العدد (670) - اصدار (9-2014)
لم يكن مصطلح «الصورة الشعرية» غريباً عن النقد الأدبي العربي القديم وإن لم يعرفه التراث النقدي الغربي الكلاسيكي والنيوكلاسيكي. ولعل عبارة الجاحظ (ت 255هـ) الشهيرة تتضمّن أول استخدام معروف لمصطلح «التصوير» في معرض الحديث عن الشعر: «فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير»، وعنه أخذها قدامة بن جعفر (ت حوالي 326 هـ)، الذي قال: «إذا كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة من أنه لا بدّ فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور منها، مثل الخشب للنجارة والفضة للصياغة». وكان عبدالقاهر الجرجاني (ت 471 هـ) أكثر من تعرَّض لمفهوم التصوير والصورة من النقاد العرب. وقد استند في ذلك إلى الجاحظ، وأقر باستفادته المصطلح منه بقوله: «وليست العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه فينكره علينا منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء، ويكفيك قول الجاحظ: وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير».
لـ «سماء عيسى» تجارب في الكتابة متنوّعة، يتفاعل مع اللّغة، تحويه وتضمّ وجْدَه وشوقه، يحتمي بها فتحمي لهيبه وتحوّله ناراً وهدياً، يكتب سماء عيسى شعراً أشبه بالنثر ونثراً أشبه بالشعر، فيُخلص أحياناً لجوهر الكون ولروحه اليافعة، فينطق شعرا، ويميل أحياناً إلى العقل والحبك فيكتب نثراً أشبه ما يكون بالقصص، وهو بين هذا وذاك واجِدٌ من الشعر مأخذاً ومن النثر نسقاً وفكراً، فيخرج المعنى من بين جنباته شعراً أو نثراً، أو جمعاً بينهما، فالمعنى يخرج منه بأشكال مختلفة، ولا ضرر في ذلك فهو مجرّب من أنماط الكتابة ما به يكون ويتحقّق، وكيفما خرج المعنى فتلكم هي الواسطة الأمثل.
إذا كان أحمد أمين في القرن التاسع عشر أهم مناصر للمرأة نثرا، فإن معروف الرصافي لا يقل عنه أهمية في مناصرته للمرأة شعرا، وإذا كان أحمد أمين قد أخذ حظه من الاهتمام والبحث والدراسة والانتشار داخل وخارج حدود مصر، فإن الرصافي قد حُرم من كل ذلك وبقي صوتا محركا فاعلا في المجتمع العراقي فقط، وفي حين وجد أحمد أمين من يناصره ويدافع عنه أمام معارضيه، فإن الرصافي كان وحده في الميدان، ومع ذلك لم ييأس ولم يتوقف وبقي حتى وفاته عام 1945م مدافعا عن المرأة في كل مناحي الحياة.
اللغة العربية بطبيعتها التكوينية لغةٌ مرنةٌ، وموقّعةٌ، ومتسامحةٌ ثقافياً، وثريّةٌ، وطيّعةٌ، بحكم ليونتها الوضعية والأدائية والتشكيلية، وهي طالما تفاعلت مع الآخر القادم من لغات أخرى على أكثر من مستوى، فاستوعبتْ مفاهيمَه وتمثّلتْ رؤيتَه بما انطوتْ عليه من رحابة وثقة وأصالة وقدرة على التحكّم بالوافد، وتكييفه، وتسييره على خطّها البنائيّ والصياغيّ، والتفاعل معها وفق تقاليدها اللسانية والنحوية والصرفية الناجزة، حتى أضحت من اللغات المركزية في العالم على هذا الصعيد.
في السابع عشر من شهر نوفمبر 1999، أعلنت «اليونسكو» قرارها باحتفالية «اليوم العالمي للغة الأم»، وتم تنفيذه في العام 2000 السنة التالية على صدوره، على أن يكون الواحد والعشرون من شهر فبراير يوما عالميًا للغة الأم، وكانت الاحتفالية قد سُبقت بتخصيص يوم عالمي للغة العربية، بمناسبة اعتمادها لغة رسمية في الأمم المتحدة في 18 ديسمبر 1973م. ما يثير إشكاليات عند شعوب الأرض الغيورين - وعندنا نحن العرب - على لغاتهم: ما هي اللغة الأم؟ وما هي أم اللغات؟ ولماذا تلك الاحتفالية؟ وماذا تخدم اللغات تلك الاحتفاليات؟ ولماذا انفصلت العربية عنها؟
يبدو أن العرب مسبوقون في مسألة التخلّي عن الأعمال الإبداعيّة الأولى؛ فالشاعر الفرنسي رينه شار، مثلاً، حذف أشعاره الأولى. ومن يتتبع مسيرة المبدعين العرب المعروفين – في الأقلّ – ويتحرّاها لا يعدم أن يجد أمثلة لها، وأنّها جعلت تنشط رويدًا رويدًا. فثمّة شعراء تخلّوا، بعد أن غدوا مشهورين وذوي أسماء لامعة معروفة في دولة الشعر، عن أعمالهم الشعريّة الأولى وتنكّروا لها، في حين أنّها جذر إبداعهم وأساسه، وأنّها التي حملتهم على المواصلة والاستمرار بدافع الموهبة والكفاءة والاستعداد، فولدوا – كما يقول محمود درويش – بـ«التقسيط» وليس «دفعة واحدة» شأن طرفة بن العبد في التراث العربي، و«رامبو» في التراث العالمي.
