلقات عنتر بن شداد على سبيل المثال، إن مثل هذه الحالة لا توجد لدى أي شعب من شعوب العالم اليوم لأن هذه اللغات القديمة قد انقرضت.

         ومن هنا فإن أي خلل في العلاقة مع "النص" أي مع الكتابة واللغة بمفهومها الواسع فإن إنعكاسات ذلك على خصوصيّة الهوية العربية ستتجاوز إنطلاقاً مما أوضحنا آنفاً، الانعكاسات والآثار السلبية التي ستتعرضُ لها أيّة أمة أخرى لا تملك نفس العلاقة التأسيسية الكيانية بينها وبين لغتها كما هو الحال في اللغة العربيّة.

         إذن فإن مكوّنات الكيان العربي التأسيسية في العروبة والدين الإسلامي ذات صلة "وجوديّة" مع اللغة. وإن أي تدهور في هذه العلاقة سيكون قاهراً لوجود الأمّة.

         تشير الإحصاءات التي صدرت عن منظمة اليونسكو UNESCO والتنمية التابعة للأمم المتحة UNDP إلى تدهور خطير في معدل القراءة لدى العرب بشكل عام بحيث أن الخط البياني الهابط يكاد يصل إلى أوطأ مستوى في العالم أجمع أي بمعدل "كتاب واحد لأكثر من 300.000 شخص" في المنطقة العربيّة.. يحملُ هذا التحول في عالمنا العربي مؤشراً خطيراً يؤكد التدهور الحاصل في علاقة المستهلك القارئ مع النص الأمر الذي كما ذكرنا سيكون له الأثر السلبي الأكبر على بلورة الشخصية العربية وحضورها ككيان في مطلع الألف الميلادي الثالث هذا المحفوف بكل أشكال المخاطر والتحديات كما نؤكد جميعاً وفي كل المحافل دون أن نتوقف على الأبعاد والدلالات العميقة لهذه الظاهرة الكارثية .

         وفي هذا الإطار لا بد من الإشارة إلى خط بياني آخر صاعد بالأحرى في ميدان القراءة وهو قراءة الصحف والمجلات والمطويّات الملوّنة ذات الطابع الإعلاني الترويجي.. وهذه الظاهرة تتكرسُ أكثر في العالم الثالث بشكل عام.

تجربة "كتاب في جريدة"

         كان لا بدّ لمنظمة مثل اليونسكو أن تبحث في أنجع الوسائل والأساليب التي يمكن بمساعدتها مواجهة هذا الجدب المعرفي والتصحّر. ومن هنا قامت في مبادرة أولى من نوعها والتي بدأت بشكل تجريبي في البيرو حيث قام أحد الروائيين المعروفين واسمه مانويل سكورزا بالاتفاق مع عدد من الصحف في بلاده لتنشر رواياته على شكل تابلوييد (قطع نصف الجريدة المعروف) مزودة بالرسوم والتخطيطات في الصحف اليوميّة دون أي إضافة أي تسعيرة جديدة لقيمة الجريدة. وقد نجحت هذه التجربة بشكل محدود في البيرو وبعد وفاة هذا الروائي قام إبنه بنقل التجربة إلى اليونسكو التي إعتمدتها في كامل الدول الناطقة بالاسبانية والبرتغالية (25 دولة) وأطلقتها من العاصمة المكسيكية مكسيكو عام 1990 حيث صدر العدد الأول.

         وكان نجاحها الأوليّ مدعاةً لنقلها إلى المنطقة العربيّة للتشابه الكبير بين هاتين المنطقتين في العالم. وهذا ما تم حيث نعمل اليوم بعد أكثر من عشرة سنوات محققين بذلك نجاحاً تجاوز الضعف للتجربة الأم خاصة وأن "كتاب في جريدة" يتواصل ويتطور الآن ليصبح مركزاً إشعاعيّاً عربيّاً على مدى كبير من الأهميّة

         وهنا أودُّ أن أؤكد على نقطة مهمة تصلني دائماً ملاحظات بشأنها وهي السؤال الذي يتردد باستمرار لدى المثقفين في جميع الدول العربية والقائل بـ: لماذا لا يصدر "كتاب في جريدة" على شكل كتاب؟ ذلك لأن شكل الكتاب المألوف هو بحد ذاته عائق أمام القراءة لدى طبقة كبيرة ممن أسميهم "القارئين" وليسوا بالقراء.

         وهناك فرق كبير بين الاثنين حيث أن القارئين هم كل من يعرف القراءة والكتابة ولكنهم ليسوا بالضرورة من طبقة "القراء" كما يمكننا تحديدها ثقافوياً وطبقيّاً.. أمّا القرّاء فهم المثقفون الذين يقتنون الكتب حسب أهوائهم وتوجهاتهم وأمزجتهم وهم ليسوا بحاجة إلى منظمة اليونسكو لكي تدلهم على هذا الكتاب دون سواه. ولكن المشكلة وهي أساسُ موضوعنا اليوم تتلخصُ في كون هؤلاء القراء لا يشكلون إلاّ أقليّة متضائلة في حاضرتنا الثقافية.

         أما ملامح هذه النقلة لدى الصحافة العربية فإنها واضحة وعميقة، فقد صارت الصحافة العربية مجتمعة تحت شعار منظمة اليونسكو "معهداً معرفيّاً جماهيرياً" وهذا تأسيس في نقل المعرفة تقدمه المنطقة العربية كنموذج أول في العالم تتدارس اليونسكو اليوم أهميته الرياديّة على مستوى المجموعة الدوليّة.

         هذه النقلة النوعية في الإعلام قد تبلورت أيضاً بفضل هذا التلاحم بين المشاريع العالمية الكبرى التي تقودها منظمة اليونسكو وبين شركاء لها في العالم العربي ليسوا حكومات ولا دولاً..

         يضاف إلى ذلك فإن التأثير الذي أحدثته هذه العملية الحضارية لا يمكن إحصاء نتائجه مباشرة وعلى شكل أرقام ودراسات سطحيّة.. لأننا نعلم أن البناء الثقافي يتطلب فترات طويلة كما حصل في عصر التنوير في فرنسا الذي سبق التحولات الكبرى أثناء وبعد الثورة الفرنسية والتي استغرقت قروناً.

         إننا إذا ما استمر الوضع بما هو عليه اليوم كما أشرنا، وتعمّقت الهوّة بين مصادر المعرفة والانتاج الفكري والابداعي وبين أوسع طبقة من الناس فإن مصيرنا لن يختلف كثيراً عن الهنود الحمُر الذين لم يبق لهم إلاّ الريش على رؤوسهم والألوان على جباههم الأمر الفذي يضعنا وجهاً لوجه أما السؤال؛ هل سنكون هنود الحمُر للعصر الجديد؟ وتكون بلداننا وتقاليدنا واجهات لعرض صور الفلكلور تمتع السائحين بغرائبها وتذكرهم بماضي البشرية؟.