ملتقيات العربي

ندوة المجلات الثقافية ودورها في الإصلاح الثقافي

الإعلام العلمي العربي

الإعلام العلمى العربى وقضايا التنمية
رؤية معلوماتية
أ. جمال محمد غيطاس

         منذ عدة سنوات تحدث المفكر الأمريكى المعروف ألفين توفلر عما أسماه (صدمة المستقبل)، وأصدر فى ذلك كتابا مهما بالاسم نفسه، كان من بين أفكاره الأساسية أن العلوم والتكنولوجيا بمختلف أفرعها تحولت إلى أداة تضرب الكثير من الأسس القديمة والتقليدية السائدة بالمجتمع البشرى وتعيد تشكيلها وفق مفاهيم ومنظومات جديدة، بعدما ارتقى تأثير العلم والتكنولوجيا إلى مستوى إعادة صياغة السياسة والاقتصاد والصراعات وجهود التنمية وأصبح لاعبا أكبر فى ظواهر الفقر والغنى.

         هكذا أصبحت لغة العلم والتكنولوجيا هى صاحبة اليد العليا فى لعبة الأمم المستمرة بلا توقف أو هوادة، وكان من المنطقى أو الطبيعى أن تحرص المجتمعات المختلفة على أن تبنى وتنشر بين أكبر قطاع ممكن من شعوبها ثقافة علمية مناسبة وسليمة تعلى من قيمة وشأن العلم والعلماء.

         فظهر الإعلام العلمى الجماهيرى الذى يمكن تعريفه بأنه (إعلام يقدم محتوى للجماهير ـ عبر الصحف والمجلات وبرامج الراديو والتلفزيون، وأخيرا مواقع الانترنت ـ يتعلق بالقضايا العلمية ويتابع تطوراتها وينشر مواد تسهم فى إعلاء ثقافة العلم وقيمته داخل المجتمع).

         وفى الدول المتقدمة ـ صانعة العلم ومنتجته ـ يحظى هذا النوع من الإعلام باحترام كبير وينظر إليه كوسيلة حيوية من وسائل تقدم المجتمع وقدرته على مواجهة التحديات.

         وسط التحديات العاتية التى تفرضها الثورات العلمية المتلاحقة والمكانة الرفيعة التى يحتلها الإعلام العلمى لدى الدول المتقدمة.. يبدو الإعلام العربى مترنحا بين مطرقة تراجع قيم العلم والتكنولوجيا عموما داخل المجتمعات العربية، وعدم الاعتداد بالثقافة الجادة، وسندان الفقر فى الإمكانات والكوادر والضعف أمام طوفان الإعلام الترفيهى والاستهلاكى، ويحاول الإعلام العلمى العربى بصعوبة بالغة إيجاد مخرج من حالة الترنح يحفظ له البقاء على وجه الحياة.

         إن المؤشرات المتاحة تجعلنا نقول بقدر كبير من الاطمئنان إن حجم الإعلام العلمى العربى يعد ضئيلا للغاية ولا يكاد يذكر إذا ما قورن بحجم الإعلام الترفيهى مثلا، فالإصدارات العلمية المتخصصة إما غير موجودة أو فى أحسن الأحوال لا تتعدى أصابع اليد الواحدة حتى داخل أكبر بلدان العالم العربى، والمساحات المخصصة لأبواب العلوم فى الصحف والمجلات العامة ضئيلة، وعادة ما تكون هى الأولى التى يتم تأجيلها أو حذفها عند أى طارىء.

         وإذا ما نظرنا إلى المحتوى الذى يقدمه الإعلام العلمى العربى فسنجد انه يتبنى أكثر من خطاب أو منهج فى العمل والممارسة الإعلامية، وتحديدا هناك خمس من لغات الخطاب أو المناهج هى: الخطاب التعليمى والخطاب التسويقى والدعائى، والخطاب التقنى الصرف للمحترفين والمتخصصين، وخطاب المرايا: مرآة عاكسة لمحتوى وسائل الإعلام الأجنبية عبر الترجمة، والخطاب الإخبارى القائم على الطرفة، والذى عادة ما يعرض المعلومات عن الروبوت مثلاً على أنها مجرد ماكينات عجيبة تحاول تقليد الإنسان فى المشى والجرى والضحك وخلافه، دون التطرق مطلقا إلى كون هذا المنتج الفكاهى ـ من وجهة نظر بعض وسائل الإعلام العربية ـ يمثل قمة الإبداع والبحث العلمى الذى تلاحمت فيه علوم الالكترونيات مع الذكاء الاصطناعى مع البرمجيات وغيرها من العلوم الأخرى.

         لم تأت مناهج الخطاب السابقة فى الإعلام العلمى العربى مصادفة أو من الفراغ، ولم تكن وليدة أصحاب القرار داخل وسائل الإعلام العربية وحدهم، بل كانت انعكاسا تلقائيا لوضعية العلوم والتكنولوجيا داخل المجتمعات العربية نفسها، فهذه المجتمعات لا تمتلك حتى الآن رؤية واضحة متكاملة تحظى بقبول وفهم مشترك وتوافق عام من قبل المجتمع والدولة وجميع الأطراف المعنية حول قضايا العلوم والبحث العلمى ودور كل طرف حيال هذه القضية وما عليه من واجبات وما له من حقوق، فهذه المجتمعات ـ أو لنقل الدول ـ ليس لديها تصور واضح وقناعات راسخة بأهمية ودور العلوم والتكنولوجيا فى قضايا التنمية، ومن ثم فهى لم تضع قضايا العلوم والبحث العلمى فى مكانة متقدمة على جدول اهتماماتها الوطنية، ولم تحدد لنفسها سياسات واضحة للعلوم والبحث العلمى تنعكس على برامج التعليم والتصنيع والزراعة والإعلام والاستثمار وغيرها، ولم تحسم هذه المجتمعات خياراتها فيما إذا كانت ستتبنى ثقافة الاستيراد أم الإبداع المحلى والتصنيع المعتمد على قدرات البحث والتطوير الذاتية، وهل تسعى لبناء اقتصادات قائمة على الاستقلال الذاتى أم الدوران فى فلك اقتصادات عالمية أخرى، ولا تزال هنالك عشرات وعشرات الأسئلة غير واضحة الإجابة.