كيف نقرأ النصوص العربية بطريقة تتناسب وقواعد النحو العربي؟ بعبارة أخرى: كيف نستطيع أن نقرأ اللغة العربية ومعنا فقط قدر يسير من المعلومات النحوية؟ شغلني هذا السؤال طويلا. إذ إن الطالب الذي يدرس قواعد النحو ربما يدرس كل القواعد، ومع ذلك إذا طلب إليه أن يقرأ نصا مكتوبا فإنه يخطئ، لماذا؟ ربما لأن المعلومات النحوية التي حصَّلها تتغالب جميعها أمام الكلمة، فلا يدري ما إذا كانت هذه الكلمة مرفوعة أم منصوبة أم مجرورة أم مجزومة، ويظل الطالب يقلِّب هذه الأوجه الأربعة حتى يجيئه المدد فينطقها أخيرًا وبعناء منصوبة، وقد تكون الحالة رفعًا، وقد تكون الحالة جرًا وما إلى ذلك.
«الكاتب يبدع بلغته أدباً قومياً، أما الأدب العالمي فيبدعه المترجمون»... هذه الجملة التي قالها يوماً الروائي البرتغالي الحاصل على جائزة نوبل للآداب جوزيه ساراماجو تضع مترجم الأدب أمام مسؤولية كبيرة، وتمنحه شرفاً عظيماً. لن أتحدث هنا عن الأدوات التي ينبغي على المترجم أن يمتلكها وأن يتقن استخدامها حتى يبدع أدباً عالمياً. ولكنني أود أن أتكلم عن الصعوبات التي يواجهها في طريقه، وتحديداً عندما يترجم إلى اللغة العربية.
اتصل بي مرة الشاعر الكبير نزار قباني في ساعة متأخرة من الليل ليشكو من يد امتدت إلى مقاله، الصادر في اليوم السابق، وأمعنت فيه تخريباً أو تصحيحاً لم يخطر له ببال. كنا نعمل أنا ونزار في مجلة لبنانية واسعة النفوذ، كان هو يكتب فيها مقالاً أسبوعياً في حين كنت مسؤولاً عن قسمها الثقافي.
شكل أدب الرحلة منذ القديم للأنا الراحلة حقلاً خصباً للتعرف على الآخر المرتحل إلى أرضه، مكنه من بنية مجموعة من الصور والتمثلات Représentations والميثات Mythes حول هذا الآخر المغاير ثقافياً وسيكولوجياً وسوسيولوجياً، التي قد تكون إيجابية أحياناً، أو سلبية إن كان محركها الأيديولوجيا أحياناً أخرى. إن أدب الرحلة نظراً لغناه وثرائه، شكل على الدوام مبحثاً خصباً من مباحث الصورولوجيا «Imagologie».
لا يشعر الإنسان بمرور العمر إلا عندما تمضي الأيام مسرعة وتتراكض والشهور... وفجأة يرى نفسه قد تغير وتغيرت معه أيامه ولياليه وكل شيء فيه... سألته عن عمره وعن عدد السنوات منذ ولادته... ثم كررت سؤالي... لم يجبني بل ظل راسماً على محياه ابتسامة ليست سعيدة ولا حزينة، هز رأسه كأنه يتكلم مع نفسه، كررت عليه السؤال، أجابني: ولماذا تسألني مادمت أنا ذاتي لا أهتم؟ قلت: أريد أن أفهم قصدك، وعما يعنيه لك مرور الأيام والسنين التي تمر على كل إنسان وحيوان على الأرض... ألا تشعر بأن السنين تمر آخذة معها الفرح والبهجة... كدت أقول السعادة أيضا، وقلت أيضا: هل كنت تعرف معنى السعادة تلك الأيام التي تنعيها الآن؟
ينبغي بداية أن نحدد المقصود بالتفاعل اللغوي هنا. وهذا يقتضي أن نذكِّر بوظائف اللغة، لنتبين في أي منها يتم التفاعل المؤثر في القصِّ. وظائف اللغة، كما هو معروف، هي: التَّعبير، الإيصال، الاتصال، التفكير، إنتاج المعرفة وتقديمها للمتلقي وحفظها، بما في ذلك المعرفة الأدبية الجمالية.
من الروايات العالمية التي وُصفت بأنها «أغرب من الخيال»، وبالتالي «أقرب إلى الحقيقة» – كما ذكر ذلك أحد الكتّاب ذات مقالة – رواية كانديد Candide التي نُشرت أولاً في جنيف عام 1759 باللغة الفرنسية؛ اللغة الأم لمؤلفها الفيلسوف الفرنسي فولتير Voltaire (1694 – 1778).