ملتقيات العربي

ندوة المجلات الثقافية ودورها في الإصلاح الثقافي

تجربة النشر العلمي في مجلة (العربي)

فنون الأدب في مقال الثقافة العلمية
هل يستمر تأثير الدكتور أحمد زكي؟
د. محمد المخزنجي

         الدكتور أحمد زكي هو الأب الشرعي للثقافة العلمية في عالمنا العربي، فهو من ناحية عالم إلى درجة الأستاذية، إذ كان أستاذا مؤسسا للكيمياء العضوية في كلية العلوم بجامعة القاهرة، وأول عربي يحصل على دكتوراه العلوم.

         ومن الناحية الأخرى كان أديبا من أدباء العربية الكبار.

         ألف الدكتور أحمد زكي خمسة كتب علمية وترجم مثلها من اللغات الأجنبية الأربع التي كان يجيدها، وكتب في مجلة العربي وحدها، على امتداد مائتي عدد رأس فيها تحرير هذه المجلة.

         كان المضمون في مقالاته الثلاثمائة يستقي مادته العميقة من عمق أحمد زكي العالم، أما الشكل الذي كانت هذه المقالات ترفل فيه، فهو الفن القصصي ، وقليل من أصداء الشعر ـ للمتنبي خاصة.

         فالعنوان في مقالته العلمية كان يحيل إلى فن العنوان القصصي المثير.

         ويتكرر أسلوب أحمد زكي في صياغة المقال العلمي بمذاق قصصي، ولم يكن هذا المذاق تتبيلا مفتعلا للمعلومات العلمية، بل سردا خبيرا لكاتب قصة متمكن من فن القص بمعطيات زمنه.

         تسلل سحر أحمد زكي إلى نصوص أفضل كتاب الثقافة العلمية الذين واكبوه أو أعقبوه. والملاحظ أن معظمهم كان لهم علاقة قوية ما بفن القصة، سواء ككتاب لها أو كمتابعين.

         ظل استلهام أدوات فن القص في مقال الثقافة العلمية، ولايزال، يسجل أهدافا إيجابية في مرمى اجتذاب القراء، وفتح العسير من الأبواب العلمية لغير المتخصصين، وتحقيق معادلة المتعة والفائدة التي لا تهب أسرارها الأصيلة إلا للأكفاء والمخلصين.

         لكن هذه المعادلة نفسها جرى خطفها على يد مجموعة من أفاقي الثقافة العلمية، وهم منقطعو المعرفة بالعلم كما أنهم محدودو العلاقة أو منعدموها باللغات العالمية التي صارت تحمل عبء هذا النوع من الثقافة الذي لايشع إلا منعكسا عن منجزات علمية وتقنية صرنا بعيدين عنها بحجم ما ندعوه (فجوة معرفية).

         لقد كان فضل أحمد زكي على مقال الثقافة العلمية مما يوجب الانحناء لذكراه، وستظل أبوته الشرعية لهذا اللون مما لا يستطيع أحد نكرانه. لكن الآباء لا يظلون للأبد ماثلين في حاضر الأبناء والأحفاد، ولا ينبغي أن يظلوا حتى لا يتجمد الزمن بالأجيال جميعا، فثمة متغيرات تنبئ عن تغيير قادم في مفهوم تحرير مقال الثقافة العلمية، منها:

         ـ تسارع إيقاع الحياة.

         ـ تزاحم العناصر المتيحة للثقافة العلمية وغير العلمية عبر التقنيات الجديدة من فضائيات وشبكة معلومات عالمية.

         ـ تدفق جارف من الاكتشافات العلمية المتعاقبة.

         ـ اتساع الفجوة العلمية والتقنية بين العرب والغرب.

         ـ انتشار المدارس التي تقدم العلم في العالم العربي باللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية.

         ـ بزوغ جيل يجيد التعامل مع الكمبيوتر وكل مايتعلق به من شبكة معلومات دولية وإمكانات اتصالية هائلة وفورية مع الجديد في العالم، ومنه جديد العلم والتقنية.

         وظهور مواقع عربية على شبكة الانترنت تلاحق بعض منجزات العلم والتقنية العالميين ضمن ماتقدمه، وهذا مما عجل بظهور موجة من المحررين على الشبكة في طريقهم للتخصص، وضمن تخصصاتهم ـ حتما ـ سيكون العلم والثقافة العلمية.

         ثالثا: متغيرات لحقت بفنون الأدب، ومنها فن القصة تحديدا، أهمها: الاهتمام بالتصوير عبرأداء محايد يبتعد عن الوقفات البلاغية والاستطرادات الشعرية. واعتماد التقشف اللغوي والاقتصاد من زوايا مختلفة في السرد القصصي الحديث.

         كل ماسبق من تغيرات أنشأ نموذجا مغايرا في تقنيات التحرير في موضوعات الثقافة العلمية، وبالرغم من استمرار استخدام دوريات علمية شهيرة لصيغة القصة في المحررات العلمية من قبيل (كتب القصة) story by أو (قصة الغلاف) cover story، كما في مجلات ناشيونال جيوجرافيك وديسكوفر ـ على سبيل المثال ـ إلا أن متن المحررات وسياقها كانا ينزعان إلى شكل التقرير المسرود دون أية توابل قصصية، ومع ذلك يظل مثيرا ومشوقا لأسباب أخرى غير أدوات التشويق الأدبي القصصي، وأهمها أن المحتوى المعرفي جديد ومثير بذاته وفي ذاته. انتشرت هذه التقنية في تحرير الثقافة العلمية عبر الترجمة، وإعادة التقديم في المواقع العربية على الانترنت، ومن ثم بدأت تأخذ طريقها إلى المطبوعات، ومنها ملحق العربي العلمي الذي أشير إلى بعض فرسانه الشباب الجدد المعبرين عن المنطق الجديد في تحرير الثقافة العلمية ومنهم وليد الشوبكي وزينب غصن.

         بالطبع لم يخل التحرير الجديد للثقافة العلمية من شوائب لعل أبرزها هو عمليات السطو بالترجمة ـ بغض النظر عن كونها ترجمة دقيقة أو غير دقيقة ـ على موضوعات عالمية وإعادة تقديمها كما لو كانت تحريرا أصيلا مع إغفال الإشارة إلى كونها مترجمة. كما أن الاصطلاح الذي يشير إلى المادة المحررة بكلمة (إعداد) ويفترض أن المعد حرر مادته معتمدا على أكثر من مصدر، لايتجاوز في أحيان كثيرة حقيقة أنه من مصدر واحد، فلا هو ترجمة ولا هو تحرير، بل نوع من الاختصار والاجتزاء على الأغلب.

         الثقافة العلمية، شأنها شأن العلم في عالم اليوم، تتفجر بفيض جارف من المعرفة، ولم نعد مشاركين في إنتاج هذه المعرفة، ولا حتى قريبين من منابعها كما كان الدكتور أحمد زكي وجيله، ولا بأس أن نكون مستهلكين وناقلين لهذه المعرفة، فقد يكون ذلك استنهاضا لهمة الرغبة في المشاركة. لكن علينا ونحن نفعل ذلك أن نعترف بالمتغيرات، ونكون أصلاء سواء ترجمنا أو أعددنا أو حررنا، حتى يفتح الله علينا ونلحق بركب أصحاب المصادر الساطعة في العلم والتقنية، ولانكتفي بمجرد الحبو في الظلال.