         من هنا.. كان طبيعيا أن تنتقل عدوى عدم وضوح الرؤية وقلة الاهتمام من المجتمع والدولة إلى وسائل الإعلام، فأصبح الوضع مهيئا لظهور مناهج الخطاب السابقة التى أفرزت بدورها حالة من الالتباس فى العلاقة بين الإعلام العلمى العربى وقضايا التنمية بالبلدان العربية المصنفة على أنها بلدان نامية، وكان من مظاهر هذا الالتباس ما يلي:

         ـ أصبح لدينا فى العموم إعلام علمى خجول مقطوع الصلة تقريبا بقضايا التنمية ويميل إلى ثقافة الاستكانة، ويتصور أن دوره نشر المحتوى العلمى وكفى دون رؤية نقدية أو موقف من أية قضية، فغابت عن ساحة الإعلام العربى فكرة الاشتباك ـ اتفاقا واختلافا ـ مع الواقع التنموى والتعليمى والثقافى الصعب الذى تعيشه البلدان العربية، ومن ثم أصبح من النادر أن تجد إعلاما عربيا علميا قد تناول قضايا علمية رصينة ذات صلة بقضايا تنموية حقيقية، وأثارا حول نقاش وجدل خلاق داخل المجتمع بالاتفاق والاختلاف والدعم والمواجهة.

         ـ وجود طغيان واضح فى حق المصدر فى أن يقول مقابل حق المتلقى فى أن يعرف، فالإعلام العلمى العربى لا يجتهد كثيرا فى التعرف على ما يحتاج إليه المتلقى، بل يخضع فى أغلب الأحيان إلى ما توفره له مصادره من محتوى ويقدمه للقارىء بغض النظر عما إذا كان هذا هو المحتوى هو الذى يحتاج إليه القارىء فعلا أم لا، ولذلك يلاحظ أن المحتوى المقدم ـ خاصة لدى من يتبنون المنهج الدعائى ومنهج المرايا ـ لا يقيم وزنا لقارئه بالقدر الذى يوليه لمصدره.

         الخلاصة أن مناهج الخطاب الخمسة السابقة قدمت بدائل ناقصة لا تلبى متطلبات واحتياجات التنمية البشرية بالمجتمع العربى فى المرحلة الحالية، وأفرزت أوضاعا لا تسمح للإعلام العربى بأن يقدم أفضل ما لديه، ولا توفر لجمهور المتلقين وصانع القرار والقارىء العادى فرصة الحصول على حقه من الإعلام العلمى، ولو شئنا الدقة فإن الضحية هنا هو: الإعلام كمهنة ودور والجمهور كمستفيد وهدف.

         الإعلام العلمى التنموي الحقيقي هو نموذج أو منظومة قاعدتها الأساسية الإيمان الراسخ بأن العلوم والتكنولوجيا ليست قضية مهارات يتعلمها الأفراد، ولا سلع ومنتجات يجرى تدويرها بالأسواق ولا أمور يهتم بها خاصة الخاصة ولا طرائف يتم تداولها بالصدفة ولا حالة انبهار بما يخرج من مختبرات الآخرين، بل هى قضية تنموية قومية بالدرجة الأولى، لا تقل فى أهميتها وشمولها واتساعها بالنسبة للمجتمع العربى عن قضايا الحريات والديمقراطية والإصلاح السياسى والإنماء الاقتصادى وقضايا الأمن القومى، وذلك لكونها أداة فعالة للتنمية البشرية فى أعمق وأعلى درجاتها.

         عند تفكيك وتحليل هذه الفكرة واستخدامها فى بناء نموذج أو منظومة الإعلام العلمى التنموى، سنجد أنه من المنظور التنموى هناك ثلاثة أطراف لها علاقة بوضعية قضايا العلم والبحث العلمى فى البلدان العربية وهى:

         ـ الطرف الأول: دول ومجتمعات يفترض أن لديها خططا تنموية.

         ـ الطرف الثانى: قاعدة ما من البحث العلمى والعلميين.

         ـ الطرف الثالث: مجتمع واسع يضم ملايين المواطنين يحتاجون بشدة للتعلم والمعرفة.

         ولو تصورنا منظومة الإعلام التنموى كمثلث فسنجد أن هذه الأطراف هى نفسها أضلاعه الثلاثة التى تشكل معا السياق العام الخارجى لمنظومة الإعلام العلمى التنموى، أما منطقة قلب المثلث أو نقطة المنتصف فى المسافة الفاصلة بين الأطراف الثلاثة فيحتلها ويقف فيها الإعلام العلمى ليقوم بالربط بين الأطراف الثلاثة من خلال تناول خطط التنمية بالعرض والمناقشة والنقد الموضوعى الحر وابراز دور العلم والتكنولوجيا فيها.

         هكذا تقدم المنظومة التنموية للإعلام العلمى العربى إطارا رحبا واسع الأفق بإمكانه استيعاب جميع مناهج الخطاب السابقة ولكن بعد إعادة صياغتها وفلترتها من شوائبها ونظمها فى رؤية أكثر جدية وأعمق أثرا.